محمد بن عبدالعزيز يشيد بمنجزات «محكمة إدارية جازان»    النفط يهبط بفعل مخاوف «المعروض والطلب»    سلمان بن سلطان يرأس اجتماع مجلس أمناء جائزة المدينة المنورة    فيصل بن مشعل يشدد على أهمية استثمار مزايا القصيم في مجالات الزراعة    هدوء نسبي بغزة وسط ترقب مفاوضات المرحلة الثانية لوقف إطلاق النار    ولي العهد يهنئ السيدة ساناي تاكايتشي بمناسبة انتخابها رئيسةً للوزراء في اليابان    سعود بن نايف: القطاع غير الربحي شريك في تحقيق مستهدفات رؤية 2030    جائزة صيتة بنت عبدالعزيز تستعد لملتقى دراية بحائل    نائب أمير حائل يستعرض مستجدات الوضع الصحي    باريس سان جرمان يسحق ليفركوزن بسباعية ويواصل العلامة الكاملة    الهلال يتفوق على السد بثلاثية    أرسنال يكتسح أتلتيكو مدريد برباعية في دوري أبطال أوروبا    1500 زيارة لضبط التزام المصانع    اكتشاف نادر لشجرة «السرح» في محمية الملك عبدالعزيز    برعاية سمو وزير الثقافة.. منتدى الأفلام السعودي الثالث ينطلق اليوم    مسجد الغمامة.. عراقة العمارة والإرث    حراك متنامٍ    روسيا تضرب شبكة الطاقة الأوكرانية وأوروبا تتحرك لإجبار بوتين على السلام    إصابة ياسين بونو أمام السد.. واللاعب يعتذر    الخلود ينوع اللعب    446 جهة وشركة من 34 دولة يشاركون في المعرض الزراعي السعودي 2025    «عملية نقل الأتربة» إضافة جديدة لجرائم بشار الأسد    تعليم الطائف يطلق جائزة سمو محافظ الطائف " ملهم" للتميّز التعليمي في دورتها الثانية    واشنطن تضغط لإطلاق المرحلة الثانية من خطة السلام في غزة    الالتزام البيئي يطلق غدا التمرين التعبوي في سواحل المنطقة الشرقية    إعادة إعمار غزة.. من المسؤول؟    العنزي مديرا للإعلام والاتصال    نائب أمير منطقة مكة يستقبل معالي وزير الحج والعمرة    بين الغرور والغطرسة    الهلال يُكرم سالم الدوسري    اللواء المربع يدشن (4) خدمات إلكترونية للأحوال المدنية عبر منصة أبشر    القبض على 12 مخالفاً لتهريبهم (198) كجم "قات" بجازان    وزير الخارجية ونظيره الهولندي يبحثان العلاقات الثنائية    سابقة في فرنسا.. ساركوزي يدخل السجن    أسواق العثيم تحصد جائزة المسؤولية الاجتماعية 2025 عن فئة الشركات العملاقة    السعودية تؤكد دعمها الجهود الإقليمية والدولية لتحقيق الأمن والسلم    نائب أمير جازان يستقبل رئيس المحكمة الإدارية بالمنطقة    "دله الصحية" شريك تأسيسي في معرض الصحة العالمي 2025 و"عيادات دله" ترعى الحدث طبيّاً    العلا.. وجهة عشاق الطبيعة والفن والتاريخ    بيع شاهين فرخ ب 120 ألف ريال في مزاد نادي الصقور السعودي 2025    محافظ بيش يستقبل شيخ شمل السادة الخلاوية والشابين المبدعين الشعفي    سعد سفر آل زميع للمرتبة الخامسة عشر    التدريبات الرياضية هي أفضل علاج لأوجاع التهاب مفاصل الركبة    المساعدة القهرية    تسجيل 184 موقعاً أثرياً جديداً في السعودية    تستهدف تصحيح أوضاع العاملين في هذه الأنشطة.. إطلاق اشتراطات أنشطة المياه غير الشبكية    نائب ترمب: وقف إطلاق النار أمام تحديات كبيرة    أكدت استمرار الاتصالات.. طهران: المفاوضات مع واشنطن مستمرة لكنها «مشروطة»    استقبل الفائز بالمركز الأول بمسابقة تلاوة القرآن بكازاخستان.. آل الشيخ: دعم القيادة لحفظة كتاب الله يحقق الإنجازات    استقبل وزير الحج والعمرة.. نائب أمير مكة: العمل التكاملي يعزز جودة خدمات ضيوف الرحمن    120 مليار استثمار أجنبي مباشر ..الفالح: 4.8 تريليون ريال حجم الاقتصاد السعودي    السعودية.. حضور ثقافي مميز بمعرض فرانكفورت للكتاب    متلازمة المبيض متعدد الكييسات (2)    الوقت في المدن الكبرى: السباق مع الزمن    أمير القصيم يدشن مشروعي "التاريخ الشفوي" و"تاريخنا قصة"    خطر بطاريات ألعاب الأطفال    نائب أمير مكة يترأس اجتماع محافظي المنطقة لمتابعة مشاريع التنمية وتحقيق مستهدفات رؤية 2030    ولي العهد يعزي رئيس وزراء اليابان في وفاة توميتشي موراياما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السودان والنظام العربي - الاسلامي : مشروع "أندلس جديدة" من الجنوب الى دارفور ؟
