البروفسور الاميركي بلير فان فولكبنبرغ، أستاذ علوم الانسان في جامعة كاليفورينا، كان دوماً طائراً مغرداً خارج سربه العلمي. وهذا ليس حباً بالظهور او مفاخرة بالذات. على العكس. الرجل اشتهر بالتواضع الشديد والقناعة التي اقتربت من حد الزهد. البروفسور لم يكن قانعاً بشيء آخر: النظريات الاجتماعية التي باتت بديهية، والتي تعتبر أن التطور في شتى أشكاله لا يعني سوى شيء واحد: التقدم الى أمام. ولذا فهو انبرى مع فريق من علماء جامعة كاليفورنيا لمحاولة الاثبات بأن هذه البديهية ليست بديهية على الاطلاق. حصيلة سنوات أبحاثه الطويلة نشرها فان فولكبنبرغ في مجلة "ساينس" وضمنّها المعطيات الرئيسة الآتية : الانتخاب الطبيعي، او التطور، لا يهتم بالمستقبل. ولذا من المحتمل، نظرياً، ان يؤدي هذا التطور ليس الى تقدم وازدهار مخلوق ما، بل الى دماره وفنائه. البقايا المتحّجرة للعديد من الثدييات التي تمت دراستها، تشير الى تكرار ظاهرة تطور تؤدي بالفعل الى الفناء. أبرز هذه الثدييات كانت فصيلة من الكلاب التي يدعوها علماء الحيوان "كانينا". قبل 50 مليون سنة كانت هذه الفصيلة صغيرة الحجم وتعتاش على فرائس صغيرة. لكن تطورها من مخلوقات صغيرة الى كبيرة وهذا أحد القوانين الرئيسة للتطور الطبيعي، جعلها تتخصص في فريسة كبيرة واحدة. وحين انقرض هذا النوع من الفرائس، انقرضت أيضاً الفصيلة، لأنها لم تعد تجد ما يكفيها من طعام، وأيضاً لانها لم تستطع التأقلم سريعاً مع ضرورات تنويع مصادر طعامها. تبيّن أن معدلات بقاء الحيوانات الكبيرة المتطورة والمتخصصة بطعام واحد، هو ستة ملايين سنة. فيما معدل بقاء الحيوانات الصغيرة هو 11 مليون سنة، أي نحو الضعف. ماذا يعني، او يجب ان يعني، هذا الاكتشاف المذهل بالنسبة الى البشر؟ الكثير. فهو ينسف، أولاً، تلك القناعة الراسخة المريحة والخاطئة بأن جنسنا يتطور دوماً الى الامام، وانه غير مهّدد بالزوال. من المحتمل جداً، وفق نظرية فان فولكبنبرغ، ان يكون تقدمنا الراهن وصفة ممتازة لانقراضنا المقبل. لماذا؟ لأننا، مثل تلك الكلاب الكبيرة و"المتخصصة"، كبرنا وأدمّنا على "وجبة" واحدة هي استنزاف موارد الطبيعة بلا حساب، والاخلال بتوازناتها بلا تدقيق. وحين ستقرر الطبيعة الرد، وهي سترد حتماً، سنكون على لائحة المخلوقات المعرضة للانقراض. وهو الاكتشاف، يشير ثانياً، الى ان التقدم في مجال التكنولوجيا، لن يكون بالضرورة، هو الاخر، تطوراً ايجابياً. فالعديد من العلماء يحذّر الآن من أن تؤدي التكنولوجيا المنفلتة من عقالها الى سيطرة الآلة على الانسان، وبالتالي الى نهاية الجنس البشري. ثم أن هذا الاكتشاف، أخيراً، يجب أن يكون حافزا للبشر على التواضع، وعلى تصفية الحساب مع تلك الفكرة المجنونة التي جعلتهم يفتكون بالطبيعة ومخلوقاتها وبيئتها، بذريعة أن "سّيد الكون والمخلوقات" مخّول بتخريب الكون ومخلوقاته كيفما يشاء. انتقام "غايا" هذه المحصلات كان يجب ان تقرع أجراس الانذار بقوة في أرجاء العالم، خصوصاً ان دراسة فولكبنبرغ تقاطعت مع مئات الدراسات الاخرى التي تؤكد أن مناخ الارض لم يعد