نائب أمير الشرقية يطلع على جهود اللجنة اللوجستية بغرفة الشرقية    أمير الباحة يستقبل مساعد مدير الجوازات للموارد البشرية و عدد من القيادات    أمير منطقة الباحة يستقبل الرئيس التنفيذي للمركز الوطني للأرصاد    الطائرة الإغاثية ال20 تغادر الرياض ضمن الجسر الجوي السعودي لمساعدة الشعب اللبناني    "منشآت" و "كاوست" يوقعان مذكرة تفاهم لدعم وتمكين رواد الأعمال    محافظ جدة يشرف أفراح آل بابلغوم وآل ناصر    «الإحصاء»: ارتفاع عدد ركاب السكك الحديدية 33% والنقل العام 176%    شرعيّة الأرض الفلسطينيّة    وجهة "مسار".. شريك الوجهة في النسخة الثانية ل "معرض سيتي سكيب العالمي 2024"    السعودية بصدد إطلاق مبادرة للذكاء الاصطناعي ب 100 مليار دولار    أمطار رعدية متوسطة إلى غزيرة على عدد من المناطق    هاريس تلقي خطاب هزيمتها وتحض على قبول النتائج    الذهب يقترب من أدنى مستوى في أكثر من 3 أسابيع    إصابة فلسطيني برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي خلال اقتحام بلدة اليامون    العام الثقافي السعودي الصيني 2025    منتخب الطائرة يواجه تونس في ربع نهائي "عربي 23"    الإعلام السعودي.. أدوار متقدمة    المريد ماذا يريد؟    البنوك المركزية بين الاستقلالية والتدخل الحكومي    الاتحاد يصطدم بالعروبة.. والشباب يتحدى الخلود    هل يظهر سعود للمرة الثالثة في «الدوري الأوروبي» ؟    الإصابات تضرب مفاصل «الفرسان» قبل مواجهة ضمك    أمير تبوك يبحث الموضوعات المشتركة مع السفير الإندونيسي    «البيئة» تحذّر من بيع مخططات على الأراضي الزراعية    القبض على مخالفين ومقيم روجوا 8.6 كيلو كوكايين في جدة    أربعينية قطّعت أمها أوصالاً ووضعتها على الشواية    ترمب.. صيّاد الفرص الضائعة!    «بنان».. سفير ثقافي لحِرف الأجداد    السينما السعودية.. شغف الماضي وأفق المستقبل    اللسان العربي في خطر    ترمب.. ولاية ثانية مختلفة    ربَّ ضارة نافعة.. الألم والإجهاد مفيدان لهذا السبب    الجلوس المطوّل.. خطر جديد على صحة جيل الألفية    سيادة القانون ركيزة أساسية لازدهار الدول    درّاجات إسعافية تُنقذ حياة سبعيني    الإصابة تغيب نيمار شهرين    التعاون يتغلب على ألتين أسير    العين الإماراتي يقيل كريسبو    ليل عروس الشمال    الدراما والواقع    يتحدث بطلاقة    «الجناح السعودي في اليونسكو» يتيح للعالم فرصة التعرف على ثقافة الإبل    القابلة الأجنبية في برامج الواقع العربية    التعاطي مع الواقع    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني وفريق عملية زراعة القلب بالروبوت    رينارد يعلن قائمة الأخضر لمواجهتي أستراليا وإندونيسيا في تصفيات مونديال 2026    التكامل الصحي وفوضى منصات التواصل    تقاعد وأنت بصحة جيدة    الأنشطة الرياضية «مضاد حيوي» ضد الجريمة    الداخلية: انخفاض وفيات حوادث الطرق بنسبة 50%    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني    محافظ الطائف يعقد اجتماع مجلس اللجنة الوطنية لرعاية السجناء والمفرج عنهم    أمير تبوك يستقبل القنصل الإندونيسي    تطوير الشرقية تشارك في المنتدى الحضري العالمي    فلسفة الألم (2)    سلام مزيف    همسات في آذان بعض الأزواج    دشنها رئيس هيئة الترفيه في الرياض.. استديوهات جديدة لتعزيز صناعة الإنتاج السينمائي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عشائر شمال لبنان تحتضن لاجئين سوريين... ومنافذ التهريب تحوّلت شريان حياة

عندما تنقطع شبكة الاتصالات اللبنانية عن هاتفك المحمول وتتلقى رسالة من «سيرياتل» ترحب بك في الأراضي السورية، ثم يلتقط الراديو موجة «شام إف إم» التي تبث (لسخرية القدر) أغنية «Let the Sunshine» (دع الشمس تشرق) تعرف أنك دخلت المنطقة الرمادية بين لبنان وسورية لجهة الشمال.
