منذ حوالى عشرين عاماً، تقف ميدها باتكار في وجه الحكومة الهندية والبنك الدولي، تساندها الروائية الهندية المعروفة أرونداتي روي والهدف الحصول على قرار بإيقاف بناء السدود على نهر نارمادا، الأمر الذي سيؤدي الى إغراق الأراضي الزراعية وتشريد ملايين القرويين. تعرضت باتكار للاعتقال والتحقيق حتى الضرب بالعصا من قبل الجنود، لكنها رفضت سياسة العنف في دفاعها عن حقوق المتضررين. وهي لا تزال حتى اليوم تعتمد سياسة وفلسفة أب الأمة الهندية المهاتما غاندي. واعلنت العصيان المدني المسالم ورفضت الدخول في اللعبة السياسية على رغم حصولها على المركز الثالث في الاستفتاء الشعبي حول الشخص الجدير بالثقة للفوز في الانتخابات الأخيرة. وفازت ميدها بثقة الشعب الهندي من دون ان تترشح لأي مركز سياسي، ومع استئناف الاشغال في بناء السدود، نظمت مع عدد من أنصارها إضراباً عن الطعام في شهر كانون الثاني يناير الماضي في قاعة السكرتارية الخاصة برئاسة الوزراء. يدعوها الجميع "سيدة النارمادا" تيمناً باسم النهر الهندي العظيم. وتُعد باتكار رمز النضال والمقاومة لملايين المزارعين والقرويين الذين تغيرت حياتهم وانقلبت أوضاعهم المعيشية، بسبب انشاء السدود الضخمة على نهر نارمادا. وبفضل جهود هذه السيدة، التي اصبحت بطلة رغماً عنها لدى السكان الأصليين للقرى الممتدة على ضفتي النهر، تمكن هؤلاء المواطنون المقتلعون من جذورهم وأراضيهم من تنظيم مقاومة سلمية والفوز بمعارك مهمة في مسيرة حياتهم البسيطة، والتي أي المقاومة لاقت صدى كبيراً في عموم البلاد، ووقفت بوجه الحكومة والبنك الدولي الذي يموّل المشروع ويستثمره. تحول اسم نارمادا الى رمز هندي وعالمي. وهو يعني النهر العظيم الممتد على مسافة 1300 كيلومتر، تبدأ من منبعه في منطقة ماديا براديش قبل ان يصب في بحر العرب. لكن هذا الاسم يعني ايضاً المشروع الهائل لبناء سدود تعدت اليوم الرقم المتفق عليه ووصلت الى 3600 سد، اضافة إلى سدود صغيرة أخرى كثيرة، و460 كيلومتراً من أقنية الري، والنتيجة أكثر من 37700 هكتار من الأراضي المغمورة بمياه السدود، ثم هناك المراكز العديدة لتوليد الكهرباء والتي ضمت إليها الأراضي المحيطة بها. وأثار هذا المشروع ردود فعل محلية وعالمية لأنه عندما يتم بناء السدود الضخمة يجب أن توجد بحيرات اصطناعية تستوعب المياه الفائضة، وهذه البحيرات أدت إلى اغراق القرى المجاورة والأراضي الزراعية والغابات، مما شرد ملايين الأشخاص. بالطبع لم يغادر سكان القرى وأصحاب الأراضي وصيادو الأسماك وسواهم من دون مقاومة بل على العكس، قاموا بعرقلة عمليات بناء السدود، لذا تحول اسم نارمادا إلى رمز للمقاومة المعادية لتغيير مجرى الأنهر وبناء السدود. رأت هذه المقاومة النور أواسط ثمانينات القرن الماضي، وحققت انتصاراً عندما ارغمت الحملة التي قام بها "التجمع من أجل انقاذ النارمادا" البنك الدولي على إعادة النظر في المشروع وفي سياسته المالية، وبالتالي في تجميد القروض. في المقابل، عرفت هذه الحملة لحظات مؤلمة وقاسية، فيما رفض سكان عدد كبير من القرى مغادرة أراضيهم وتفضيلهم الموت غرقاً فيها مع عائلاتهم وأملاكهم، الأمر الذي دفع السلطات إلى