ثلاثة تقارير خطيرة تقاطعت الاسبوع الماضي، لتكشف بشطحة قلم مدى "الفخ" الذي وقعت فيه الولاياتالمتحدة في العراق. الاول أصدره "مجلس العلاقات الخارجية"، الذي يعتبر المرجع النظري والاستراتيجي الاهم لصناّع القرار الاميركيين، وقال فيه أن "التمرد العراقي خرج عن نطاق السيطرة ولم يعد بالإمكان استئصاله". ونسب التقرير الى مؤسسة بروكينغز أن عدد "المتمردين" العراقيين قفز من 5 آلاف الى 20 ألفاً خلال الشهور القليلة الماضية. والرقم لا يزال يتصاعد، لأن العديد من الشبان العراقيين الذين وقفوا على الحياد بعد وصول القوات الاميركية الى بغداد في ربيع 2003، بدأوا ينضمون الى القتال إما لأسباب وطنية او دينية، أو كوسيلة للحصول على عمل، او ببساطة لأنهم لا يجدون مكاناً لهم في العراق الجديد. التقرير الثاني، أورده جيمس راسل، المحاضر البارز في دائرة الامن القومي الاميركية والكاتب في دورية "ميدل إيست ريفيو" الاميركية، أعرب فيه عن قناعته القوية بأن "الولاياتالمتحدة خسرت بالفعل المبادرة الاستراتيجية في العراق"، بسبب سوء التخطيط الذي سبق الغزو، وسوء التنفيذ الذي تلاه. أما التقرير الثالث، فكان أشبه بخلاصة منطقية حقيقية للتقريرين الاولين. لكنها خلاصة أثارت القشعريرة في أبدان المحافظين والمحافظين الجدد في وزارة الدفاع الاميركية. فقد نشرت "دومارجوري تايمز" الرزينة، والتي تتمتع باحترام كبير في واشنطن، افتتاحية نادرة دعت فيها الى بدء التفكير بالانسحاب من العراق. وهي شددت على النقاط الرئيسة الآتية: الاحتلال فقد السيطرة على أقسام كبيرة من العراق، الذي تفكك الى مجموعة جزر خارجة على القانون تحكمها الميليشيات والعصابات والخاطفون. العملية السياسية الانتقالية، التي كان يفترض ان تقود الى انتخابات عامة السنة المقبلة، على وشك الانهيار، والعراقيون يموتون بالمئات كل أسبوع. السؤال الرئيس الذي يجب مواجهته الآن هو: هل وجود القوات الاميركية في العراق جزء من الحل، ام جزء من المشكلة؟ وهذا يستتبع التفكير في ما إذا كان انسحاب ممنهج للقوات الاميركية والحليفة، بالتلازم مع تسليم فعال للامن الى القوات العراقية وعملية سياسية شرعية وشاملة، يمكن ان يشق طريقاً للخروج من الفوضى الراهنة. وسواء فاز جورج بوش أو جون كيري، سيكون عليهما الإجابة سريعاً على هذين السؤالين. الانسحاب قد يفضي الى فوضى، وهذا خطر كبير. لكن الفوضى موجودة بالفعل الآن، وعلى أميركا التنحي جانباً لتدع العراقيين يحاولون الخروج منها. الجبهات هل سيقبل المحافظون الاميركيون بوقائع التقريرين حول خروج الوضع العراقي عن السيطرة وفقدان المبادرة الاستراتيجية، فينتقلون بالتالي الى حصيلة الثالث: الانسحاب، أم سيواصلون العمل لتطوير خيارات أخرى؟ سنأتي الى هذا السؤال بعد قليل. لكن قبل ذلك، وقفة أولاً أمام بعض الوقائع الميدانية والسياسية. يتفق العديد من الخبراء العسكريين الاميركيين على أن الوضع الامني العراقي "أسوأ مما يظن الكثيرون". وهو مغاير بالتأكيد لما تورده المؤسسات الاعلامية الاميركية التي تتعرض كما يقول الكاتب الاميركي بول كروغمان الى ضغط مستمر لتجميل صورة الوضع. فهناك الآن أكثر من 100 عملية مقاومة في اليوم. والهجمات على القوات الاميركية تتصاعد وتصبح اكثر تطوراً. والمناطق التي يسيطر عليها