يرن الهاتف منذراً بوصول الرسالة القصيرة. تقرأ ترحيباً من وزارة السياحة السورية ودعوة لأن «تشعر بأنك في ديارك» ثم في ذيل الرسالة رقم خط ساخن للمعلومات السياحية أو لتقديم شكوى. الاتصال مع لبنان مفقود كلياً إلا عند بعض منعطفات الطريق المعبدة حديثاً. الفقرة الفنية مستمرة على الإذاعة «الشبابية» ويتخلل الأغنيات الغربية مداخلات مرحة من مذيعة تمزج العربية بالإنكليزية وتستقبل اتصالات مستمعين يضاهونها فرحاً، ويرسلون معايدات وتمنيات لبعضهم بعضاً. لبرهة، تكاد تنسى أنك في مهمة شبه سرية للقاء لاجئين وناشطين سوريين على تخوم حمص المشتعلة. تكاد تنسى أنك في لبنان أصلاً، فلا شيء هنا يردك إليه. ذاك أن وادي خالد وهي تجمع لنحو 20 قرية وبلدة ذات تركيبة عشائرية، تشكل اليوم أكثر من أي وقت مضى، تخوماً لحمص أكثر منها ريفاً لطرابلس. وهذه المرة، يتعدى التوصيف معطيات الجغرافيا، والنسيج الاجتماعي العشائري، والتداخل السكاني إلى شيء من المزاج السياسي المستجد على منطقة لطالما ارتبطت عاطفياً ومادياً ب«الشام»، واستمدت نفوذها منها وليس من المدينتين المحاذيتين، أي حمص وطرابلس.
والواقع أن وادي خالد، المتأرجحة جغرافياً بين بلدين تسودهما علاقات متشنجة، تنقل إلى زائرها شيئاً من ذلك التأرجح وتلك الحيرة لتبدل حال مفاجئ أصابها وجعلها موطناً للاجئين السوريين وملاذاً آمناً للناشطين بينهم بعدما كانت امتداداً «طبيعياً» لسورية في لبنان، لا بل إن «لجان دعم الثورة» والتي تشكلت حديثاً تنشط في مثلث وادي خالد - حلبا (مركز القضاء) - وطرابلس. مثلث يتواصل أفراد اللجان بين أضلاعه بما يشبه الرموز والعمل السري مستخدمين أكثر من خط هاتفي، ومتنقلين في أكثر من سيارة وعابرين أكثر من نقطة تجمع عامة وظاهرة للعيان «لعدم لفت الانتباه». مقهى لسائقي تاكسي هنا، مطعم حلويات هناك، أماكن يعرفها الناس عموماً بصفتها نقاط تجمع فلا يشكون في ما يدور فيها.