اخراجهم بالقوة، قبل أن تتحول قراهم إلى بحيرات اصطناعية. وريثة المهاتما في عام 1985 وصلت ميدها باتكار إلى سهل نارمادا، يومها لم تكن تدرك أنها ستصبح قائدة لأكبر ثورة سلمية بعد المهاتما غاندي، ولم تكن تعلم أنها ستمضي حياتها في هذا السهل الفسيح الذي يحمل اسم النهر الذي يجري فيه. في بداية الأمر استقبل سكان المنطقة هذه الباحثة الاجتماعية القادمة من المدينة بحذر شديد. يومها كانت في الثلاثين وتحمل شهادة عليا في العلوم الاجتماعية. وبالفعل بدأت أبحاثها الميدانية لمعرفة تأثير نتائج السدود على السكان المحليين. وأخذت تتنقل من قرية إلى أخرى وتستمع إلى أقوال وشهادات المقيمين في القرى المجاورة للنهر وعلى ضفافه. آنذاك لم تفكر بالمشروع كسبب للهجرة، وكانت ترغب في جمع فيض من المعلومات لتفهّم أسباب الهجرة الكثيفة لسكان السهل باتجاه مدن الصفيح في بومباي. ومع تعمقها في التحقيقات الميدانية، أدركت بسرعة أن التعويضات الموضوعة لمصلحة السكان، وإعادة الاعتبار إلى نوعية حياتهم استبدال أراضيهم بأراضٍ زراعية في مناطق أخرى هي حبر على ورق، خصوصاً أنه لا توجد أي دراسة اجتماعية وبيئوية من قبل الدولة وأصحاب المشروع، وبالتالي فإن كل المردود المالي يعتمد على معلومات خاطئة فقد شمل الاحصاء الخاص بالتعويضات، العائلات التي تملك اراضي ستغمرها المياه فقط. اما العائلات التي تملك اراضي تمر بها الاقنية وتقتطع منها اجزاء مهمة، وتلك التي لا تمتلك مستندات ملكية لكنها تعيش وتزرع الارض منذ اجيال كما هي الحال في اكثر العائلات القروية في الهند والسكان الذين يعيشون من الصيد في النهر، لم يشملهم الاحصاء ولا يحق لهم المطالبة بأي تعويض. وعندما ادركت ميدها باتكار عملية الاستغلال التي يتعرض لها سكان السهل، خصوصاً عمال المشروع الذين يتقاضون أجوراً زهيدة بعدما خسروا اراضيهم، تركت ابحاثها وانضمت الى جبهة المعارضة، ثم قامت بتحقيقات خاصة حول المنافع العامة للمشروع لتكتشف الفساد الذي يحيط به والرشاوى اضافة الى خرق حقوق المواطنين، والعمالة السياسية لمصلحة اصحاب المشروع. وفضحت المناضلة الهندية عمليات تحويل أقنية الري عن الاراضي الزراعية التي تعاني الجفاف، لتمر قرب مصانع الاقمشة ومعامل تكرير قصب السكر والاراضي الخاصة بكبار الملاكين. وجمعت معلومات مهمة لمواجهة القائمين على المشروع. وأسست مع المتضررين تنظيماً واحداً يجمع كل الفئات بعيداً عن خلافاتهم واختلافاتهم الاجتماعية والطبقية والدينية والقبلية. وفي عام 1989 بلغ عدد الاعضاء 50 ألفاً قدموا من كل قرى ومناطق سهل نارمادا، ليولد "التجمع من اجل انقاذ نارمادا" الذي اعتبرته ميدها مقاومة سلمية خالية من العنف وغير معاد للتطور بل يطالب بايجاد حلول انسانية تقدم المساعدة لمن يحتاجها بالفعل. فالكهرباء والمياه التي تولدها السدود يجب ان تذهب الى من لا يملكون منها شيئاً بدل ان تذهب باتجاه من يملكون الكثير منها، اي رجال الصناعة وكبار الملاكين الذين يقدمون الرشوة ويستغلون منافع المشروع. علماً ان هناك اكثر من نصف مليون شخص من سكان السهل سيصيبهم الضرر بسب السدود. اما الاموال الخاصة به 4 ملايين رسمياً والضعف حسب احصاءات التجمع فيجب