ثمة من يعترض بالعري، وهناك من ينام في منتصف الطريق، إضافة إلى الاعتراض بالضجيج والصراخ، لكن قليلين فقط هم من يعترضون بالصمت والامتناع عن الكلام، وهو أبلغ سبل الاعتراض، خصوصاً عندما يكون الكلام مهنتهم. في عالمنا العربي يلقنون الأطفال في المدارس مقولة شهيرة تقول انه «إذا كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب»، وهي المقولة التي لا يعمل بها أحد، إذ يحتل الحذق اللغوي والبلاغة الكلامية مكانة رفيعة تجعل الامتناع عنهما مشقة وحرماناً. لكن ثمة من الصحافيين من قرر أن يتكبد عناء هذه المشقة ويخوض غمار هذا الحرمان طواعية. «مبادرة الأعمدة البيض» التي أطلقها صحافيون وكتاب أعمدة في الصحف المصرية الخاصة قبل أيام فريدة من نوعها، خصوصاً أن صحافة ما بعد «ثورة يناير» 2011 تعاني حالاً أشبه بالانفجار السكاني الناتج عن كثرة المواليد. كرّ... وفرّ وأُطلقت المبادرة احتجاجاً على تدخل «الرقيب العسكري» في المحتوى التحريري للصحف، وضمت القائمة عدداً كبيراً من الكتاب، منهم عادل حمودة (الفجر) وخالد صلاح (اليوم السابع) وعمرو الليثي (الخميس) وبلال فضل (التحرير) وياسر أيوب (المصري اليوم) وكمال رمزي (الشروق) وغيرهم. وكانت مجموعة من الحوادث وقعت خلال أسبوعين أدت إلى تنامي الشعور بوجود اتجاه نحو «تكميم الأفواه وقصف الأقلام»! ففي 25 أيلول (سبتمبر) الماضي صادرت السلطات صحيفة «صوت الأمة» الأسبوعية بسبب تحقيقين صحافيين بعنوان «فضيحة مخابرات عمر سليمان» و «لماذا لا يبدأ اللواء مراد موافي (رئيس جهاز الاستخبارات الحالي) بحركة تطهير لرجال مبارك وسليمان؟». وقيل إن السبب في المصادرة هو خرق الصحيفة قرار حظر النشر في قضية قتل المتظاهرين. كما خضعت يومية «روز اليوسف» لعملية «بتر» صفحة لتضمنها تحقيقاً عن جاسوسة إسرائيلية رفض الرئيس السابق حسني مبارك القبض عليها. وقال رئيس تحرير الصحيفة إبراهيم خليل في برنامج تلفزيوني إنه فوجئ بطلب من «جهة سيادية» بوقف طباعة الصحيفة لحين استبدال الموضوع الذي يتناول «أول عملية تجسس اقتصادي من جانب إسرائيل على مصر في عهد الرئيس السابق حسني مبارك الذي رفض إلقاء القبض عليها»، بحسب تعبير الصحيفة التي صدرت في اليوم التالي (27 أيلول / سبتمبر) بعد استبدال الموضوع بآخر! في موازاة ذلك، عاد الكر والفر بين وزارة الإعلام المصرية وبعض القنوات الفضائية الخاصة بسبب المحتوى «الفضائي»، ما أسفر أخيراً عن إغلاق مكتب قناة «الجزيرة مباشر مصر». وتهدف هذه التحركات إلى «حماية الأمن القومي للبلاد»، أو إظهار «العين الحمراء» بين حين وآخر للدلالة على استمرار وجود «هيبة الدولة»، أو ربما تكون عودة فعلية إلى ممارسات أنظمة سابقة في تقييد الحريات. وهذا ما دعا إلى «تبييض» الأعمدة، والتي خرجت في ذلك اليوم الخريفي إما ناصعة البياض تماماً أو تحتوي على عبارة «أحتجب عن الكتابة اليوم احتجاجاً على المنع والمصادرة ووجود رقيب عسكري على الصحف». «انتكاسة»... حرية الرأي والتعبير المبادرة الفريدة من نوعها لاقت استحساناً على المستوى المهني الإعلامي، إذ حفلت الصحف والمجلات المصرية أخيراً بمقالات تشيد بالمبادرة من جهة وتستنكر شبح عودة الرقابة على الصحف من جهة ثانية. كما سارعت الجمعيات الحقوقية إلى مباركة المبادرة والتنديد بقمع الحريات. فالشبكة العربية لمعلومات حقوق الانسان استنكرت عمليات الملاحقة المستمرة لوسائل الإعلام والإعلاميين من جانب السلطات، معتبرة الأمر «انتكاسة خطيرة لحرية الرأي والتعبير التي باتت مهددة بالتآكل مع