في قرى وادي خالد المشهد مختلف. فالبلدات التي كانت يوماً سوقاً تجارية نشطة تقوم على التهريب والتبادل الاقتصادي «العابر للحدود» صارت اليوم شبه خالية إلا من سكانها والوافدين الجدد من الضفة الأخرى. وتختلف تسمية السوريين الهاربين إلى لبنان بين «الإخوة السوريين» كما يسميهم أبناء المنطقة، ولاجئين كما يسعى الناشطون لأن يعرفوا لما للجوء من حقوق حماية ورعاية دولية، أو نازحين كما قررت السلطات اللبنانية توصيفهم للنأي بنفسها عن أي واجب إنساني أو حقوقي تجاههم ولتبرير توقيف حواجز الجيش بعضَهم وتسليم البعض الآخر لسلطات بلاده. فالفرق كله يكمن في تلك التفاصيل.
العائلات والجمعيات
ويتوزع النازحون السوريون في وادي خالد بين بعض المدارس الرسمية مع ما يعنيه ذلك من مصاعب مع انطلاق العام الدراسي، وعائلات المنطقة التي فتحت منازلها لاستقبالهم، «كما فتح السوريون قلوبهم للبنانيين في حرب تموز (يوليو) 2006» على ما قال رجل دين جاء من تلكلخ هرباً بعدما أحرق محله ووصله تهديد مباشر بالقتل.
وغالباً ما تختار العائلات النازحة المدارس ومراكز الاستقبال المعروفة، لما توفره من مساعدات غذائية ومتابعة من المفوضية العليا للاجئين وبعض الجمعيات الأهلية، فيما يفضل الرجال عموماً والناشطون خصوصاً الإقامة لدى العشائر خوفاً من انكشاف أمرهم.
الشيخ الذي لا تبدو عليه سمات «رجل الدين» لولا أنه عرّف عن نفسه بهذه الصفة قال وهو يشعل السيجارة تلو الأخرى «للأسف إن الذين حميناهم من إسرائيل في 2006، يؤيدون اليوم النظام الذي يقتلنا بالوحشية نفسها... ومن يحمينا هو من طاوله قمع نظامنا».
ذلك التمييز بين لبنانيين متعاطفين مع ثورة السوريين وضائقتهم، وآخرين مؤيدين للنظام يشكل خلفية الأحاديث كلها سواء مع السوريين أو مضيفيهم اللبنانيين كما يشكل معياراً أساسياً في اختيار منطقة اللجوء. لذا، تشكل القرى الحدودية في عكار قبلة الناشطين الهاربين من حمص وتلكلخ والرستن والقصير وغيرها من المدن «الداخلية» المشتعلة، فيما يوجد أبناء بانياس والمناطق الساحلية في طرابلس وضواحيها، حيث محطة اللجوء المديني. أما بيروت فللطبقة الأعلى اقتصادياً، والتي عبرت الحدود بطريقة نظامية وبسيارات تحمل لوحات سورية. «هؤلاء هربوا خوفاً على حياتهم وحياة عائلاتهم، جاءوا لأسباب إنسانية وليس لديهم ما يخشونه من الوجود على مقربة من حلفاء دمشق، أما نحن فمطلوبون بالأسماء ولا يمكننا الخروج من هذه الغرفة» يقول الشيخ الذي رفض نشر اسمه واكتفى بأن اختار لقب «أبو محمد».
الغرفة التي أشار إليها «أبو محمد» واستقبلنا فيها، هي جزء من منزل منفرد على هضبة منحه إياه أحد أبناء البلدة فنزل فيه هو وعائلته وبعض الناشطين الآخرين الذين التجأوا إليه. المنزل غير مكتمل البناء والغرفة التي اتسعت لنحو 10 أشخاص افترشوا الأرض كما العادة في تلك المنطقة، لا تحوي من الأثاث إلا تلفزيوناً و «لابتوب» لا يفارق حضن الشيخ. قال «صحيح أننا هنا بعيدون عن الحياة العامة والنشاط الميداني، لكن هذا كل ما أحتاجه!»، مشيراً إلى جهازه.