نشر في الحياة يوم 16 - 08 - 2004

ما ان اتفق على اعلان نيروبي للسلام في السودان حزيران / يونيو 2004 بين السلطة المركزية في الخرطوم والحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق حتى اندلعت حركة تمرد جديدة غرب السودان هذه المرة. وتحديداً في منطقة اقليم دارفور، في حين يستمر التمرد في المنطقة الشرقية البجّه على البحر الأحمر وفي مملكة الشلك على النيل الأبيض. ويتألف اعلان نيروبي من ست اتفاقات هي: حق تقرير المصير، تقاسم الثروة، الترتيبات الأمنية، تقاسم السلطة، منطقة ابيي وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق. ان تعدد هذه الاتفاقات يؤكد حقيقة أساسية وهي ان الواقع الجغرافي البشري في السودان مجزأ في تركيبته الأساسية، وأن السلطة في السودان ما زالت، من حيث نظرتها الى الدولة والناس، تعيش في زمن مضى وليست في عالم اليوم. فالسودان البلد العربي الأكثر اتساعاً 5.2 مليون كيلومتر مربع يكاد يكون الأكثر اختلاطاً وتنوعاً من حيث الأديان الاسلام والمسيحية والوثنية، والاثنيات العربية والافريقية، وبالتالي اللغات واللهجات يضاف اليها الثروتان اللتان تسيلان اللعاب حالياً، على الصعيد المحلي غزارة المياه وعلى الصعيد الدولي النفط. وسيكون من الصعب، لئلا نقول من المستحيل، فهم ما يجري في السودان، كل السودان، الا في ضوء هذه الثروات، لا سيما النفطية، على محور الانقسام الجغرافي بين الشمال والجنوب وفي خط يمر من منطقة جنوب النيل الأزرق مروراً بمملكة الشلك وابيي وجبال النوبة وصولاً الى دارفور، مراكز النفط ومراكز تصادم المصالح والقوى.
فماذا عن دارفور؟ وهل من أمثولات جديدة تقدمها للنظام العربي - الاسلامي في عالم اليوم؟
أولاً: السودان تحت الأضواء الدولية:
إذا كان عمر الحرب في جنوب السودان عشرين عاماً، فإن عمر المفاوضات للوصول الى اتفاق سنتان. وطوال سنوات الحرب والتفاوض كان السودان معرّضاً لكل الأفكار والمخاطر، ان من الداخل أم من الخارج. فهذا البلد هو أشبه ما يكون "بمركبة" معقدة، وهي التسمية العربية للفظة Puzzle، ما ان تشدّه من جهة حتى يفرط من جهة ثانية. وإذا شئنا ان نختزل مكونات هذا التفكك لأمكن ردها الى ستة تناقضات، فعلت ولا تزال تفعل في أذهان ال32 مليون سوداني، وهي:
- التناقض الجغرافي بين الشمال والجنوب.
- التناقض السلطوي بين المركز والأطراف المهمّشة.
- التناقض الديني بين الاسلام والديانات الأخرى.
- التناقض العنصري بين العنصر العربي والعنصر الافريقي.
- التناقض الثقافي بين الثقافة العربية / الاسلامية والثقافات القبلية والمسيحية والوثنية.
- التناقض الاقتصادي بين مناطق الثروة خصوصاً النفط ومناطق الحرمان.
فإذا جمعنا هذه التناقضات لأمكن تشكيل برميل بارود من القوى البشرية المستعدة للتمرد في أي لحظة. واذا صدف وأمكن الوصول الى اتفاق مع جهات معينة، فإن ذلك، بدلاً من ان يسهم في الاستقرار والهدوء فإنه يغري جهات أخرى بركوب موجة التمرد مستفيدة مما حققه هذا التمرد لدى الآخرين. وهذا هو حال دارفور بالنسبة الى جنوب السودان.
