هي «بلد الأفكار» كما سماها رئيسها السابق «هورست كولر»، وهي التي أنجبت للبشرية العلماء والمخترعين والعباقرة في كل المجالات العلمية والنظرية، ومنها خرج أينشتاين بنظريته النسبية التي غيرت مسيرة العلم الحديث، ومن أرضها أطلق نيتشة نظرياته الفلسفية المثيرة، ومن وحي طبيعتها أبدع جوتة أروع مسرحياته وقصائده، وفي مختبراتها سيطر الطب الحديث على الجراثيم والأوبئة بفضل تجارب عالمها العبقري روبرت كوخ، ولن ينسى العالم أيضا أن ابن ألمانيا جوتنبرج هو الذي ابتكر أول مطبعة في التاريخ. لكن هذه الشهرة العلمية والصناعية التي اكتسبتها ألمانيا، ربما تكون السبب في حرمانها من التربع على عرش الوجهات السياحية لفترة طويلة، مع أن هذه الدولة التي تقع في قلب أوروبا تتمتع بطبيعة خلابة وساحرة دفعت اليونسكو إلى إدراج أكثر من 30 موقعا فيها في قائمتها المعتمدة لحماية التراث الإنساني، فالكنوز الطبيعية والتراثية والحضارية التي تتوزع في أنحاء البلاد، تعكس التنوع السياحي المترف الذي تزخر به ألمانيا. التخصص حتى في السياحة قد يكون الأمر محض مصادفة أن تستأثر كل مدينة في ألمانيا بشيء من السحر، أو ربما هو الإيمان الجرماني بأن التخصص مفتاح النجاح والإبداع، يبد أن هذا لا يعني عدم اشتراكها جميعا في الحد الأدنى من مقومات الجمال وشروط الروعة، فهذه المدن المتناثرة على رقعة البلاد تجمع في المجمل بين الأصالة والحداثة، وبين الطابع التاريخي العريق والمسحة المدنية المتطورة. وإذا بدأنا من العاصمة برلين، مدينة الموسيقى والمسارح والمهرجانات، فإن نزهة بالقارب قد لا تكفي لاستطلاع العظمة التي تتجلى في هذه المدينة الضخمة، لكنها ستتيح لك المرور تحت بعض جسورها الشهيرة التي بلغت أكثر من 1700 جسرا، أو ربما يستوقفك واحد من المهرجانات الثقافية والموسيقية والفنية التي تقام في أرجائها على مدار العام، وإن كنت ممن يهتمون بمشاهدة أكبر عدد من الكائنات الحية حبيسة أقفاص في مكان واحد، فالعاصمة تفخر بأنها تضم أقدم حديقة حيوان في العالم. وقد تكون مدينة هامبورج خيارا مناسبا للأسرة، فنشاطاتها الترفيهية تتنوع بين ركوب الزوارق على نهر الألستر وإطعام الفيلة في حديقة الحيوانات هاجن بيكس، ومراقبة القطارات في «مدينة العجائب» الترفيهية. ومع أن السمعة الصناعية والتجارية تطغى على مدينة ميونيخ، كونها تحتضن المقر الرئيسي للشركات الألمانية الكبرى، مثل بي إم دبليو وسيمنز، إلا أن هذا الانطباع السائد يتبدد مع السير في ساحاتها وميادينها التي ما زالت تحتفظ برائحة العصر الملكي، بينما تتوزع المباني العتيقة على جنباتها لتعكس روعة المزج بين فنون العمارة المختلفة من الفن القوطي إلى الباروكي، مرورا بالكلاسيكي وانتهاء بالأسلوب المدني المعاصر. والغريب أن الألمان ينظرون إلى ميونيخ، رغم كل ما يقال عن مدنيتها السافرة، على أنها منارة للثقافة والأدب، كونها تحتضن أكثر من 300 دار نشر وعددا من محطات الإذاعة والتلفزة، إلى جانب مئات المتاحف والمعارض الفنية. وإذا كان السائح يميل إلى زيارة الشوارع الضيقة والمتعرجة والبيوت التقليدية، فإن مدينة بريمن هي المحطة الأمثل. أما رجال الأعمال والباحثون عن الفرص الاستثمارية فلن يجدوا أفضل من زيارة فرانكفورت، مدينة المعارض الشهيرة والعاصمة الاقتصادية للبلاد، بينما سيجد الباحثون عن المناظر الطبيعية ضالتهم في جزيرة «روجن» بصخورها الطباشيرية، وجبال «تسوعشبتس» التي تمثل الجزء الألماني من جبال الألب الشاهقة. سكينة الريف والتاريخ بعيدا عن صخب المدن، قد يفضل السائح أن يهيم بنفسه في أرجاء البلاد طمعا في اكتشافها، فيبدأ من الجنوب حيث «الغابة السوداء» التي تبلغ مساحتها أكثر من 12 ألف كم2، وتخترقها أنهار وبحيرات فاتنة، وهي تضمن لزائرها فسحة من الاسترخاء والرومانسية، أو فرصة للمشي على الممرات التي هيئت لهذا الغرض. وفي بحيرة «شيمسي» التي تقع في إقليم بافاريا في الجنوب الشرقي من ألمانيا، قد يحبس الزائر أنفاسه حين يمر السحاب قريبا من متناول دهشته! فالبحيرة ترتفع عن سطح البحر أكثر من 500 متر، وتحرسها جبال خضراء شامخة تبيضّ كلما أقبل عليها الشتاء. وما دمت في بافاريا، فلا تفوّت على نفسك زيارة الفن والتاريخ في قلعة فورزبورج، ثم عرج على بقية القصور والقلاع التي بنتها أيد ألمانية على فترات متقطعة من التاريخ، ولا تزال كل واحدة منها تحكي قصتها الفريدة. ولهواة الرياضات المائية، توفر ألمانيا جنة مائية طبيعية لمزاولة التزحلق الشراعي أو التجديف فوق الأنهار سريعة الجريان، أو السباحة في البحيرات مثل بحيرة «بودنزي». مرونة التنقل يهتم المسافرون دائما بمستوى خدمة النقل التي يوفرها البلد المضيف، ولا يمكن لزائر ألمانيا أن يقلق من هذه المسألة، فهناك شبكة تنقل فاخرة تتيح اختيارات شتى تتنوع تبعا لنوعية الرحلة التي يقصدها المسافر. ومن هذه الوسائل استخدام السيارة، إذ تعد الطرق السريعة المتطورة خيارا صائبا لكل من يحمل معه أمتعة كثيرة ويريد مرونة في السفر برفقة العائلة. أما من كانت وجهته المدن الريفية أو القلاع الأثرية والجبال العالية، فعليه أن يستقل القطار على شبكة السكك الحديدية بمحطاتها التي تنتشر في جميع أنحاء البلاد، والقطار يتيح لركابه أن يستمتعوا على مهل بالمشاهد الخلابة التي يمرون بها. وسيكون ركوب الباخرة نوعا من التغيير عن نمطية الحياة الروتينية، ولا سيما من كانت وجهته إلى شواطئ بحر البلطيق أو نهر الراين، فشركات النقل المحترفة تنظم رحلات ماتعة وتؤمن وجبات لذيذة ليتفرغ السائح لشؤون بهجته، كلما توقفت الباخرة في محطاتها البديعة. وما دمنا ذكرنا الوجبات اللذيذة، فينبغي الإشارة إلى المطاعم الفاخرة التي تتميز بها مدن ألمانيا وتتيح لك تجربة المطابخ العالمية كلها، من الصين والهند وإيطاليا وفرنسا، حسبما تشتهيه نفسك