وأضاف: «الإنترنت بطيء هنا، لكنه أفضل من لا شيء... لدي حساب سكايب أتابع عبره كل ما يجري وأتواصل مع الشباب في الداخل وننسق سوياً ما يجب فعله». ويستعمل الناشطون السوريون موقع «سكايب» وليس «فايسبوك» لبث الأخبار والتواصل في ما بينهم لسهولة استخدامه وصعوبة اختراقه في آن. وأول ما يسألونك عنه عنوانك على «سكايب» منبهين من أن «فايسبوك» مصيدة فعلية وقاعدة بيانات جاهزة للاستعمال الأمني.
شيخ وتاجر ألبسة
والشيخ أبو محمد الذي لم يتجاوز منتصف الثلاثينات ارتدى بزّة رياضية ونمّق لحيته وشعره كأبناء جيله «المدنيين». يبادر الزائرة بمد يده للسلام وينتظر لحظات قبل أن يبدد شيئاً من الحيرة فيقول ضاحكاً «نعم، أنا الشيخ... ولست سلفياً!». وأبو محمد الذي يؤم المؤمنين في مسجد حدودي قريب من مكان لجوئه، تخرج في جامعة الأزهر ومنع من مزاولة النشاط الديني في سورية منذ أربع سنوات، فاكتفى بالعمل تاجر ألبسة نسائية. لكنه في المقابل وبعد عبوره إلى لبنان حصل على ترخيص رسمي من دار الإفتاء اللبناني يمارس بموجبه عملاً يدرّ عليه بعض المال.
وقد يبدو أن أبو محمد استثناء بين رجال الدين الهاربين إلى وادي خالد، لكن ومن دون تعميم طبعاً، يتكشف أن ثمة قواسم مشتركة بين عدد منهم وهي مثلاً أعمارهم التي تقارب الثلاثين، ودراسة الشريعة في الأزهر، وحداثة المظهر بما يذكر إلى حد بعيد بالداعية المصري عمرو خالد، ويعيد أيضاً إلى شيء من «مصرية» النشاط الديني - السياسي. أبو محمد، كما أخوه الشيخ الأزهري أيضاً، كما الشيخ «أبو عمر» المقيم في بلدة أخرى والهارب من حمص، وغيرهم ممن تسنّى مقابلتهم، يقرون أن المساجد تشكل مركزاً لخروج التظاهرات لأنها مكان التجمع الوحيد الآمن نسبياً، لكن دورها لا يتعدى الجانب اللوجيستي. ويقول أبو محمد «بعض الذين لا يريدون الصلاة، أو حتى غير المسلمين الراغبين في المشاركة في التظاهر باتوا يتجمعون في باحات المساجد للانضمام إلى المصلين فور خروجهم». ويؤكد هؤلاء «المسلمون لا الإسلاميون» كما يشددون، أن إيمانهم يمنحهم دافعاً قوياً ويشكل محركاً داخلياً يحتاجونه لمواجهة آلة القتل المنهجي. أما أن يكون هذا هدف ثورتهم فهو ما يرفضونه رفضاً قاطعاً ويعتبرون اتهام السلطات لهم للتهويل والتخوين.
يقول أبو محمد، وهو ما كرره لاحقاً الشيخ أبو عمر «ماذا أكثر من تأييدنا أن يأتي ميشال كيلو رئيساً للجمهورية... ماذا أكثر من ذلك؟ نحن نطالب بدولة مواطنة للجميع يمارس فيها كل عبادته على طريقته». وبشيء من التهكم يسأل أحد الجالسين «لو كنا من تنظيم «القاعدة» كما يتهموننا لماذا نتمسك بسلمية التظاهرات ولم نرَ عملية انتحارية واحدة؟».
