من البغيض حقاً أن يتم تعطيل إدانة البشاعات، واحدة بواسطة أخرى. هكذا يجادل الذين تزعجهم تصريحات المسؤولين الأوروبيين بخصوص ما يجري في إيران قائلين: «ولماذا لم تتحركوا إزاء ارتكابات إسرائيل؟». وهو منطق لا يفعل أكثر من المساعدة على تسييد حالة من العدمية تبيح في نهاية المطاف كل المجازر، وتدفع بالوضع بمجمله إلى أسفل، بعكس ما تظن نفسها فاعلة إذ (تبدو وكأنها) تناهض الكيل بمكيالين. ولا يعني ذلك بتاتاً أنه لا مشكل في السلوك السياسي الرسمي ذاك، فانتقائيته تطيح بما يمكن أن يصون فعاليته: استناده إلى معيار قيمي مشترك. وبافتقاده لهذا، يصبح أي موقف مجرد محصلة حساب مصالح، ومفتوحاً بالتالي على صراع لا هوادة فيه، ولا ضوابط أيضاً! وهو ما يقصده الناس حين يشيرون إلى «السياسة» بمزيج من الريبة والاحتقار، لأنها في نظرهم تنتمي إلى عالم كواليسي غامض، يقول غير ما يقصد، ويموّه بكلام منمق أهدافاً دنيئة. أما رديف ذلك فهو التسليم بالقوة. فمن امتلكها حق له ما شاء. ويدافع السينيكيون عن شيوع هذه الحالة معتدّين بأنها تعبّر عن واقع الناس وعلاقاتهم، وأن سواها وهمٌ قد يكون جميلاً، إلا أنه «إنشاء»، أي مجرد ثرثرة. ومن ينكر ذلك يكذب بنظرهم، وإلا فهو ساذج. وهم لا يفرقون أبداً بين الوهم والطوبى، بوصف هذه الأخيرة الحلم الذي يسبق بالضرورة أي تحقق، أو هي الأفكار التي تجسد ما يصبو إليه الناس بالفطرة... طوباويون، إذاً، يطلقون هذه الأيام حملة لمقاطعة إسرائيل في العالم. وفي الحقيقة، بدأت حركات تدعو لمثل هذه الحملة منذ أربع سنوات على الأقل، عام 2005، إثر صدور نداء وقعته 170 جمعية فلسطينية يدعو إلى «مقاطعة إسرائيل، وسحب التوظيفات منها، ومعاقبتها». وقد تفاوت تقبل هذا النداء، حيث تقدمت الخطوات التطبيقية له في بعض البلدان (والأوساط، كقرار «مجمع الكنائس العالمي» تبني الدعوة إلى سحب كل التوظيفات من إسرائيل)، بينما بقيت الحالة العامة في بلدان أخرى متهيبة، بالأخص من بنده الأول الذي يحث على مقاطعة إسرائيل على غرار حملة مقاطعة نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. وكانت حجة المتحفظين أن مثل تلك المقاطعة توقظ شياطين العزل الذي مورس ضد اليهود في أوروبا، وبالأخص من قبل النازية. ولكن الهجوم البربري الذي وقع على غزة مطلع العام، اسقط هذه التحفظات، ودفع بالحملة بجدية إلى الأمام، بوصفها الأداة المتوافرة لممارسة ضغط فعال، ليس على إسرائيل فحسب، بل على السلطات في أوروبا والعالم، كما على المؤسسات الدولية، لإنهاء حالة الإعفاء الكامل من المحاسبة الذي تتمتع به إسرائيل. وقد أزال آخر العقبات حيازة نتنياهو وصحبه على الأغلبية في الانتخابات النيابية الأخيرة، وتشكيله حكومة يحتل فيها شخص ك «ليبرمان»، كان حتى الأمس مضرب مثل في الكاريكاتورية الفاشية المبتذلة، منصب نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية. وراح مناضلون تقدموا في العمر يساعدون فتية في نبش الملصقات والبيانات التي كانوا قد أصدروها في تلك السنوات، لاستلهامها في الحملة الجديدة، مع اعتبار كل الفوارق، ما هو