تماماً كما كان للمصريين سَبْقُ ثورة سلمية بيضاء أسقطت نظاماً وتنتظر قيام آخر أكثر عدلاً وديموقراطية، كان لهم السبق في عمل قاموس مصطلحات جديدة آخذ في التحديث. استهل المصريون قاموسهم الجديد بثلاثية «عيش، حرية، عدالة اجتماعية»، وسطروا صفحات عدة طيلة أيام الثورة بمفردات «أجندات أجنبية» و «مؤامرات خارجية» و «قِلَلٌ» عدة، منها ما هو «مندس» ومنها ما هو «مارق»، وهي المفردات التي أدت إلى بزوغ «الشعب يريد إسقاط النظام» و «ارحل» التي تم الإمعان في تفسيرها لاحقاً ب «ارحل يعني امشي» وغيرها. وانتهى الفصل الأول من قاموس مصطلحات الثورة، لتبدأ أول سطور الفصل الثاني بتعدد تسميات أيام الجمعة في ميدان التحرير بين «التطهير» و «الإرادة الشعبية» و «تصحيح المسار» و «استرداد الثورة»، وهي التسميات التي تزامنت ومسيرات «الدستور أولاً» تقابلها تظاهرات «الانتخابات أولاً»، وواكبهما تناحر المفردات النخبوية التي أنزلتها الثورة من برجها العاجي ليتشدق بها الجميع، من «ليبرالية» و «علمانية» و «مدنية»، إلى «التفاف على إرادة الشعب» و «تزوير لرغبة الأمة» وغيرها. وها هم المصريون يستهلون الفصل الثالث من قاموس ثورتهم ب «التخبط» الذي تُوْسَم به الخطوات الحكومية، و «الضبابية» التي توصف بها القرارات العسكرية، إضافة إلى «الكيانات الثورية» التي باتت تقلق أعضاء «حزب الكنبة» من المنتمين إلى الغالبية الصامتة، وتغضب «قوى التيارات الدينية» التي تركض ركضاً نحو كعكة السياسة. وفي إطار هذا الركض الذي يتسم بتفاوت شديد في السرعات بين أحزاب وليدة تفتقد الحنكة وأخرى قديمة تعاني أمراض شيخوخة، تظهر أيضاً متلازمة التحالفات الليبرالية مع أحزب دينية، وإن كانت تلك انتهت في معظم الأحوال ب «وفاة مبكرة لجنين مشوه غير مكتمل النمو». نوع آخر من النمو يشير إليه القاموس الثوري الجديد، وهو النمو المتضخم الذي يبدو جلياً في الإقبال المنقطع النظير من قبل «فلول» الحزب الوطني الديموقراطي المنحل على الترشح في انتخابات مجلسي الشعب والشورى (البرلمان) المقبلة، فبين «الفلول يتصدرون» و «عودة الفلول» و «الفلول قبل الثوريين أحياناً» من جهة، وصعود نجم مفردات «الانشقاقات» و «التصدعات» و «الانسحابات» التي وصلت حد «الانهيارات» في داخل صفوف «التحالفات» و «التكتلات» و «الائتلافات» المشكَّلة لخوض معركة الانتخابات، وجد المصريون أنفسهم أمام لوغاريتمات «الدوائر الفردية» و «القوائم النسبية» التي تحوي «رؤوساً» على قمتها يستحوذ عليها الأقوياء، و «ذيولاً» في أسفلها لا ترضي حديثي الولادة سياسياً والمتعطشين برلمانياً. وفي خضم محاولات عتيدة لفك رموز المعادلات والمفردات السياسية الصعبة وأخرى لتقفي آثار «فلول الوطني» و «أذناب النظام»، وجد المصريون أنفسهم أمام مصطلحات مستجدة، مثل «الغدر» وقانونه المزمع لإحكام السيطرة على بقايا العهد السابق، و «العزل السياسي»، وكلاهما غامض مبهم، لا سيما أن حديث الاستثناءات المثير للاستياء بزغ مجدداً من خلال عبارة «استثناء بعض الفلول» التي تستخدمها قوى سياسية تحاول لاهثة اللحاق بركب الترشح. ولا ينافس ركب الترشح والانتخابات في الاستحواذ على اهتمام المصريين سوى ركب الفتنة، سواء ذلك المتجه نحو «التأجيج» و «التهييج» و «التحريض»، أو الآخر المتجه نحو «رأب الصدع» و «درء الفتنة». وفتحت «أحداث ماسبيرو» الأخيرة الباب على مصراعيه أمام قائمة كاملة من الكلمات والمفردات، بعضها يعاد تدويره وآخر وليد الحدث، فخرج من الأدراج «قانون دور العبادة الموحد» المقتول بحثاً على مدى عقود، ومعه «الخط الهمايوني» (القانون العثماني الذي ينظم بناء دور العبادة) و «تقنين أوضاع الكنائس»، وغيرها من مكونات الملف القبطي، التي أضيف إليها مرسوم قانون ل «مكافحة التمييز». وبينما يحاول المصريون فهم المقصود ب «التمييز» ومدلول «الغدر» و «العزل السياسي» ومعنى «القوئم النسبية»، تتأكد لديهم معان ومدلولات سابقة من قاموس الثورة، وذلك من خلال استمراريتها وتجددها وفرض نفسها على حياتهم اليومية، وأبرزها «البلطجة» و «الغياب الأمني» و «الانفلات الأخلاقي»، وجميعها نجح في فرض نفسه، غير مكتف بكونه عنوان مرحلة ما في مسار الثورة. لذلك، فإن الأمل منعقد على أن تنتهج مصطلحاتُ الفصل الثالث من القاموس، مثل «التعددية» و «الديموقراطية» و «رأب الصدع»، النهجَ نفسه وتتحول إلى واقع. لكن الخوف كل الخوف من أن تسبقها مصطلحات الفصل الأول، فيجد المصريون أنفسهم فعلياً أمام «أجندات» و «مؤامرات» و «قلة مندسة» ظنوا أنهم أحالوها على كتب التاريخ.