اسقاط النظام
وإذ يشدد اللاجئون على أن ثورتهم سلمية ومدنية، معتبرين أن بعض المواجهات المسلحة التي تشهدها أطراف حمص وتلكلخ وغيرهما فرضت على سكانها دفاعاً عن النفس، يفسرون أن مشكلتهم مع النظام ليست كونه طائفياً لأنه بهذا المعنى علماني بامتياز، وإنما لأنه فئوي وزبائني الأمر الذي نمى أحقاداً بين شرائح المجتمع، اقتصادية بالدرجة الأولى، اتخذت أشكالاً طائفية. ويقول أبو عمر «أنا كنت من الذين حاولوا التوصل إلى حلول وسطية بين النظام وأبناء منطقتي في حمص وذلك بعد اندلاع الأحدث في درعا وبداية انتقالها إلى مناطق أخرى. ونظراً إلى أنني إمام مسجد ولي حظوة بين الشباب قلت إننا قادرون على المطالبة بالإصلاحات من دون إراقة دماء... لم يكن إسقاط النظام مطلبنا في ذلك الوقت».
تلك الإصلاحات لم تكن أكثر من مطالب بتضييق الهوة بين المحظيين من أبناء النظام وزبانيته وبقية أفراد الشعب الرازحين تحت وطأة الفقر والبطالة وانسداد الأفق السياسي والمهني. وأبسط مثال على اتساع الشرخ الذي بات فاضحاً في السنوات الأخيرة، هو هذا الشريط الحدودي نفسه المعروف تاريخياً بأنه منطقة تهريب نشطة بين الجانبين. فالمستفيدون من اللبنانيين كانوا أبناء المنطقة، أما المستفيدون من السوريين فهم التجار ورجال النظام معاً. ويقول أبو محمد «منذ بضع سنوات أطلقت حملة مكافحة التهريب ورحبنا بها. فإذا بالحملة تطال كبار التجار من الطائفة السنّية وتقفل محالهم وتفرض عليهم غرامات، فيما تبقي على التجار العلويين الذين باتوا يمارسون نشاطهم في العلن! في المقابل، لم يرافق تلك الحملة فرص توظيف أو عمل لاستيعاب الخسائر وبقي تقسيم الوظائف على ما هو عليه».
هذا الإحباط الذي أصاب أيضاً عشائر منطقة وادي خالد، وانعكس تراجعاً في نشاطهم التجاري بدد الحيرة الأولية المرافقة لزيارتهم. فهم عشائر لها امتدادات في الداخل السوري إضافة إلى علاقات مصاهرة وحسن جوار. وتعاملهم مع النظام السوري كان جزءاً من لوازم التجارة العابرة للحدود وما تقتضيه من تحالفات وعلاقات تسيير أمور. وبعد 2005، وخروج القوات السورية من لبنان، استيقظت هوية سنّية كامنة وغير متفوقة على غيرها من الهويات في البيئة العشائرية لكنها كانت كافية لتشد عصب الإخوة. فهؤلاء أولاً عرب وادي خالد كمجموعة، ثم عرب العتيق بمعنى عشيرة العتيق، أو عرب الغنام أو العويشات أو الأخطبة وغيرهم. فروعهم وأفخاذهم في حمص وحماه، ومحالهم التجارية تتوزع بينها وبين طرابلس. شيخهم، ليس إمام مسجد بل كبير العشيرة ووجيهها، ونساؤهم غير مبالغات في حجابهن أو احتجابهن عن الرجال. أما علاقتهم بالدولة اللبنانية فلا تتعدى كونهم يحملون هويتها منذ وقت غير بعيد.
وتبدو تلك اليقظة الدينية طارئة حتى على لغتهم، فهم غير متمكنين من مصطلحاتها عدم تمكنهم من اللهجة اللبنانية برمتها. كأن يحدثك شيخ من عشيرة الغنام مثلاً عن القيم البدوية في حماية الضيف والدفاع عن «الأخوة» ولكن ليس عن واجب ديني في نصرة المسلمين أو الذود عن الدين. إنه تدين يشبه ذلك ال «لابتوب» الخارج عن سياقه المشهدي في منطقة نائية ووعرة، لكنه يكفي لأن يصل «أبو محمد» وغيره من الناشطين بموقع سكايب والشبكة العنكبوتية.