تكرار الإجراءات التعسفية والقمعية». ورأت الشبكة في بيان ان «كل هذه الإجراءات القمعية والتحركات الرقابية في حق الإعلام والصحافيين تعتبر عودة إلى الخلف واستمراراً لسياسة النظام البائد المقيّدة للحريات، وتمثل انتكاسة خطيرة لمكتسبات ثورة «25 يناير» التي جاءت على رأس مطالبها «الحرية». وطالبت الشبكة المجلس العسكري بالتوقف عن سياساته التي وصفتها ب «القمعية» في حق الإعلام والصحافيين، وإلغاء القرارات التعسفية التي أصدرها، ووقف تدخلات الأجهزة الأمنية في عمل الصحافة والإعلام. من جهة أخرى، تخضع المطبوعات المصرية نظرياً للرقابة منذ عام 1881، وهو العام الذي صدر فيه «قانون المطبوعات» الذي ما زال معمولاً به حتى الوقت اليوم. أما رئيس تحرير صحيفة «اليوم السابع» خالد صلاح - أحد أصحاب الأعمدة البيض - فطالب بإسقاط قوانين حظر النشر وأبدى تعجبه منها، ف «أنت تستطيع أن تقرأ النص الكامل لشهادة المشير طنطاوي على «تويترط، و «فايسبوك»، لكن يستحيل عليك أن تقرأها فى صحيفة مصرية خاضعة لقوانين حظر النشر المعمول بها في التشريعات المصرية... الثورة استطاعت أن تحصل على الحرية لمصر بالكامل من نظام فاسد، لكننا لم نحصل حتى الآن على الحرية للصحافة المصرية من قيود قوانين حظر النشر التى تفرض قداسة على حجب المعلومات، وتضع مخالفيها تحت طائلة القانون. تسقط قوانين حظر النشر». وكان صلاح قد أشار إلى قراره «تبييض» عموده اليومي يوم 5 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري احتجاجاً على مصادرة الصحف التي أشعلت الثورة – على حد وصفه. ويأسف أستاذ الإعلام الدكتور صفوت أمين العالم لما وصفه ب «تعاظم الرقابة على الصحف والقيود المحددة للحريات الإعلامية». وهو يرى ان هذه القيود بدأت بالتزامن مع صدور قرارات في حق فضائيات وُصفت بأنها «تثير الفتنة». لكن العالم يعتبر أن «ما يثير الفتنة حقاً هو القرارات السياسية المتضاربة والقوانين المعيبة». ويرى العالم أن ما يصدر من قرارات في شأن الصحافة حالياً «مؤشر بالغ الأهمية لما قد يحدث خلال الانتخابات البرلمانية المقبلة»، مؤكداً ضرورة وقف هذه الخطوات المقيدة لحرية الإعلام «كي لا تلقي بظلالها الوخيمة أثناء الانتخابات». لذا فإن العالم يؤيد تماماً القيام بأي دور أو اتخاذ خطوات من شأنها أن تعبر عن المعارضة لتقييد الحريات أو وجود أي شكل من أشكال الرقابة على المؤسسات الإعلامية والعمل الصحافي. «أقوى ما في تبييض الأعمدة هو الرمز»، يقول العالم، معتبراً أن مثل هذا الرمز بالغ الدلالة ويحمل رسائل قوية موجهة إلى كل من «الحاكم» والرأي العام. وإذا كانت الرسالة الموجهة إلى الحاكم ذات مغزى اجتجاجي واضح ومفهوم، فإن الرسالة الموجهة إلى القراء والرأي العام قوبلت بطرق مختلفة. فهناك من أشاد بالخطوة وباركها، باعتبارها أسلوباً احتجاجياً بالغ الرقي للاحتجاج على تقييد الحريات. وهناك من اعتبرها ضمن الخطوات الداعية إلى شيوع الفوضى وهدم كل أنواع القيود التي من شأنها أن تنظم الحياة العامة وتعيد جانباً من هيبة الدولة التي «باتت في مهب الريح». وكانت السنوات الأخيرة شهدت حراكاً صحافياً حقوقياً للمطالبة بإلغاء عقوبة الحبس في قضايا النشر، لأنها تؤدي إلى تخوف الصحافي من كشف الفساد خوفاً من السجن. إلا أن مسألة حظر النشر لم تلق القدر ذاته من الاهتمام إلا بعد ثورة كانون الثاني (يناير) الماضي وبدء المحاكمات التي صدر في شأنها قرارات حظر نشر، علماً أن خرق قرارات المحكمة الخاصة بحظر النشر يُعد «جريمة» يحاسب عليها القانون.