الا تخدم بدورها المنافع الخاصة بل العامة. وطالبت بوقف تنفيذ المشروع. ونظمت سيدة النارمادا عام 1990 مسيرة ضخمة استمرت اسبوعاً كاملاً حشدت فيها 60 ألف مواطن. تنقلت في كافة قرى السهل وتحولت الى رمز لمأساة الوادي. واعتقلت الشرطة ميدها التي وضعت في السجن استراتيجية جديدة ومسالمة. واعلنت اضرابها عن الطعام الى ان يتم وقف المشروع. فيما اعلنت مجموعة من التجمع استعدادها رمي نفسها في النهر، بينما اعتصمت مجموعة اخرى في اروقة الوزارات المختلفة واضربت عن الطعام. من السجن ايضاً ناشدت المزارعين وسكان السهل الاعتصام في منازلهم واراضيهم خلال مواسم الحصاد والقطاف على رغم ارتفاع المياه. وبالفعل ارغم السكان رجال الشرطة على ان يكونوا موجودين ليلاً نهاراً في السهل، حيث كانوا يسرعون لانقاذ السكان رغماً عنهم، عندما تصل المياه الى اعناقهم ثم يبعدونم عن اراضيهم بالقوة والعنف. وأدركت سيدة النارمادا ان استراتيجية المقاومة السلمية وعدم استعمال العنف ليست استراتيجية فاعلة في مقاومة الدولة والبنك الدولي والمشروع لكنها شددت على عدم استخدام العنف حتى في حال الهزيمة، لان القضية التي يناضلون من اجلها ليست فقط قضية سدود واقنية ري ومراكز توليد طاقة كهربائية بل هي مسألة تطور وكيفية وجود وحق في الحياة. من هنا سارت مع انصارها على خطى المهاتما غاندي واستلهمت فلسفته ووسائل نضاله: العصيان المدني المسالم والاضراب عن الطعام. وتحولت ميدها باتكار الى وريثة لمبادئ غاندي والى وجه يتصدر الصفحات الاولى للصحف، واهتم العالم بقضية النهر العظيم ومصير سكان سهل نارمادا. واخذت المساعدات تأتي من كل حدب وصوب ،دولاً وهيئات وشخصيات. وفجأة اعلن البنك الدولي عن انشاء لجنة مستقلة للتحقيق في صدقية المشروع. وفي عام 1993 سحب البنك مبلغ 450 مليون دولار من الصندوق الخاص بالمشروع لعدم وجود خطة للتعويض. وهكذا دخل التجمع في معركة قانونية وطالب المحكمة العليا الهندية باصدار قرار بالتخلي كلياً عن المشروع مع اعتراف المسؤولين في اقليم ماديا براديش بعدم وجود اراض كافية للتعويض عن الأراضي التي اغرقتها البحيرات. وكانت النتيجة هجرة عدد كبير من العائلات باتجاه مدن الصفيح في العاصمة وضواحي المدن الكبرى وحصلت ميدها باتكار عام 1995 على امر من المحكمة العليا بوقف العمل في المشروع وتحديد نسبة ارتفاع المياه في السدود الى 80 متراً فقط، ولفترة غير محددة بانتظار ايجاد اراض بديلة. لكن هذا الامر لم يشمل السدود الجديدة، فاستمرت الاشغال مجدداً في اماكن اخرى. وفي عام 2000 سمحت المحكمة العليا باستئناف العمل في المشروع كله، وادركت ميدها انها خسرت وانصارها المعركة، لكن الحرب طويلة، تتطلب اعادة تنظيم الصفوف. وفعلاً بدأت مقاومتها السلمية من جديد معلنة اضراباً جديداً عن الطعام واعتصاماً في أروقة الوزارات مطالبة بوقف المشروع وتعويض السكان. وبعد عشرين عاماً من المقاومة رفضت ميدها القبول بالتضحية بسكان قرى وسهل نارمادا وبمستقبلهم واراضيهم في سبيل التطور، خصوصاً انه على رغم وجود 3600 سد، تبقى مسألة الري قضية كبرى، اضافة الى الانتظار الذي لا ينتهي لأكثر من 226 مليون هندي للحصول على مياه الشفة