ومعرفة أبناء العشائر بخطوط التهريب ومنافذه على الحدود، وخبرتهم الطويلة في التعامل مع الأشخاص من الجهتين، جعلتهما اليوم أفضل من يؤمّن نقل السوريين إلى لبنان، ونقل المستلزمات الطبية إلى سورية. فأكثر ما يحتاجه المتظاهرون اليوم على ما يقول اللاجئون، هو وحدات الدم وحقن ضد ال «تيتانوس» (المعروف شعبياً بالكزاز) لأن الصيدليات أفرغت من محتوياتها، والمستشفيات تتعرض للمداهمة الأمنية بين الحين والآخر ما يجعل تطبيب الجرحى مهمة سرية في ظل نفاد الأدوية والتجهيزات الطبية. ويرفض الشيخ الغنام الذي يستقبل في بيته أكثر من 25 لاجئاً بعضهم جاء مع عائلته، الإفصاح عن المعبر الذي لا يزال يعمل في الاتجاهين أو عن طريقة تهريب الأشخاص والسلع. «إنه الشريان الوحيد المتبقي لهم... لا يمكننا أن نقطعه» يقول. ويتجاوز دور الشيخ الغنام استقبال اللاجئين إلى إعادة توزيعهم على المنازل المضيفة، وتأمين الأدوية للمرضى بينهم ونقل الجرحى والمصابين إلى المستشفى الحكومي في حلبا، الوحيد الذي يستقبل الجرحى السوريين. كذلك يتولى الشيخ المفاوضات مع السلطات اللبنانية لإطلاق الذين يلقى القبض عليهم بحجة عدم حيازتهم أوراق دخول شرعية، وهي حالات تتكرر يومياً مع اللاجئين. ويسأل الشيخ مستغرباً «كيف سيختمون أوراقهم على الحدود ويدخلون بطريقة نظامية وهم أصلاً هاربون من القتل ويطلبون الحماية؟!».
عمر واحد من جرحى مجزرة القصير التي وقعت قبل نحو أسبوعين، ويقيم اليوم في منزل الشيخ الغنام. يجرجر خطاه الثقيلة من غرفة النوم إلى المجلس حيث يجتمع الشباب لمشاهدة التلفزيون والتواصل عبر الإنترنت ومناقشة أوضاع الثورة. لا تزال العملية الجراحية في كليته تؤلمه، فهو لم يتلقَّ العلاج الكامل لكنه على الأقل لم يمت، كما يقول. ويروي: «كنت أشارك في تظاهرة القصير، وإذا بالأمن والشبيحة يهجمون علينا. أصبت وتم نقلي إلى المستشفى وأثناء العملية، جاء خبر بأن الشبيحة يداهمون المستشفى لتصفية الجرحى واعتقال الأطباء وهو ما حدث بالفعل لاحقاً. لكن كان تم نقلي ولما صحوت وجدت نفسي هنا».
ويتوزع المقيمون في بيت الغنام بين مختلف المناطق السورية وغالبيتهم لم تلتق من قبل، وأحياناً يخشون حتى الإفصاح عن أسمائهم الحقيقية أمام بعضهم بعضاً، فيكتفون بالكنية أو اللقب. «ليس لانعدام الثقة، وإنما خشية التوقيف وافتضاح أمر الآخرين. ففي لبنان نظامنا قوي وله وجود أمني تماماً كما في سورية» يقول شاب من دمشق اختار أن نسميه «أبو حسين».
