تظل ايرين جاكوب في نظر عشاق السينما بطلة الفيلم الشهير "حياة فيرونيك المزدوجة" من إخراج البولندي الراحل كريستوف كيسلوفسكي الذي جلب لها في العام 1991 جائزة أحسن ممثلة في مهرجان كان السينمائي. لكن مشوار هذه الفنانة الحلوة ذات الصوت الدافئ بدأ قبل ذلك بأربعة أعوام عندما كانت مراهقة في فيلم "الوداع أيها الأطفال" للمخرج الفرنسي الراحل أيضاً لوي مال، علماً أنها كانت تطمح أيام الصبا إلى احتراف رقص الباليه، إلا أن حادثة تسببت في كسر ساقها وضعت حداً لهذا الطموح وأجبرتها على الإتجاه إلى نشاط فني مختلف هو التمثيل. وايرين جاكوب الآن نجمة سينمائية ومسرحية تظهر في أفلام هوليوودية وأوروبية كثيرة، غير أنها تقف دورياً فوق خشبة أكبر مسارح لندنوباريس في أعمال درامية كلاسيكية لأدباء من أمثال تشيخوف وخوليو كورتازار وستيفان زفايغ أو حديثة مثل مسرحية "مدام ملفيل" التي عرضت في لندن من بطولة إيرين والممثل الأميركي ماكولي كالكين، ثم "فتيات باللون الوردي"، وهو عمل فكاهي لاقى بعض النجاح في باريس قبل عام مضى. وتمارس جاكوب مهنتها الفنية بتواضع مميز من دون أن تعير الشهرة أو الثروة أي أهمية، وانطلاقاً من هذا المبدأ تشارك الفنانة في قراءة أعمال أدبية مثلاً في مسارح أو مكتبات متخصصة وذلك من دون مقابل سوى متعة إلقاء نص يعجبها والسماح للجمهور باكتشافه. وكم من مرة ظهرت في أفلام مستقلة صغيرة الحجم من ناحية الإنتاج ومن إخراج فنان مجهول أو مبتدئ لمجرد أن فكرة السيناريو أعجبتها، وبالتالي أرادت الدفع بالمشروع إلى الأمام مستخدمة اسمها ومكانتها الفنية كعنصر لمصلحة العثور على إمكانات لتوزيع الفيلم وإثارة اهتمام الإعلام به. تدل كل هذه النشاطات على كيفية تأقلم جاكوب مع أعمال مختلفة عن بعضها البعض، وبحثها المستمر عن التقدم وعدم الاكتفاء بما حققته. وحول نظرتها إلى مهنة التمثيل وطريقتها في معايشتها والدمج بينها وبين حياتها الشخصية حاورت "الوسط" ايرين جاكوب في إحدى قاعات مسرح "شايوه" الباريسي حيث تمثل حالياً دور البطولة في مسرحية تحمل عنوان "داروين". تمثلين في أفلام ناطقة بالإنكليزية في أكثر الأحيان ويحدث أن تتكلمي بلكنة روسية من أجل الدور، إضافة إلى عملك بالفرنسية طبعاً، فما أصلك بالتحديد؟ - أنا فرنسية مئة في المئة، لكنني كبرت في جنيف لأن عائلتي كانت مستقرة هناك، ووالدي من أشهر الأطباء في سويسرا. أما عن حكاية الأدوار فأنا أجيد أصلاً الفرنسية والإنكليزية والإيطالية والاسبانية والألمانية وأقدر على اتخاذ لكنة روسية أو أي واحدة أخرى بلا صعوبة بفضل ميلي الشديد إلى اللغات بشكل عام. ما الذي جاء بك إلى الفن أساساً وأنت إبنة طبيب؟ - عائلتي متزمتة وصارمة إلى حد كبير، وربما أن طريقة تربيتي جعلتني أبحث عن مفر وعن شيء مفرح ومثير للخيال، فأخترت رقص الباليه، علماً أنه من أصعب الفنون ويتطلب شدة فائقة في التدريب ما يدل على أن المرء لا يتخلص أبداً من تربيته الأصلية. لقد أُصبت في حادثة بكسر في ساقي فانتهت حياتي الفنية كراقصة باليه على الفور، واضطررت إلى التفكير في وسيلة ثانية لممارسة نشاط فني، ووجدت أن التمثيل المسرحي أقرب ما هو موجود بالنسبة إلى الرقص الكلاسيكي فتعلمته وبدأت أشارك في مسرحيات في جنيف ثم في باريس. زمن هوليوود يعتقد الجمهور السينمائي الذي يعرفك من خلال فيلميك بإدارة السينمائي الراحل الآن كريستوف كيسلوفسكي "حياة فيرونيك المزدوجة" و"أحمر"، أنك اكتشافه وأنك فقدت بريقك عقب رحيله، فما رأيك في هذا الكلام؟ - رأيي أن الحكاية فيها بعض الصحة طبعاً، لكنها خاطئة في اجمالها، لأنني عشت حياة فنية مسرحية قبل أن يختارني كيسلوفسكي للعمل في فيلمه "حياة فيرونيك المزدوجة"، ولأنني بعد رحيله لم أتوقف بتاتاً عن العمل سواء في السينما أو المسرح. والصحيح في الموضوع هو كوني عثرت مع كيسلوفسكي على أجمل دورين مثلتهما في حياتي حتى الآن في السينما، فالرجل أحبني كممثلة وعرف كيف يصورني ويستغل ملامحي وموهبتي الفنية على أحسن وجه. وانني محظوظة من هذه الناحية، لأن كثيرات من الممثلات يقضين عمرهن الفني من دون العثور على مخرج واحد يبرز أفضل ما يتمتعن به عبر الكاميرا، فقد ولى زمن هوليوود الذي شهد غريتا غاربو وأفا غاردنر وريتا هيوارث في أدوار لن تتكرر ولا تعوض أبداً. وأنا بالتالي مدينة بالكثير لهذا الرجل، وشهرتي الحالية تعود أولاً وأخيراً إليه، لكنني لم أنته من بعده، لا سينمائياً ولا مسرحياً، وأشكر السماء على ذلك. ظهرتِ حديثاً فوق خشبة أحد المسارح اللندنية أمام الممثل الأميركي ماكولي كالكين، فلماذا تم اختيارك أنت بالتحديد؟ - لأن الدور النسائي في هذه المسرحية هو دور امرأة فرنسية تعيش في باريس وتعلّم اللغة لطلاب أميركيين، فأعتقد أن اختيار ممثلة فرنسية تتكلم الإنكليزية بلكنتها الطبيعية كان أفضل من اللجوء إلى فنانة بريطانية مهما كانت موهبتها. وأما عن سبب اختيار المخرج لي بدلاً عن غيري من الزميلات الفرنسيات، فهو سؤال لا أعرف كيف أرد عليه، والمخرج نفسه بطبيعة الحال. عرفنا أن المسرحية أعيد تقديمها في نيويورك مع الممثل نفسه، ولكن مع ممثلة إنكليزية تقيم هناك اسمها جولي ريتشاردسون، فما سبب عدم ذهابك إلى نيويورك لإتمام ما بدأت عمله في لندن؟ - كنت مرتبطة بأعمال أخرى في السينما والمسرح ولم أرغب في التنازل عنها من أجل الاستمرار في تقديم المسرحية نفسها، وأعرف أن جولي ريتشاردسون نجحت في النطق بلكنة فرنسية رغماً عن عدم تمتعها بأدنى علاقة مع هذه اللغة أصلاً، ولولا ذلك لفقد العمل من قدرته على الاقناع طبعاً. ومن العيوب المميزة في شخصيتي ومزاجي، عدم تحمل أداء الدور نفسه في كل ليلة لمدة شهور طويلة بل سنوات مثلما يحدث بكثرة في المسرح. انني في حاجة مستمرة إلى التجديد وإلا شعرت بالملل، وإذا فقدت متعتي فوق الخشبة فلا فائدة أبداً من وراء محاولة الاستمرار، خصوصاً أن العمل ككل سيصاب بضرر جسيم إذن. تعملين الآن فوق خشبة مسرح "شايوه" في مسرحية "داروين" الناجحة، وأنت، كما نلاحظ بوضوح، تنتظرين مولوداً، ألا ترتاحين أبداً؟ - أنا مولعة بعملي ولا أتخيل نفسي في اجازة منه، فالتمثيل يضيء حياتي ويساعدني في الحفاظ على اتزاني النفسي، وأنا فعلاً أشارك الآن في مسرحية "داروين" الجديدة التي هي في رأيي من أجمل الأعمال الفنية المقدمة في باريس في الموسم الحالي، فهل توجد من ترفض مثل هذه الفرص الفنية؟ وبالنسبة إلى حكاية المولود، فالطبيب سمح لي بالعمل إلى حين بلوغي الشهر الثامن من فترة الحمل شرط أن تدل الفحوصات أن كل شيء على ما يرام، وهذه هي الحال الآن. وهل تعرف ماذا تكون هوايتي المفضلة في كل صباح، خصوصاً منذ أن عرفت انني حامل؟ أصعد إلى سطح بيتي وأمشي فوقه عشر دقائق لأشم الهواء البارد وأنتعش ثم أنزل إلى شقتي من جديد، علماً أن السطح مائل وليس محاطاً بأي حاجز تضحك. المعادلة الصعبة كيف تدمجين بين حياتك الشخصية ومهنتك الفنية؟ - أعثر في كل واحد من العنصرين على تكملة للثاني، بمعنى انني لا استطيع العيش سعيدة بلا عملي الفني، مثلما ذكرته من قبل. ومن ناحية ثانية أعجز عن خوض حياتي بلا رجل أحبه وبلا عائلة أنتمي إليها وتنتمي إلي أيضاً، والفن في هذه الحال يصبح فارغاً ومجرداً من كل معنى. لكن المعادلة الصعبة تكمن في عدم التقصير مع العائلة ولا مع الحبيب لمصلحة المهنة، وأنا أعتقد بأنني نجحت حتى الآن في ارضاء الحبيب وفي تفادي المشاكل، إلا أن هناك نقطة جديدة في حياتنا المستقبلية الآن وهي قدوم الطفل، وأنا أثق بنفسي وأعرف انني سأعثر على الحلول المناسبة من أجل أداء واجبي كأم من دون التضحية بمهنتي، وهذا على الأقل ما أتمناه، ثم أن شريك حياتي يعمل أيضاً في الحقل الفني وهو بالتالي يراعي القواعد نفسها. كثيراً ما نسمع الفائزات بالجوائز من خلال لقاءاتنا بأنهن لا يصدقن حكاية التفرقة بين الفنانين والأعمال الفنية، وبأن ليست هناك ضرورة في الحقيقة للحكم على الفن بهذا الشكل أو انتخاب "أحسن فيلم" أو "أحسن ممثلة"، فما موقفك الشخصي من هذه الحكاية، خصوصاً أنك حصلت في عام 1991 على جائزة أحسن ممثلة في "كان"؟ - أفهم المقصود بكلامهن، فالفيلم الفائز لا يلغي أو يقلل من قيمة الأفلام التي لا تفوز والممثلة الفائزة ليست فعلاً "أحسن ممثلة"، فالعملية نسبية تماماً وتفيد كثيراً في تدعيم دعاية الأعمال صاحبة الجوائز عند نزولها إلى الأسواق العالمية، وكم من فيلم فائز عثر على توزيع في دول لم تكن مستعدة لإقتنائه لولا موضوع الجائزة. ويصعب عليّ تصديق أي فنانة فائزة تدعي أن الأمر لا يهمها وبأن الأوسكار أو غيرها من الجوائز لا تتعدى كونها "ميزة إضافية" في لحظة ما من عمرها الفني. إن الجوائز تفتح أبواب المستقبل أمام أصحابها وتسهل عليهم فرض شروطهم المالية وحسن اختيار أدوارهم في ما بعد، وأنا لا أعرف فناناً لا تعنيه مثل هذه المزايا. وللعودة إلى وضعي الشخصي، فأنا أؤكد لك أن جائزة "كان" عن دوري في "حياة فيرونيك المزدوجة" أطلقتني إلى القمة بسرعة البرق وسمحت للعثور على موزعين للشريط في العالم كله. هل يمكن سؤالك عن عمرك؟ - أنا لا أخفي عمري عن وسائل الإعلام، فقد احتفلت أخيراً بعيد ميلادي الرقم 36