جلي وما قد يفاجئ: كالملصق الذي ذاع صيته في منتصف السبعينات من القرن الفائت، وبات رمز حملة مقاطعة نظام التمييز العنصري في جنوب إفريقيا، وهو يظهر يداً بيضاء تعصر رأس طفل إفريقي أسود كما لو كان نصف برتقالة. وكان الملصق يدعو إلى مقاطعة برتقال «أوتسبان»، معادل ماركة «يافا» التي تصدرّها إسرائيل فاكهة وعصيراً إلى العالم. رأى الفتية الذين يتولون الحملة ضد إسرائيل أن الملصق شديد المباشرة، وأن استخدام الدماء لم يعد مقبولاً في الملصقات! وقد كانت فرنسا آخر قلاع التحفظ على الانخراط في حملة مقاطعة إسرائيل (إذا ما استثنينا ألمانيا لأسباب جلية). وكان الممانعون يوردون حججاً تبدأ من أن تقليد العصيان المدني بكل أشكاله ليس مترسخاً في فرنسا، وتنتهي بأن البلد قد عرف قدراً هائلاً ومحرجاً من الوشاية باليهود في الحرب الثانية...رغم أن نداء 2005 الفلسطيني قد أيدته حركات إسرائيلية معادية للكولونيالية، ومنظمات يهودية تناهض الصهيونية وإسرائيل. ولكن هذا التحفظ - الذي تشقق مع غزة – خبا مع بروز مسألة خطيرة ستتسبب في الفترة المقبلة بكثير من التوتر: لقد اتخذ مجلس منطقة في جنوبفرنسا قراراً بتحويل مرفأ صغير للصيادين إلى «بوابة لاستيراد المنتجات الزراعية الإسرائيلية إلى كل أوروبا»، بحسب بيان المجلس إياه، الذي حدد أن كلفة تحويل مرفأ قرية «سيت» إلى موقع حصري لشركة «أغريسكو» الإسرائيلية سيكلف 300 مليون يورو (للتدليل على عظمة شأنه)، ويوفر 200 وظيفة، في محاولة لتملق حاجة الناس إلى العمل. ولكن أول من استجاب للدعوة إلى رفض القرار وإبطاله، كانت «الكونفدرالية الفلاحية» في تلك المنطقة، ثم على النطاق الوطني. وقد أوضحت هذه النقابة أن إغراق السوق بالبضائع الزراعية الإسرائيلية رخيصة الثمن (لأنها مدعومة من الدولة ولأن معظمها منتج في المستوطنات)، يسيء إلى الإنتاج المحلي ويتسبب ببطالة أكبر من الوظائف التي سيوفرها العمل في المرفأ الجديد. هذا بخصوص حساب المصالح! ولكن النقابة نفسها قالت أيضاً أنها لا يمكن أن تعتبر القيم شيئاً نافلاً يمكن التضحية به في سبيل المصالح، وأنها لكانت اتخذت الموقف نفسه في كل الظروف، فالأمر يتعلق بتحديد خيارات للحياة، لنوعيتها المرتجاة ولما يعتبر بالتالي نمواً، ولما يعتبر مصالح بالمعنى العميق للكلمة وليس بالمدى الآني الربحي المباشر. وهكذا بدا البيان المتعلق بمناهضة «اغريسكو» ومشروع مجلس المنطقة، والذي وقّعت عليه أكثر من ثمانين هيئة هي مزيج من نقابات وأحزاب وجمعيات متنوعة، حاملاً لفلسفة قلما تخصص لها البيانات السياسية حيزاً، بينما تظهر الأزمة الطاحنة التي تلقي بالناس إلى البطالة والبؤس، أن الحاجة لمثل هذه المقاربة «الطوباوية» لم تكن يوماً بالقوة التي هي عليها اليوم. هنا يتقارع منطقان. وتبدو حملة مقاطعة إسرائيل (ومساندة الحق الفلسطيني) تتجه لاحتلال مكانها داخل مقاربة شاملة، سياسية بمقدار ما هي قيمية. ويبدو هؤلاء الذين يعتبرون أن من يناهض إسرائيل فعليه تأييد أعدائها، يبدون بائسين حقاً. وهذه الإشارة في الختام تحيل إلى مقدمة هذا المقال، فعسى اتضح القصد!