مدون النازحين
ويبدو أن أبو حسين «مدون» المجموعة المقيمة في منزل آل الغنام و «المنظر» فيها. فعيناه لا تفارقان شاشة الكومبيوتر فيما يتحدث إلى الآخرين أو ينقل إليهم خبراً عاجلاً وصله عبر «سكايب». «أبو حسين» كان موظفاً حكومياً في إحدى وزارات دمشق، وهو ناشط على الشبكة قبل الثورة. كان يدون ما يراه من تجاوزات ومحسوبيات وفساد إداري على موقعه الإلكتروني إلى أن تم توقيفه ثم جرت ملاحقته. قال «أبلغني شباب أقربائي من الأمن أنه ستتم تصفيتي. فخرجت من سورية واستغرقتني رحلة ساعتين، 25 يوماً عبرت بعضها مشياً على قدمي. كانت المرة الأولى التي أخرج فيها من بلدي وأزور لبنان. حتى أني لا أعرف المنزل الذي جئت إليه... كل ما قيل لي إنه آمن».
ويسكن أبو حسين في منزل الغنام منذ 15 يوماً، وقطع كل اتصال بعائلته أو أصدقائه خوفاً عليهم كما غالبية اللاجئين الذين أوقف أفراد من عائلتهم ولا زالوا قيد الاحتجاز في فروع الأمن. ويقول «لدي حساب على سكايب، وكلما رأوني «متوافراً» عرفوا أنني على قيد الحياة... لكنني لا أتصل بهم خوفاً عليهم». وأضاف «هناك أشخاص حتى داخل أجهزة الأمن يبلغون من توضع أسماؤهم لدى الفروع ليهربوا... هؤلاء غير راضين عما يجري لكنهم أيضاً مهددون بالقتل».
هي حلقة مغلقة من القتل والهرب والنشاط العنكبوتي المفضي إلى مزيد من القتل والهرب. لكن أبو حسين يعتبر بأنه «لو توقفت الثورة اليوم، فالإبادة بانتظار السوريين لا محالة. إذا كان معدل الموت في اليوم بين 10 و15 فستمحى مناطق برمتها فور توقف التظاهرات والأسوأ أن المجتمع الدولي سيقبل بالأمر الواقع وربما يؤيده... فهذا نظام حفظ أمن إسرائيل أما نحن فليس أمامنا إلا الاستمرار. وإلى ذلك الحين، تبقى وادي خالد «أهون» الخيارات».
أنا متهم بمداواة الإرهابيين
تختلف طرابلس ليلاً عنها في النهار. صحيح أن ذلك ينطبق على غالبية المدن لكن في طرابلس ثمة بعد إضافي لهذا الاختلاف. فما تشهده المدينة ليس حياة ليل بالمعنى الذي تشهده بيروت مثلاً، من حانات ومطاعم وملاهٍ، وإنما نشاط اجتماعي وعائلي دؤوب ينطلق مع بدايات المساء ويحول المدينة الى حارة كبيرة. محمود، السائق الذي رافقني في جولتي نطق بحكمة لم يدرك وقعها. «كلما أصل إلى طرابلس، أشعر بأنني في الشام» قال. ربما هي رائحة القطر التي تفوح من محلات «الحلاب» وتكاد تطغى على المدينة كلها، ما يذكر بدمشق وحاراتها. لا، قال محمود، جازماً من دون أن يتمكن من تحديد مكمن ذلك الشعور ويقصد به سورية وليس عاصمتها.
في طرابلس التي تشبه «الشام»، يتحرك الناشطون السوريون بشيء من الأمان. إنهم ابناء المدن الساحلية التي تقارب طرابلس وتشبهها أيضاً. هنا هامش حريتهم أوسع من بيروت، وأضيق من وادي خالد. فلا عشيرة تحميهم، لكن أيضاً لا مصلحة للأطراف السياسيين في اختراق التوازن القائم بينهم. ذاك أن المرشحين لإحداث خلل من هذا النوع، محكومون أيضاً بحساب أساسي هو أن رئيس الحكومة، في نهاية المطاف ابن طرابلس.