الثوار، التي يطلق عليها الاميركيون "جزر المتمردين"، تتمدد مع صبيحة كل يوم، حتى في بغداد نفسها. المقاومون باتوا يمزجون بين العمليات الانتحارية، والقصف بقذائف الهاون والصواريخ، وزرع الألغام على الطرقات وشن الهجمات المباشرة. والعديد من هذه العمليات تستهدف ليس فقط قتل الاميركيين وحلفائهم العراقيين، بل أيضاً استدراج الاميركيين للمبالغة في ردودهم العسكرية بهدف دفعهم الى ضرب المدنيين. وهكذا، تتكرر معضلة كل الدول التي واجهت حرب عصابات: إذا ما خففت الضغط العسكري، تنامت المقاومة. وإذا ما زادت الضغط، خسرت دعم السكان المدنيين لها ودفعتهم الى أحضان المقاومين. وهذا بالتحديد ما يحدث الآن في بغداد والفلوجة والرمادي والموصل، حيث تؤدي الغارات والقصف العشوائي الاميركي الى تنامي كراهية المدنيين للإحتلال، والى تزايد نفوذ المقاومة في صفوفهم. البحيرات الصغيرة التي كان يسبح فيها المقاومون العام الماضي، بدأت تتحول الى بحر متلاطم. ويعتقد كينيث كاتزمان، كبير محللي الشرق الاوسط في مكتب الابحاث التابع للكونغرس، أن ما يجري الآن في بلاد ما بين الرافدين هو حرب عصابات كلاسيكية حقيقية. ففي المرحلة الاولى نفذت عمليات "أضرب وأهرب". وفي الثانية، شنت هجمات متكررة على قوات الحكومة ومراكزها وشرطتها لزعزعة سلطتها ونزع شرعيتها. وفي المرحلة الثالثة ستخاض الحرب الشاملة للاستيلاء على السلطة. حرب العراق الآن لا تزال في المرحلة الثانية. لكن العديد من القادة العسكريين الاميركيين لا يستبعدون أن يقوم المقاومون ببعض عمليات المرحلة الثالثة في هذا الخريف للتأثير على مجريات الانتخابات الاميركية، مثل السيطرة على بغداد، كما فعل المقاومون الفيتناميون في هجوم "التيت" العام 1969 في سايغون. ويعكف هؤلاء القادة على مراجعة التاريخ لمعرفة أنجع السبل لمواجهة الانتفاضات المسلحة. وهم يتوقفون ملياً أمام ثورتي 1920 و1941 العراقيتين اللتين تمكنت القوات البريطانية من قمعهما خلال شهور قليلة، على رغم انها تكبدت ثلاثة آلاف قتيل في 1920، وبضع مئات في 1941. وفي التجربتين، اعتمد البريطانيون على العرب السنّة لادارة البلاد بعد هزيمة المقاومين الذين كان بينهم أيضا العديد من السنّة. بيد ان الصورة مختلفة تماماً الآن. فالسنّة هم أساساً الذين يمتشقون السلاح ويرفضون الامر الواقع. إضافة الى انه وفي عامي 1919 و1941، كان عدد سكان العراق لا يتجاوز المليونين والاربعة ملايين على التوالي، فيما هو الآن 24 مليون نسمة. ثم ان هناك فيضاً من الاسلحة من مختلف الانواع في أيدي العراقيين. فبفضل صدام، الذي أنفق بلايين الدولارات على شراء الاسلحة وتصنيعها في السبعينات والثمانينات، هناك أكثر من مليون "كلاشنيكوف 47" وكميات لا حصر لها من قاذفات ال"ار. بي. جي" والمورتر وغيرها. ولأن ماضي العراق وحاضره على هذا النحو، يفضل القادة العسكريون الاميركيون دراسة نماذج اخرى. خيارهم الأمثل هنا يقع على ثورة الملايو ماليزيا حالياً التي دامت من 1948 الى 1960. فهذه الثورة قامت بها أساساً الاقلية الصينية في البلاد 37 في المئة من اجمالي سبعة ملايين من السكان، وهي كانت منخفضة الوتيرة كما في العراق، حيث لم يشارك فيها السكان المدنيون. وعلى رغم ان التمرد دام 12 سنة، إلا ان البريطانيين نجحوا في النهاية