في غمرة المتغيرات التي يعيشها العالم الإسلامي والتي تتصاعد وتيرتها يوماً بعد يوم، لا ينبغي أن تصرفنا الأحداث المتلاحقة، على رغم خطورتها، عن الاهتمام بقضايا النهوض بالجامعات وتطوير العلوم والتكنولوجيا والابتكار التي هي مصانع للتقدم وهي الأساس للتطوير والتحديث والإصلاح. فقد عقدت في الرياض أخيراً، الدورة الاستثنائية للمؤتمر الإسلامي لوزراء التعليم العالي والبحث العلمي، تنفيذاً لقرار صادر عن الدورة الخامسة للمؤتمر المنعقدة في كوالالمبور، في شهر تشرين الأول (أكتوبر) من السنة الماضية، وذلك من أجل النظر في وثيقة تأسيسية على قدر كبير من القيمة والأهمية، هي «مؤشرات الأداء الرئيسَة: دليل تقويم جامعات العالم الإسلامي وتحسين جودتها»، تستدعي إيلاءَها القدرَ الكبيرَ من العناية والاهتمام؛ لأنها بمثابة خريطة طريق نحو النهوض بالتعليم العالي وتطوير البحث العلمي والارتقاء بالجامعات من النواحي كافة، في إطار رؤية شمولية تنفذ إلى الدور المنوط بالجامعات، باعتبارها مصانعَ للعقول المبدعة، ومحاضنَ للكفاءات المنتجة التي تبني الحاضر والمستقبل، على أساس من العلم الذي لا يتوقف عن التطور، ومن المعرفة التي تتسع دوائرها وتمتدّ آفاقها. إن هذه الوثيقة التي اعتمدها المؤتمر، بعد مناقشتها، تنطلق من رصدٍ علميٍّ شامل لأوضاع الجامعات في الدول الأعضاء، التي تستلزم الوقوف عندها لدراستها وتحليلها، ومن أجل أن توضع في ضوئها، الحلول المجدية والمثمرة للمشاكل الصعبة المعقدة التي تعاني منها جامعاتنا ومعاهدنا العليا. فدليل التقويم الذي تشتمل عليه هذه الوثيقة، يقوم على أسس علمية، أشرف على وضعه خبراء من ذوي المعرفة المعمقة، والتجربة الطويلة، والدراية الواسعة بقضايا التعليم العالي، بصورة عامة. وترمي عملية تقويم أداء جامعات العالم الإسلامي من النواحي كافة، إلى تحسين جودتها، وتأمين اعتمادها، وتحقيق الأهداف الإنمائية المرسومة لها في «استراتيجية تطوير التعليم العالي في العالم الإسلامي» التي اعتمدها المؤتمر في دورته الثالثة المنعقدة في الكويت في 2006. فهذا الدليل العمليّ لتحقيق هدفٍ استراتيجيّ، الذي يُعدُّ حجرَ الأساس في الأهداف التي تعمل الجامعات عموماً لتحقيقها، سيكون وسيلة فعالة للنهوض بالتعليم العالي، وتعزيز دعائم التنمية الشاملة المستدامة في العالم الإسلامي. إن الأوضاع القلقة التي يمرّ بها العالم الإسلامي في هذه المرحلة، تدعونا جميعاً، مسؤولينَ ونخباً ثقافية وفكرية وأكاديمية، إلى البحث عن حلولٍ واقعية للمشكلات القائمة، وإيجاد مخارج آمنة من الأزمة التي تؤثر سلباً في تنمية المجتمعات الإسلامية وفي أمنها واستقرارها. ولا شك في أن العمل في مجال تطوير الجامعات وتحديث أدائها للمهام المنوطة بها، والسعي من أجل تحسين جودتها، هو من أهم عوامل بناء مجتمع المعرفة وتطوّره. فنهضة العالم الإسلامي لن تقوم إلا على أساس من مجتمع المعرفة الذي يكون فيه للعلم والتكنولوجيا الدورُ الرئيسُ في التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة المستدامة التي تمتد آثارها إلى الأجيال القادمة. والطريق نحو ترسيخ قواعد مجتمع المعرفة تبدأ من تطوير الجامعات. ولن يتم هذا التطوير على النحو المنشود، إلا بتحسين الجودة وفقاً للمعايير الدولية المعتمدة. وهو الأمر الذي يشكل تحدياً قوياً للجميع، لا بدّ من التصدي له بالتضامن والتعاون وتنسيق الجهود وتضافرها، ومواجهته بالتخطيط العلمي القائم على الأسس الثابتة التي تُعتمد في أرقى جامعات العالم. فلن تقوم نهضة للعالم الإسلامي، إلا على هذا الأساس المتين الذي وضعت لبناته الأولى في الرياض، في المؤتمر الإسلامي الأول لوزراء التعليم العالي والبحث العلمي المنعقد عام 2000، والذي أرسيت إحدى قواعده المهمة في الدورة الاستثنائية للمؤتمر في الرياض، التي يأمل العالم الإسلامي أن تكون فاتحة عهدٍ جديدٍ من التعاون المثمر وتضافر الجهود بين دول منظمة التعاون الإسلامي، من أجل بناء القاعدة المتينة للتقدم العلمي، والرقي المعرفي، والازدهار الاقتصادي القائم على المعرفة التي تصنع في الجامعات. ومن حقنا أن نتفاءل خيراً بالنتائج الإيجابية التي تمخضت عنها هذه الدورة الاستثنائية للمؤتمر الإسلامي لوزراء التعليم العالي والبحث العلمي - وسْط هذه الغيوم التي تملأ سماء العالم الإسلامي، وننتظر أن تجد طريقها للتطبيق الفعلي في شكل سريع وفعال حتى نتغلب على الصعاب التي تعترض طريقنا، ونقيم دعائم التقدم الذي يضمن لشعوبنا النموَّ المتوازن والرخاء العام. والواقع أن المنافسة في العلوم والتكنولوجيا والابتكار بين دول العالم الإسلامي مطلوبة بإلحاح شديد، فهي مظهر من مظاهر التعاون والتكامل والتنسيق في مضمار البحث العلمي، لأن التقدم في ميادين البحث العلمي في كل حقول العلوم والتكنولوجيا، يعزز المكاسب الوطنية، ويدعم التنمية الشاملة المستدامة، ويرسخ قواعد السيادة في عالم تهب فيه رياح العولمة في مجالات الحياة كافة. * أكاديمي سعودي.