شغلته الغنائية العربية الأصيلة، وحتى يقبض على سرها، كان لا بد أن يمضي زمناً طويلاً في درس الشعر العربي، وأن يعيش في مدن عربية ويتعرف على تاريخها وثقافاتها الحديثة والقديمة ومثقفيها المعاصرين، وأن يقف أيضاً على أطلال الماضي، كالأسلاف تماماً. ذلك هو المستشرق الأميركي ياروسلاف ستيتكيفيتش ولد في العام 1929 الذي زار الرياض اخيراً برفقة زوجته المستشرقة سوزان ستيتكيفيتش،بدعوة من مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، لتدشين الطبعة العربية من كتابه "صبا نجد: شعرية الحنين في النسيب العربي الكلاسيكي"، الصادر عن المركز نفسه، وفي ترجمة للدكتور حسن البنا عزالدين. على رغم سنواته الخمس والسبعين، بدا ستيتكيفيتش نشيطاً وهو يتحدث بلغة عربية فصيحة عن موضوع كتابه وعن الجهود البحثية الأخرى التي قام بها في مجال الأدب العربي. وفي حوار مع "الوسط" يقول ستيتكيفيتش ان "الشعر العربي أصلاً وفي معظم الأحوال، شكلياً وموضوعياً، هو شعر غنائي، ومن هذا المنطلق كان لا بد أن نبدأ مع القصيدة العربية الكلاسيكية. ووجدت أن الحنين مسيطراً على الروح العربية. وكما هو معروف فالقصيدة تبدأ بالنسيب، تتعامل مع شيء شبه رثائي، الشعور بالحزن، وفقدان شيء والحنين إلى شيء آخر. لكنني لاحظت أن الغنائية كأنما بدأت تكتسب صفة سلبية في بعض الدراسات النقدية العربية، وهنا أتساءل كيف يمكن لشيء يفضح لنا النفس العربية الشاعرة، أن نسميه سلبياً، السلبيات نوع من اليأس وعدم إمكان العمل، وهذا ما لا يمكن أن يوجد في الشعر العربي الأصيل. الحنين إذن هو سر الخلاص أكثر منه الاستسلام إلى اليأس". بدأ شغف ستيتكيفيتش بالأدب العربي بصورة عفوية ولما يزل صغيراً في بلده الاصلي أوكرانيا، وذلك عبر كتابات وتنويعات شعرية ممتعة على بعض التيمات الأدبية العربية للشاعر الأوكراني إيفان فرانكو، إضافة إلى تأثره بترجمة المستشرق روكيرت لحماسة أبي تمام. وكان طموحه الأول أن يصبح مترجماً للأدب العربي إلى اللغة الأوكرانية. في كتابه "محمد والغصن الذهبي"، حاول إعادة بناء الأسطورة العربية. وحتى يتمكن من تقديم جهد مميز في هذا الخصوص، عاش مع موضوعه ثلاثين سنة، من دون محاولة الاقتراب منه عملياً. يتعلق الموضوع بفهم معين للحضارة العربية، ولكن عبر الميثولوجيا، التي هي "خميرة كل هذه الأشياء التي تظهر على السطح، وكل حضارة لها مثل هذه الخميرة. لكن أين نجد هذه الخميرة في الحضارة العربية، المحكومة بالمحظور على عكس الحضارات الأخرى؟ نعرف أنه لم يكن هناك سوى الجاهلية، وهل يمكن أن نبدأ من هذه الخطوة السلبية. وجدت أن أقوى مسألة يمكن أن نعتبرها مهمة في تكوين الحضارة العربية، هي ما تم ذكرها وفي الوقت نفسه لم يذكرها "محمد والغصن الذهبي". كان له تأثير في البيئة العلمية الاستشراقية في أوروبا والولايات المتحدة، وامتد هذا التأثير إلى الباحثين العرب من خلال كتاباته وتلاميذه وأصدقائه والذين التفوا حوله مكونين ما يسمى "مدرسة شيكاغو" في دراسة الأدب العربي. وفي احدى محاضراته بعنوان "الاستعراب والأدب العربي"، حمل على زملائه المستشرقين وطرائق دراستهم للأدب العربي، فأثار ضجة في الأوساط الاستشراقية سابقة على تلك التي أثارها إدوارد سعيد بعد ذلك بعشر سنوات. لا يرغب ستيتكيفيتش أن يتحول هو وزوجته سوزان، إلى مجرد مستشرقين منسيين وهامشين. فهو يطمح في لعب دور عميق ومؤثر في الثقافة الأميركية، وأن تعترف هذه الثقافة"بما نضيفه بخصوص الشعر العربي. طموحنا أيضاً أن يكون لنا أثر في الخطاب النقدي العربي، والمناخ الثقافي العام، وألا نكون مستشرقين منسيين وهامشيين. فنحن كما لو كنا ممزقين، من ناحية علينا أن نضيف إلى ثقافاتنا الأدبية، ومن ناحية أخرى أن نضيف إلى المناخ الثقافي العربي، نحاول أن لا نفقد الشعور بهذ الهدف المزدوج". يقول ستيتكيفيتش أن البيئة الثقافية في أميركا والاهتمام بالأدب العربي، مرتبطان بالأحوال السياسية التي لا تكون ودية في معظم الأوقات : "ومع ذلك لا نجد رفضاً تاماً لما نفعله. مثال على ذلك، كتابي الذي ترجم حديثا إلى العربية، أعتبره ناجحاً في السوق الأدبية النقدية، فقد رشح لجائزة كبيرة، كذلك رشحته أكبر دار نشر جامعية في أميركا لجائزة في الأدب المقارن. من طبيعتي عدم اليأس، لذلك لا أظن اننا فشلنا في الترويج للشعر العربي". يذكر ان إقبال الطلاب الاميركيين على عبدالوهاب البياتي الذي ربطته به علاقة صداقة: "كان أكثر من أخي، كنت أشعر تجاهه بحميمية عميقة، ولكنني لم أكن أحب شعره المتحمس للأيديولوجيا، مثلما كان المثقفون العرب يفعلون. لم أكن مقتنعاً بالالتزام الأيديولوجي للبياتي، وفي كل مرة كنت أقول له ذلك كنا نوشك ان نضرب بعضنا بعضاً. لاحقاً أعجبت بشعره، بعد ديوانه"الذي يأتي ولا يأتي"، أصبح شاعراً نابضاً، ومتجاوزاً اللعبة الايديولوجية". عرف أيضاً صلاح عبدالصبور، وأحب شعر أحمد عبدالمعطي حجازي الذي "أحببت غنائيته الطبيعية. شاعر موسيقى، سلس وحقيقي. خذ أي قصيدة له، حتى ولو كانت مرثية جمال عبدالناصر، التي وعلى رغم انني لم أكن ناصرياً، إلا أنني كنت أقرأها بشكل خاص، كما لو كنت أقرأ في كتاب مقدس". وكتب ستيتكيفيتش دراسات نقدية عن شعراء معاصرين وقدماء، ونشر أكثر من مقالة عن حجازي والبياتي وشوقي. لكنه حين يتذكر الحياة الثقافية العربية في الستينات، ويقارنها بما هي عليه الآن، لا يبدو راضياً"أشعر بحزن عندما أتأمل وضع الثقافة العربية في لحظتها الراهنة. المشكلة الكبرى، اننا فقدنا الكثير مع فقدان العراق، في الأسرة الأدبية العربية المتكاملة. وبسبب الحرب الأهلية فقد لبنان معظم طاقاته. أما مصر ولأسباب متعددة فلم ترجع إلى ما كانت عليه، إلى جذورها وحيويتها لما قبل 1967، لكن أجدني مغتبطاً بمحاولة لبنان العودة مرة أخرى إلى المشهد الثقافي، وكثيراً ما ينجح خصوصاً