1 لن أكابر ولن أتمحك. سأقول لكثير من القراء الذين عتبوا على عنوان مقالتي الأسبوع الماضي: إني أخطأت. لم يكن هدفي من عنوان («جريمة» الإعجاز العلمي في القرآن) هو الإثارة والجذب. كان هذا بحق جزءاً من الهدف، لكني كنت أرمي من العنوان إلى وصف الحالتين المتناقضتين في هذه القضية: الذين يميعون القرآن أو الذين يجمدون القرآن! لكني من حيث لم أنتبه تحيّز العنوان إلى فئة من دون أخرى، وكان الأجدى لو أني استخدمت (خطيئة) بدلاََ من (جريمة)، كان سيكون أكثر وضوحاََ وأقرب إلى الإنصاف. وهو ما كنت أشرت إليه في متن تلك المقالة في المقطع: (المرحلة الثالثة: هي التي نتفاءل بها الآن، وهي مرحلة وسط بين خطيئة تكريس القرآن للإعجاز... وجريمة نفي الإعجاز عن القرآن). 2 حين فكرت بكتابة تلك المقالة عن الإعجاز العلمي في القرآن، قلت متسائلاً: من سيقرأها؟! بعد أن نسي الناس هذا الموضوع ووضعوه في رفوف الذاكرة البعيدة! لكني فوجئت حين رأيت الردود والتفاعل والمدح والذم والتبجيل والتسفيه! هذا التفاعل المفاجئ أشعرني بأمرين: الأول: هو مدى الاهتمام الوافر لدى الناس حتى الآن بموضوع الإعجاز العلمي، على رغم الانطباع الأولي الذي لدى كثير منا بأنه قد أنطفأ وهجه الذي كان الشغل الشاغل للمجتمع في وقت مضى. الثاني: وهو يفسر الأول ضمنياً، الاحتقان الذي لمسته لدى كثير من القراء والنقاد الذين فرحوا بأن أحداََ كتب أيضاََ ينتقد الإفراط في جعل باب الإعجاز مفتوحاََ لمن هب ودب، بل إن بعضهم من فرط احتقانه تمنى لو أني لم أقل بفتح الباب على مصراع واحد بدلاََ من مصراعين، بل ليتني دعوت لإغلاقه على مصراعيه! الناقد (دوماًََ) الصديق الدكتور حمزة المزيني أرسل إليّ مقالته اللاهبة: «العَجَزَة»، التي كان قد نشرها في صحيفة «الوطن» السعودية في 14 تموز (يوليو) 2005، ويرى فيها أن الاشتغال والانشغال بموضوع الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنّة النبوية المطهرة بهذه الطريقة هو حيلة العاجز ودليل غلبة الخطاب الوعظي على الخطاب العلمي، وهو يسوغ هذا الرأي القاطع عنده بأن الإعجاز العلمي ليس حكراً على القرآن الكريم ولا على علماء المسلمين، فهو يورد في مقالته شواهد لعلماء مسيحيين يستنبطون دلائل إعجازية من الإنجيل، واليهود كذلك يفعلون مع التوراة. بل إن الأمر يتجاوز الأديان السماوية إلى البوذية التي يستشهد بعض أتباعها بدلائل إعجازية من الكتب البوذية «المقدسة»! ليس المزيني وحده الذي قال بهذا الموقف «المزعج!»، بل هناك آخرون وإن كانوا قلّة، جاهروا بهذا الموقف الحدّي الجريء. وهنا سأستحضر ما ذكرته في مقالتي الأولى، من أن توظيف الإعجاز العلمي إذا كان لمواجهة المادية الإلحادية التي تربك كثيراً من عقول الشباب الآن، فلتكن من أي ديانة سماوية. هذه مرحلة أولى لمواجهة الإلحاد، ثم تليها المرحلة الثانية في فرز الدين السماوي الحق... غير المحرّف. أدرك أن الخوض في هذه الجزئية مليء بالأشواك، لكني أتحدث هنا عن أحكام موضعية، لا أحكام قطعية. 3 أكرمني الدكتور عبدالرحمن الشهري المشرف على ملتقى أهل التفسير بأن وضع مقالتي على المنتدى، فتناوشتها وتناوشتني الأيدي نقداً ولم يسؤني هذا بل أفدت منه كثيراً. لكن ساءني أولئك الذين سفّهوا المقالة أصلاً بزعم أن كاتبها غير مختص في مجالها. ووددت لو أن أولئك الكرام فطنوا إلى أني لم أورد في مقالتي تلك أية آية كريمة أو حديث شريف ثم أثبت أو أفند دلالاتها الإعجازية... فهذا هو التخصص، أما مقالتي فقد تناولت البعد الثقافي والإعلامي ل (موضة) الإعجاز العلمي في القرآن الكريم. ولأني أتحدث تحديداً عن «الموجة» التي مرّت في الثمانينات فلست معنياً كثيراً بتأصيل نشوء موضوعة الإعجاز العلمي التي عزاها البعض إلى علماء حركة النهضة في القرن التاسع عشر، بل أرجعها البعض الآخر إلى الجاحظ والماوردي وأبي حامد الغزالي. وقد فطن إلى هذه الإشكالية أستاذ الدراسات القرآنية الدكتور مساعد الطيار الذي أشار في بحث مطول وثري إلى أن هذه المسألة تعتبر من المسائل العلمية التي حدثت في هذا العصر. وهو لا تغيب عن ذهنه بلا شك مساهمات الأولين لكنه يشير إلى نشوء هذا التخصص كعلم واهتمام طاغٍ. في خضم الردود، الموافقة والمخالفة، لن أنسى الإضافة النوعية التي منحني إياها أستاذ الفيزيولوجيا بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة عضو اللجنة الدولية للأخلاقيات الحيوية الصديق الدكتور أمين كشميري، الذي كانت له هنا مساهمات تأصيلية قديمة، من منطلق تخصصه الطبي واهتمامه الشرعي وضلوعه اللغوي والأدبي، ثم إن علاقاته مع نخبة من البحاثة والمختصين في المجالات الطبية والعلمية قد أتاح لي الإفادة من رؤاهم في هذا الموضوع الشائك، ومن أبرزهم الدكتور بسام ساعي الأستاذ في جامعة أكسفورد، الذي يعكف على إنجاز كتاب ضخم حول الإعجاز القرآني، سيصدر قريباً عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن، أرجو أن يكون مجيباً عن كثير من التساؤلات ومزيلاً لكثير من الإشكالات والزلات. إذاََ، نحن ما زلنا في حاجة إلى جهود مكثفة وهادئة لضبط مسألة الإعجاز العلمي، هذه المسألة... المجدية إذا أحسن استخدامها، ولكنها القاتلة إذا أسيء استخدامها. * كاتب سعودي [email protected] www.ziadaldrees.com