هناك سياسة «ناعمة» وثانية «خشنة» وثالثة «صامتة» وهناك رابعة وخامسة. هناك سياسة دفاعية وأخرى هجومية. ولو سئل العارفون بالديبلوماسية السعودية ستوصف ب «المتريثة» و»الدفاعية». السياسة السعودية هادئة وحذرة وتجنح إلى البطء والانتظار عند اتخاذ القرار في المواقف السياسية الخارجية. السياسة السعودية لا تحاول التسابق مع أحد، سواء كانت دولة صغيرة بحجم بعوضة أو كبيرة بحجم فيل، حتى يخيَّل للمراقب أن الرياض تسير على حقول ألغام ما يلزمها الحذر لا التحذير. في المقابل، هناك سياسة إيرانية استفزازية، تتباهى بالقوة وتدعم الميليشيات والعناصر المسلحة وتتحرك في المنطقة لا لبناء علاقات متكافئة مع دول المنطقة والجيران بل للمزايدة، مثل تصريح أحمدي نجاد بعد توليه الرئاسة بأن بلاده ستمسح إسرائيل من الخريطة، وحتى اليوم يسمع شعبه وجيرانه بتلك الجعجعة والشعارات الوهمية، التي لم يتحقق منها شيء. لم تحرك إيران ساكناً، عندما ضربت إسرائيل لبنان في صيف 2006 حتى وإن قال البعض إن إيرانيين شاركوا إلى جانب عناصر «حزب الله» في القتال. كما أنها لم ترسل سفينة إغاثية واحدة عندما أحرقت إسرائيل قطاع غزة، بل إن الطائرات الإسرائيلية سبق أن ضربت المنشآت العسكرية السورية الحليفة الاستراتيجية لطهران، ثم «خرست» طهران التي كانت تهدد بمسح تل أبيب ولم تطلق رصاصة واحدة ولم تشجع دمشق على الرد، لكنها أيدت بشار الأسد على قتل شعبه والإيعاز لعناصر «حزب الله» بالمشاركة. التحالفات تتغيَّر. المشهد برمته يتطاير. الأربعاء الماضي في الرياض كان هادئاً وبداية لعطلة نهاية الأسبوع كالمعتاد، وفجأة أطلَّ على الشاشات الفضية «خبر عاجل» يكشف عن محاولة إيرانية لاغتيال سفير الرياض لدى واشنطن. هناك من صدّق. هناك من شكّك. هناك من تساءل. هناك من طلب التريث. هناك من صمت حتى اليوم. بعض مَن شكّك في الرواية الأميركية تبدو مشكلته في صدور الخبر عن واشنطن، ومثل هذا لن يشكّك لو بُثَّ الخبر من فنزويلا أو كوبا. لكن يجب ألا يتجاهل البعض أن من خرج لإعلان إحباط محاولة الاغتيال هو وزير العدل الأميركي لا المتحدث باسم البيت الأبيض، وهنا فارق بين الاثنين! لماذا شكك البعض في صدقية الرواية الأميركية، خصوصاً إذا كانت واشنطن تملك تسجيلات صوتية وأوراقاً ثبوتية وحوالة مالية من مسؤول إيراني واعترافات المواطن (الأميركي – الإيراني نفسه)، إضافة إلى أدلة أخرى ستُعرض على أعضاء مجلس الأمن الدائمين والمؤقتين؟ ليس المطلوب من الكل تصديق الرواية، لكن يخطئ من يشكّك في الانتهازية الإيرانية، بحسب أن طرف المعادلة هي واشنطن وعلاقاتها عدائية مع طهران ولديها رغبة في الإيقاع بها لتوجيه ضربة عسكرية لمفاعلاتها النووية. لا يمكن تجاهل ازدواجية المعايير في السياسة الأميركية، وتمسّكها ببقاء سيطرتها على المنطقة ومصالحها النفطية في الخليج، وهو ما يربطه البعض برغبتها في الضغط على إيران والتعبئة ضدها عالمياً عبر تدبير هذه المحاولة حتى تخضع وتخنع لها، وحتى تتماهى طهران مستقبلاً مع مصالح واشنطن في العراق ونزع سلاح حزب الله في لبنان، لكن لا يمكن في المقابل أيضاً تجاهل الرغبة الإيرانية في كسر شوكة السعودية في المنطقة واختراق نسيجها الاجتماعي وتدمير قوتها الاستراتيجية بضرب «أسفين» في علاقتها مع الولاياتالمتحدة. خبر محاولة اغتيال السفير الجبير في البدايات، لذلك بدأت التأويلات والتفسيرات، وتوزع الضيوف بين مقتنع بالرواية ومشكّك بها أو طالباً التروِّي حتى تتضح كل الخيوط والخطوط. حقيقة، كنت من المترددين في بداية الأمر.. وكلما اتصلت بي قناة تلفزيونية تذرّعت بالأعذار. لكن بقراءة بسيطة لتوتُّر العلاقات السعودية – الإيرانية، وضغط الشارع على حليفتها سورية وإفشال الرياض تدخلها في البحرين وقبله في اليمن، تجعلني أذهب إلى أن طهران تحركت نحو تدبير محاولة اغتيال السفير الجبير لتوتير العلاقة بين الرياضوواشنطن. لا شك في أن إيران أخطأت بحق المنطقة مرات وبحق السعودية مرات عدة، وكانت إيران هجومية وانفعالية ضد السعودية، فيما ظلَّت الرياض دفاعية أمام مرماها ولم تحاول التسلل نحو تسجيل أهداف تُحسب عليها لا لها. بل إن المعلومات تؤكد أن المملكة حاولت بناء علاقات احترام وحسن جوار مع إيران، لكنها كانت تصطدم ب «النزق» الإيراني وتواجه مراوغة مستمرة ومحاولة فارسية «متعطشة» للتوسُّع والتمدد على حساب جيرانها من دول الخليج العربية عبر اللعب على حبل الطائفية واستغلال الثغرات الداخلية. لكن هل يمكن طرح سؤال؟ لماذا لم تحاول الولاياتالمتحدة «حبك» هذه القصة ضد إيران في السنوات الماضية، على الأقل خلال رئاسة الجمهوريين «المتعطشين» للحروب لا في عهد الديموقراطيين، ولماذا في هذا الوقت بالتحديد بُعيْد أحداث العوامية وقبيل موسم الحج؟! الأكيد أن غالبية المعلومات المنشورة في السنوات الثلاث الأخيرة تؤكد بناء الحرس الثوري الإيراني كتيبة اغتيالات، تعمل عناصرها بجوازات سفر ديبلوماسية وأسماء مزوَّرة مهمتها تنفيذ اغتيالات ضد سياسيين وإعلاميين في بلدان عربية وأوروبية، ويبدو أن إيران وقعت في الفخ هذه المرة عبر تجّار المخدرات وانكشفت خيوط جريمة تنكرها لكنها تعرف أنها حاولت تدبيرها. أعتقد أن التصعيد الأميركي الأخير والمواقف الغربية الرسمية المؤيدة له والتلويح باستصدار قرار من مجلس الأمن ضد إيران لن تكون مجرد تطارح كلامي أو ضغط سياسي ولخبطة أوراق، بل ستكون «نفحة» من حرب ربما لا تستخدم فيها الدبابة والطائرة، لكنها ستُبقي منطقة الخليج لسنوات تحت أعراض الالتهابات والاحتقانات التي تضغط على أعصاب السياسة والاقتصاد والأمن، وستكون فواتيرها «مرهقة» لكل الأطراف المعنية وغير المعنية، وكل ذلك بسبب رعونة إيران وتصرفات حكومة أحمدي نجاد.