في مجال نشر الكتاب الأدبي الجاد لإننا لا نستطيع أن نتحدث عن الكيف في ما تنشره مصر من كتب، فنشاطها في نشر الكتاب الجاد ظاهر لكنه محدود جداً. مصر لم تعد تقود العالم العربي مثلما كانت، ولا تستطيع أن تكون رائدة باستمرار. هي الآن راكدة كثيراً. وأتساءل، إلى متى ستعيش مصر على حساب جائزة "نوبل" التي نالها نجيب محفوظ؟!". ويرى ستيتكيفيتش ان هناك حالات مرضية في الثقافة العربية الراهنة، ويجد نفسه إزاءها أسير مزاجية معينة،"أحياناً أجدني أحب أدونيس، مثلاً، وتارة أكره كل ما لديه، وأشعر أن ما يزعمه على صعيد تفجير اللغة، كله كلام بكلام ليس له أي أثر حقيقي". لكن ستيتكيفيتش، يعتقد بأن هناك مؤشرات إيجابية فيما يخص مستقبل الثقافة العربية "ثمة شيء في الأفق يظهر، وهو تأصيل وإثبات حركة قصيدة النثر والنثر الشعري. بدأنا نعترف بأنها خطوة في اتجاه مستقبلي مهم. ثمة شيء في الأفق، لم نرَ ثماره بعد ولكنه موجود" درس الأدب العربي كان جيدا قبل العام 1967، وكان الاهتمام بالأدب الحديث هو الأبرز ضمن اهتمامات الباحثين الشباب، "كان لدي في مرحلة الدكتوراه من 10 إلى 15 طالبا، كان هذا يعتبر عندنا مسألة نادرة، حتى في قسم الآداب الأخرى. لكن بعد ذلك، انهار كل شيء، لأن الهزيمة كان لها تأثيرها، حتى على الدراسات الأدبية، استمر ذلك الانهيار على صعيد الاهتمام بالدراسات العربية إلى العام 1973، ليعود الانتعاش. لكن الاهتمام لم يعد كبيراً بدراسة الأدب العربي الحديث بل تحول الى دراسة الأدب القديم لأن جمالياته أقوى، وسياسياً لم تكن المسألة تهم غالبية الدارسين". عاش ياروسلاف وتنقل بين القاهرة وبيروت وبغداد، ربطته علاقات قوية بشعراء وروائيين ومثقفين عرب. كالشاعر أحد، اعترف بها ولم يعترف بها. وهي مسألة "أهل ثمود"، من أين جاؤوا؟ هل ثمة شيء يربط الماضي الجاهلي باللحظة ا لقرآنية؟ ومع ذلك الوعي بأهل ثمود بأنهم موجودون وغير موجودين، وجدتني التفت إلى شيء معين: من هو هذا الإنسان الثمودي الذي دفن في مدينة "هجر" الثمودية؟ من هو وما قصته؟ وهي قصة جاءت عن طريق الحديث النبوي، عن انسان ثمودي مدفون، في مدينة "هجر"، العاصمة الثمودية التي انهارت ومات ودفن ذلك الانسان، ومع البحث عما هو ذلك الانسان، المعروف في الحواديث وفي التراث الفولكلوري، نكتشف أن هذا الانسان هو الذي عقر الناقة، هو المسؤول عن انهيار الحضارة الثمودية". ويقول ستيتكيفيتش: "ان جيمس فريزر لو كان عرف شيئاً من هذا القبيل، لأسس كتابه العظيم عليه، أكثر من اعتماده على "فرجيل". لقد بنى فريزر كتابه على وثائق أضعف كثيرا مما وجدته أنا في التراث العربي، فبنيت قصة ثمودية، كمؤسس لزهرة ميثولوجية في الحضارة العربية". عمل ستيتكيفيتش، حوالي 34 سنة مدرساً للأدب العربي الحديث في جامعة شيكاغو، وألف العديد من الكتب، منها "اللغة العربية الحديثة1970"، "صبا نجد: شعر الحنين إلى الماضي"،