لقد كانت حكومات السودان تصوّر الأمور دائماً على انها مشكلة متمردين ضد الحكومة الشرعية ولم تكن تنظر بعين موضوعية الى الأبعاد السياسية والدينية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لمثل هذه التمردات. لقد كان الفكر المركزي الذي طبع الدولة العربية - الاسلامية منذ نشوئها يتحكّم بجميع حكام الخرطوم ولم يكن لديهم اي استعداد للتفكّر في قيام دولة سودانية جديدة مبنية على التعددية والعدالة والمساواة، دولة تأخذ في الاعتبار والاهتمام هموم المهمّشين في مختلف أنحاء السودان.
من تداعيات هذه النظرة "الواحدية" اجبار السلطة المركزية في الخرطوم على توقيع اتفاقات نيروبي التي رأى فيها المحللون انتصاراً لتيار جون قرنق وشبه هزيمة للسلطة. فزعيم الجنوب تسلّح بأمرين جوهريين:
الأول، استراتيجية متكاملة سياسية وعسكرية وفكرية في مواجهة الخرطوم.
والثاني، حشد دعم افريقي واقليمي ودولي حوله ما سمح له بفرض شروطه في المفاوضات. في حين كانت الخرطوم شبه معزولة داخلياً ودولياً وتفتقر الى الحد الأدنى من التماسك الاستراتيجي في مواجهة الأوضاع. الأمر الذي خلق لديها عقدة راحت تنفذها في اقليم دارفور.
ان اقليم دارفور الذي تبلغ مساحته نحو 200 ألف كيلومتر مربع سعى "بقواه المهمشة" الى الافادة مما حققته ثورة الجنوب فأعلن تمرده على الخرطوم. ولئلا تخسر على الجانبين سارعت السلطة المركزية الى خنق التمرد بكل الوسائل وسلّحت جماعات "الجنجاويد" العربية وهو انتماء له مغزاه ازاء عنصر افريقي آخر وبدأت أعمال العنف في الاقليم التي أدت حتى تاريخه الى آلاف القتلى وتشريد نحو مليون شخص باتجاه دولة تشاد المجاورة.
لقد كان واضحاً ومعروفاً وحتى "منطقياً" ان تتصرف حكومة السودان بقسوة في دارفور كي تعيد الاعتبار لما فقدته في الجنوب وابيي والنوبة وجنوب النيل الأزرق. فبعد سقوط ما يعادل ثلث السودان في قبضة قرنق، فإن الخرطوم لن تسمح بسقوط جناح البلاد الغربي المهم ليس فقط بمساحته الشاسعة بل باحتوائه على ثروات طبيعية اكتشفت أخيراً وهي النفط. مع الاشارة الى ان النفط يشكل دخلاً مهماً للسلطة السودانية اذ يصدّر السودان الى الخارج ثلاثة أرباع انتاجه من النفط الذي يبلغ حالياً 200 ألف برميل في اليوم. وهي كمية تسعى الحكومة الى رفعها الى 250 ألف برميل، الأمر الذي أسهم في شكل رئيسي في تعديل ميزان المدفوعات في السودان.
لكن القوى الدولية، التي دعّمت قرنق من قبل، استمرت في دعمها متمردي دارفور ولديها أكثر من حجة ومأخذ على حكومة الخرطوم: دعم الارهاب، الابادة الجماعية والتطهير العرقي، التهجير القسري، خرق الاعلان العالمي لحقوق الانسان ومنع المؤسسات الانسانية التابعة للأمم المتحدة من القيام بمهماتها في الاغاثة. وحَمَلَ الغربُ وعلى رأسه الولايات المتحدة، ومعها أوروبا على ما يجري في اقليم دارفور، واتخذ مجلس الأمن قراراً بإعطاء حكومة الخرطوم مهلة ثلاثين يوماً لوقف العنف في الاقليم وتجريد ميليشيا الجنجاويد من سلاحها، وتحرك الاتحاد الافريقي والجامعة العربية للمساعدة في الوصول الى حل.
ان مسألة اقليم دارفور بالنسبة الى سلطة الخرطوم هي مسألة حياة أو موت بالمعنى السياسي والاقتصادي في آن: فهي تخشى ان ترى أقاليم السودان تفلت من يدها الواحد بعد الآخر. كما تخشى ان تفقد مصادر الدخل الأساسية من الثروة النفطية بعد ان اقتسمتها مع قرنق في مناطق أخرى.
لذلك وجدت الخرطوم ان "أفضل حل" لوأد التمرد في دارفور ذي الغالبية الأفريقية إجلاء أهله عنه بواسطة الجنجاويد العربية. وهذا يؤكد مقولة طالما رددتها هيئة اللاجئين في الأمم المتحدة ومفادها: صحيح هناك مهجرون بسبب الحروب. ولكن في العديد من الحالات هناك حروب تهدف عمداً لتهجير الناس. وهكذا يصبح التهجير هدفاً للحرب وليس نتيجة لها.