في كبح جماحه من خلال تحييد السكان المدنيين عنه. فهم منحوا هؤلاء الحد الادنى من النظام والامن، وكافحوا الجريمة والاجرام، وحاولوا قدر الامكان خوض المعارك مع المقاومين خارج أسوار المناطق المدينية. لكن هنا أيضاً فروق. فالبريطانيون، الذين خسروا 600 قتيل واكثر من ألفي جريح في الملايو، كان في وسعهم ارتكاب الفظائع العسكرية بسبب تأييد الشعب البريطاني لممارسات الامبراطورية، من جهة، ولأن الإعلام العالمي لم يكن يمتلك السطوة التي يمتلكها الاعلام الحالي، من جهة ثانية. وهذا ما لا يتمتع به ساسة الامبراطورية الاميركية الآن. صحيح أن استطلاعات الرأي لا تزال تشير الى ان الاميركيين ما زالوا يدعمون حرب العراق على رغم تجاوز عدد القتلى الاميركيين حاجز الألف الاسبوع الماضي، إلا أن ذلك قد لا يستمر إذا ما شعروا أن هذه باتت حرب استنزاف بشري ومالي كلفت حتى الآن 90 بليون دولار بلا أفق. ثم هناك الاعلام، فإذا كان صحيحاً ما قاله كروغمان عن ضغوط تمارس على الاعلام الاميركي لإخفاء حقائق العراق، إلا ان الصحيح أيضاً أن هناك الآن فضائيات عربية ودولية أخرى تبدو اكثر من مستعدة لتحقيق سبق إعلامي - تجاري، عبر تغطيتها حقيقة ما يجري في بلاد ما بين النهرين. التجربة الملاوية، إذاً، على رغم جاذبيتها، لا تختلف كثيراً بالنسبة الى الأميركيين عن تجربتي 1920 و1940، فالظروف الديموغرافية اختلفت، والمعطيات الاستراتيجية تباينت، والاوضاع الاميركية الداخلية والدولية والاقليمية لم تعد تسمح بإطلاق يد الامبراطور الاميركي طويلاً في بلاد العباسيين. صقور وصقور ماذا إذاً؟ ما الحل؟ هذا يعدينا الى سؤلنا الاولّي عن الخيارات المحتملة الاميركية. هنا ثمة مستويان: الاول آني راهن، والثاني متوسط وبعيد المدى. على المستوى الأول، تدور حالياً نقاشات في واشنطن ليس بين الحمائم والصقور، بل بين الصقور أنفسهم، حيث ينقسم هؤلاء الى معسكرين متناقضين : التدريجيون و"الثوريون". التدريجيون يجادلون بأنه من الجنون الاندفاع لمحاولة السيطرة العسكرية على المدن العراقية المتمردة، لأن هذه الهجمات ستكون دموية للغاية وستؤدي الى ردود فعل سياسية غاضبة، فالمقاومون سيواصلون القتال، طالما أن الفضائيات تعرض مشاهد الاطفال والنساء القتلى، ثم "يذوبون" بين المدنيين لخوض المعارك في يوم آخر. وحتى لو سيطرت القوات الاميركية على مدينة الفلوجة بعد تدميرها، فلن يكون لديها ما يكفي من القوات لمواصلة إحكام القبضة عليها ومتابعة الحرب في اماكن أخرى. وهكذا ستضطر الى الانسحاب بعد فترة، فيعود المقاومون، وتعود الامور الى الطريق المسدود السابق. ويشير التدريجيون الى ان ثمة سبباً لاستمرار كل الحروب المضادة للتمردات في العالم الى عقد أو أكثر. فالفوز فيها لا يتحقق إلا ببطء وبضغط متواصل. وأفضل طريقة هنا هي توفير الوقت لبناء قوات الامن العراقية وتدريبها، وتمكين رئيس الوزراء اياد علاوي من بناء قاعدة معارضة للمقاومين بين المدنيين. هنا درس فيتنام حاضر، وهو يشير الى أن مثل هذه الحروب لا تربح عبر وسائل عسكرية، بل من خلال تنظيم بنى سياسية تحقق الدعم الشعبي وتمزجه بالقوة العسكرية. وهنا أيضاً درس النجف حاضر، حيث نجحت سياسة علاوي في تأليب سكان المدينة ضد جيش المهدي فتحركوا لمطالبته بالخروج. بيد أن "الثوريين" يرفضون كل منهج التدريجيين. وهم يستغربون كيف ان هؤلاء، الذين لهم الآن اليد العليا في إدارة بوش، يخوضون حرباً ضد الارهاب ب"لطف" على حد تعبيرهم. كما انهم يحذرّون من ان خوض الحرب ببطء، "سيسمح لجيوش الارهابيين بالازدهار والنمو، وستصبح هذه اكثر تجذراً وثقة بالنفس. اما نموذج النجف، فليس ثمة ما يضمن انه سينجح في المدن "السنية" "حيث لا توجد شخصية كعلي السيستاني لتبرز في اللحظة الحاسمة". حروب تقسيم؟ من سيفوز في هذا السباق بين معسكري الصقور؟ لا يبدو ان الامر سيكون مهماً كثيراً، طالما ان الطرفين ينطلقان من النقطة ذاتها ليصلا الى المحصلة نفسها: ضرورة مواصلة الحرب حتى تحقيق أهدافها. بيد أن حدائق البيت الابيض ليست قصراً على الصقور، فهناك أيضاً انواع حمائم ترى ان المخرج من ورطة العراق هو في التراجع والانسحاب وليس في التقدم والهجوم. هذه الحمائم لا تزال حبيسة الأقفاص الآن. ولا يتوقع أن يطلق سراحها لتصبح الطرف المهيمن في البيت الابيض، إلا بعد ان يبدأ الرأي العام الاميركي برفض استمرار الحرب. وهذا كما أشرنا لما يحدث بعد، على رغم ان نسبة المؤيدين لسياسات بوش العراقية انخفضت من 70 في المئة العام الماضي الى 53 في المئة الآن. لكن في لحظة ما، كما يقول بيتر فيفر، العالم السياسي الاميركي الذي يدرس العلاقة بين الامن القومي والرأي العالمي: "ستصبح الخسائر البشرية والمالية غير محتملة بالنسبة الى الشعب الاميركي. لا بل بدأت أرى حتى في هذه اللحظة بعض ملامح هذه الامر". حين يقرر المدنيون الاميركيون أنهم ملوا الحرب، سيكون على العسكريين الاستماع الى الاصوات الاخرى التي تطالب بحلول أخرى للورطة. وهذا ما سيدفع أصحاب القرار الاميركيين الى بدء التفكير بالمستوى المتوسط للخيارات. بيد ان هذه الحلول الاخرى لن تكون بالضرورة "حضارية" كتلك التي طالبت بها "فاينانشال تايمز" والتي دعت الى انسحاب اميركي مترافق مع تسليم السلطة لقوات شرعية عسكرية وسياسية عراقية. إنها قد تكون حلولاً "وحشية" تدعو الى تفجير الوطن العراقي ونسفه. أولّ من نظّر الى هذه المقاربة كان فرانسيس فوكوياما، صاحب "نهاية التاريخ". فمع انه أعلن رفضه تقسيم العراق الى ثلاث دويلات شيعية وكردية وسنيّة "إلا في حالة اليأس الشديد على حد تعبيره، لأن ذلك قد يؤدي الى فوضى دموية كتلك التي حدثت مع تقسيم الهند، والى تدخل القوى الاقليمية مثل إيران وتركيا، إلا انه اقترح ما هو أسوأ من التقسيم: العمل على إبرام تحالف فيديرالي بين الشيعة والاكراد الذين يسيطرون معاً على كل المناطق الغنية بالنفط، وفرض شروط صعبة على "السّنة" المعزولين، في مقابل حصولهم على بعض ورادات النفط. لكن فوكوياما لم يكن الوحيد، فثمة أصوات الآن في مجلس الامن القومي والبنتاغون تدعو الى الاعتراف بفشل المشروع الاميركي في "بناء الامة" في العراق، وتقترح إقامة تشكيلات سياسية - جغرافية جديدة تبقي على الوطن العراق شكلاً، وتفرغه من مضمونه عملياً. ومرة اخرى، الحل بفصل السنة، وإقامة عراق فيديرالي محوره الشيعة والاكراد. بيتر غالبريايث، أحد المسؤولين الاميركيين السابقين الذين ساهموا في حل مسألة البوسنة، يؤيد بقوة هذه المقاربة. وهو نشر اخيراً دراسة في "نيويورك ريفيو أوف بوكس"، شدد فيها على الخلاصات الآتية: - الواقعية حلّت مكان