وإذ يسكن الشباب السوريون في ضاحية أبو سمرا فهم يتجنبون التوغل في عمق المدينة، ويتنقلون بين مقاهي الأحياء الخارجية لطرابلس مثل الميناء أو ما يسمى «الضم والفرز»، حيث لا يقتصر الزبائن على الرواد الدائمين وأبناء الحي المعروفين لبعضهم بعضاً.
في أحد تلك المقاهي، جلس الدكتور مازن القادم حديثاً من بانياس. تخرج طبيب اسنان، منذ سنتين أو أكثر ودخل إلى لبنان بأوراق «نظامية». قال: «أنا جئت لأني تعبت مما شهدته وأشهده يومياً. لست مطلوباً للأمن بعد، لكني مرشح لذلك إذا لم اوقف نشاطي مع التنسيقيات».
تطوع الطبيب الشاب في مستشفى بانياس لإسعاف الجرحى والمصابين في التظاهرات فعمل إلى جانب من بقي من اصدقائه الأطباء والممرضين بما تيسر من لوازم ومعدات طبية. قال: «أجروا عمليات من دون تخدير وتعقيم. نفذت الأدوية والمعدات، وصار الأمر صعباً جداً بعد منع دخول الادوية وتحطيم صيدلية المشفى على يد الشبيحة. وبدأ الأطباء بالمغادرة إما لشعورهم بالعجز أو لتلقيهم تهديدات مباشرة بالقتل. بقيت مجموعة صغيرة جداً لكن المشكلة أن غالبية الاصابات تأتي إما في الرأس أو في الرقبة وهذه لا تحتاج لإسعاف وإنما للدفن، وهو أيضاً منع عن بعض العائلات. بقيت مع آخرين حتى لحظة اقتحام المستشفى. لم اصدق أنهم قد يقدمون على ذلك. بقيت أقول لنفسي إنها شائعات للتهويل والترويع لكنهم لن يفعلوها إلى ان رأيت نفسي أتدافع مع الآخرين للخروج من الباب الخلفي. لم اعرف ماذا حدث للجرحى الذي تركناهم خلفنا. يقال إنه تمت تصفيتهم. بعد يوم جاء رجال الأمن إلى المنزل يسألون عني أوقفوني يومين بتهمة «مداواة الارهابيين» واستجوبوني ثم أعادوني فقررت الخروج من سورية. تلك تهمة توجه رسمياً اليوم للطواقم الطبية وقد تكلف البعض حياته لكني كنت محظوظاً».
ويضيف: «عندما دخل الجيش إلى بانياس، وكان خرج بعض سكانها استولى الجنود على المنازل واقاموا فيها. وهناك اليوم 25 مبنى بكاملها يسكنها الجنود كما يقارب عدد نقاط التفتيش في المدينة نحو 58 حاجزاً. من شرفة منزلي، التي كانت تطل على منزل الجيران ونتبادل منها أنا وابنهم الاحاديث، صرت أرى الجنود. أنظر في وجوههم وأحاول أن أبحث عن إجابات لما يفعلونه. أولاد في التاسعة عشرة والعشرين من عمرهم يجلسون على شرفة جاري ومكانه وينامون في غرفته، يحضرون الشاي ويتناولون الفطور وينظرون إلي بالمقابل. بعد مرور فترة من الزمن على هذه المراقبة المتبادلة، صرت اتحدث إليهم، بدأ الأمر ب «صباح الخير» ثم صرت أسألهم من أي مناطق جاؤوا؟ وكيف هي بلداتهم وعائلاتهم؟ ومع الوقت سألتهم إن كانوا موافقين على ما يقومون به. احدهم كاد يبكي، وبعضهم قال إنه يتمنى لو ينزع عنه اللباس ويشارك في الثورة، لكن رفاقاً له قتلوا بسبب ذلك. قبل هربي كنت أقنعت نحو 6 منهم بينهم ضابط بأنه يجب الانضمام إلى المنشقين. عرفت ان 2 جاؤوا إلى لبنان وفقدت الاتصال بالباقين».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.