انطلاقاً من هذا الواقع تحاول جامعة الدول العربية ان تساند الخرطوم في الحل المعقول عارضة دورها الرمزي ونافية على لسان أمينها العام وجود ابادة جماعية أو تطهير عرقي في دارفور. الا ان الجامعة تأخذ على محمل الجدّ قرار مجلس الأمن واحتمالات التدخل الغربي العسكري في المنطقة. وهكذا تبدو الأمور معقدة تجانب كل جهة الانخراط فيها نظراً لما فيها من حساسيات وتحديات. فالخرطوم لا تجد من مصلحتها تدويل موضوع دارفور، وفي المقابل لا تستطيع التراجع على الأرض وفقدان الناس والجغرافيا بسحب الجنجاويد وتجريدهم من السلاح، ولكنها لا تستطيع من جهة ثالثة ان تتجاهل وجود مليون مهجّر في المخيمات وداخل تشاد بما يشكل مأساة انسانية.
ثانياً: أزمة النظام العربي - الاسلامي:
تشكل أزمة السودان اليوم بل أزماته المتكررة أنموذجاً لأزمة النظام العربي - الاسلامي. وأحد مكوّنات هذه الأزمة، كما يشرحها الشاعر أدونيس، هو: توكيد الواحدية ونفي التعددية. في حين ان المطلوب هو العكس: نفي الواحدية وتوكيد التعددية. وفي اعتباره ان هوية الأمة ليست الوحدة بل التعدد. وبالتالي لا بد من كسر الدائرة المقفلة القائلة: "بوحدة الأمة القائمة على وحدة النص القائم على وحدة الحقيقة، القائمة على وحدة السلطة". ومثل هذه الوحدة الغاء للمعرفة وللانسان في آن. ان الخروج من هذه الدائرة يستدعي أمرين: الحرية والديموقراطية مما يستدعي حكماً الفصل الكامل بين المعرفة والسلطة. فالسلطة ليست حقاً بل هي مهمة مدنية خالصة.
لقد كان الموضوع المركزي في صراع السودان هو حكم الشريعة وما ينتج عنه من مفهوم الوحدة ومفهوم التماثلية. وجاء اعلان نيروبي ليؤكد التزام المسلمين حكم الشريعة والتزام الآخرين بقيمهم الدينية والاخلاقية الأمر الذي يفرض قيام نظام لا مركزي في السودان، وهو ما تم التوافق عليه. وقد سماه أحد المحللين "هدم الأنموذج القديم للدولة السودانية واعادة بنائها على أسس جديدة لتحقيق العدالة والمساواة عبر عقد اجتماعي سياسي ثقافي جديد". هانئ رسلان - السياسة الدولية - تموز / يوليو 2004.
ان مراجعة لمقدمة بروتوكول اقتسام السلطة تبيّن الى أي حد تم التوكيد على حقوق الانسان والحريات الانسانية، والمعاهدات الدولية لحقوق الانسان بما فيها الحقوق الأساسية والمدنية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والميثاق الافريقي حول حقوق الانسان. كما خصص بالنص بعض الحقوق الأساسية: الحق بالحياة والحرية الشخصية ومحاربة العبودية. كل ذلك التوكيد بهدف جعل حقوق الانسان مرجعية السلطة في السودان وليس أحد الأديان نظراً الى تعدد الديانات في السودان. وبالتالي قيام سلطة لا مركزية ربما بصيغة كونفيديرالية ضمن دولة وطنية واحدة.
في الخلاصة، هل نحن أمام نظام عربي جديد يأخذ عالم اليوم في الاعتبار أم نحن أمام، ما أسماه قطين المهدي مستشار الرئيس السوداني "أندلس جديدة" يحاصر فيها العنصر العربي على يد المهمشين في السودان؟
والحقيقة تقال ان أزمة السودان ليست مجرد أزمة عابرة وليست مجرد أزمة سياسية كما يراها بعضهم بل هي في العمق أزمة ثقافية. فقضايا العالم العربي على تعدّدها واختلافها تقوم اشكاليّتها على محور أساسي هو التحوّل الثقافي بكل أبعاده الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. ان تحديث المجتمعات العربية مرهون بمدى اندماج العقلانية في الذهنية العربية بما يحقق للمجتمعات العربية امكان التقدم وصناعة التاريخ.
وهذه هي الوسيلة الوحيدة لمنع تفكك السودان، ولمنع قيام "أندلس جديدة"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.