الديموقراطية وبناء الامة، كاهتمام مركزي لادارة بوش في العراق. الادارة باتت تعلم الآن انه حتى لو أراد اياد علاوي أن يكون صدام حسين آخر، فلن يستطيع. فهو لا يمتلك لا الجيش ولا الحرس الجمهوري ولا اجهزة الاستخبارات التي دمّرتها اميركا، والتي سمحت في السابق لصدام بأن يكون صداماً. - هذه "الواقعية ستفرض التعاطي مع ما هو موجود في العراق. فالاكراد يتصرفون في الشمال بصفتهم دولة مستقلة. ومختلف الاحزاب والمؤسسات الدينية الشيعية هي السلطة الحقيقية المقبولة في الجنوب. والسنّة أقاموا شبه دولة مستقلة في الوسط. لا أميركا قادرة ولا علاوي على تغيير هذا الواقع. وبالتالي، مأسسة هذا الواقع على الأرض في "كونفيديرالية مرنة" هو الحل الوحيد. - إقامة تحالف شيعي - كردي يكون مركز الكونفيديرالية، سيعني انه يمثّل 80 في المئة من الشعب العراقي، وسيحل مشكلة الانفصالية الكردية، ويساعد على احتواء الراديكالية الشيعية. وهذا سيسمح للحكومة بالتركيز على "التمرد السنّي" العربي وعلى مسألة الامن والنظام في العاصمة. طرد السنّة خارج المعادلة وإدخال الشيعة والاكراد اليها وإبقاء الاميركيين فوقها كحكّام كرة قدم بين هذه الأطراف، هي، إذاً، العملة التي بدأت تروج هذه الايام في بورصة واشنطن الاستراتيجية. وهذه المقاربة تستند الى المنطق الآتي: الولاياتالمتحدة تواجه مأزقاً شبه مستحيل في العراق. إذا ما انسحبت، ستخاطر بأن تترك وراءها حكومة ضعيفة غير قادرة على مواجهة الفوضى، التي ستشكّل بدورها مرتعاً ممتازاً للإرهابيين. العراق حينها سيتحول الى أفغانستان أخرى، لكن هذه المرة في ظل اكثر من حركة "طالبان" واحدة. لكن، وفي المقابل، إذا ما بقيت أميركا هناك، فإنها ستنسف شرعية الحكومة العراقية التي تدعمها، فيما ستواصل العمليات العسكرية الاميركية تفريخ المزيد من الحركات الارهابية والمتطرفة. وحدها الكونفيديرالية المرنة، المستندة الى تحالف الاكراد والشيعة، قادرة على محاصرة الاصوليين في "المثلث السني"، وفي تمكين الاكراد من التمتع بدولة علمانية بمساندة أميركية غربية في الشمال، وفي تسهيل حياة الشيعة في دولة إسلامية كما يريدون في الجنوب. اما بغداد، فيجب إيجاد حلول خاصة لها بسبب الاختلاط الشديد فيها بين السنّة والشيعة. منطق قوي؟ أجل. وهذا لسبب بسيط: ليس هناك في العراق، حتى الآن على الاقل، حركة وطنية عراقية قادرة على القفز فوق الانتماءات الطائفية. وليست هناك حركة إسلامية قوية عابرة للمذاهب، قادرة على حل خلافات شيعية - سنية عمرها ألف سنة حول الدين والدولة، والظاهر والباطن. ثم ليست هناك أيضاً مقاومة واحدة ذات برنامج موّحد، بل مقاومات عدة سنّية وشيعية وبعثية وأصولية لا يجمع بينها سوى العداء للاحتلال الاميركي. وفي ظل الضعف الشديد الراهن للمركز في بغداد، وعجزه عن التحّول الى نقطة جذب موحّدة للتباينات، يكون الإغراء شديداً بتحويل التشرذم العراقي الحالي الى تقسيمات دائمة، سواء اتخذ هذا شكل التقسيم الصريح 3 دول مستقلة أو التقسيم الضمني الكونفيديرالية. وهذا الإغراء سيكون أكثر إغواء للمسؤولين الاميركيين، خصوصاً حين يستمعون الى مجلس العلاقات الخارجية وجيمس راسل و"فاينانشال تايمز"، وهم يرددون تلك التعابير المرعبة عن الافخاخ والورطات وفقدان المبادرة الاستراتيجية