يتحمل الملوثات الصناعية القاتلة التي يتسبب بها الانسان، وأن الطبيعة سترد على هذه العربدة البشرية عاجلاً وليس آجلاً. يقول البروفسور البريطاني جيمس لافلوك: "كوكب الارض الغاضب الذي يسميه "غايا" لأنه يتصرف كمخلوق عضوي واحد سيحاول إعادة التوازن الى الطبيعة. بيد أن ذلك سيعني إزالة الحضارة ومعظم الجنس البشري". ويضيف: "ان جنسنا وضع نفسه في حال حرب مع الارض نفسها. وحدها الكوارث الان يمكن أن توقف هذه الحرب التي يدمّر فيها التلوث الصناعي البشري الاعمى المناخ وتوازنات الرياح والمحيطات". آثار أقدام "حال الحرب" هذه مبعثرة في كل مكان: 1- فقد شهدت حقبة التسعينات أسخن جو في نصف الكرة الشمالي منذ ألف عام. و ترافق ذلك مع ارتفاع مستويات البحر من 4 الى 8 انشات خلال القرن الماضي، أي عشرة أضعاف ما كان عليه قبل 3 آلاف سنة. كل هذا حدث كما تؤكد لجنة "تبّدل الطقس الاميركية" بسبب غابات الحبيسة التي يطلقها الانسان، مثل ثاني أوكسيد الكربون، والميثان، وأوكسيد النيتروس. 1- وتائر حرائق الغابات في أميركا الشمالية، والذوبان المفاجيء للثلوج في اوروبا، قد تكون البدايات الاولى لانقلاب نهائي في المناخ، ربما يعيد انتاج عصر جليدي جديد. 2- تلّوث البحار والمحطات الكبرى يزداد سوءا، وهو سيؤدي عاجلا ام آجلا الى كوارث طبيعة ضخمة، وخسارة العديد من الثروات السمكية، وتدهور الانظمة البيئية على السواحل والجزر، وتفاقم الامراض والاوبئة. ومؤخراً، شهد العالم عيّنة بسيطة، مجرد عينّة، من الاعظم الآتي، حين أدت فيضانات "غير عادية" الى مصرع 900 واصابة وتشريد مئات الألوف في بنغلاديش، وحين اجتاحت فلوريدا أعاصير مفاجئة أذهلت العلماء والمسؤولين الاميركيين في آن، وخلّفت وراءها خراباً بقيمة 10 بلايين دولار، وحين دمّرت فيضانات غير متوقعة منطقة بوسكاسل الانكليزية، في وقت كانت الحكومة البريطانية تعلن أن احصاءاتها، تشير الى أن الاضرار السنوية من الفيضانات في الممكلة المتحدة ستقفز من بليون جنيه استرليني الى 21 بليوناً. هذه الانقلابات في الطبيعة دفعت "نيويورك تايمز" الرزينة الى التخلي عن رزانتها موقتاً، فجهرت بالصوت، وزمجرت بالغضب، وكادت ان تتهم الرئيس جورج بوش بأنه يتحالف مع الاعاصير والزوابع ضد الامة الاميركية وكل البشر. قالت: "يتساءل المرء: ماذا يمكن ان يحرّك بوش ويوقظه من نومه وبلادته حول مسألة سخونة المناخ. أينما يمم المرء وجهه هذه الايام، لندن، موسكو، وحتى مقاطعة واشنطن الانتخابية يجد الدليل على وجود فقدان صبر متزايد إزاء رفض واشنطن مواجهة هذا التهديد الكبير". وتابعت: "على رغم ان الروابط بين السخونة العالمية وبين سلسلة الاعاصير في فلوريدا لا تزال نظرية، إلا ان الطقس نفسه يبدو وكأنه يقول للسياسيين أن الوقت حان لبدء الاهتمام بهذه المسألة الخطيرة". قبل صرخة الحرب هذه، كان سياسيون أميركيون وبريطانيون يعترفون للمرة الاولى بأنه لم يعد بالامكان "لفلفة" قضية تغيّر المناخ. فتوني بلير، رئيس الوزراء البريطاني، وصف بشجاعة أخيراً سخونة الجو بأنها "أعظم تحد بيئي في العالم". والسيناتور الاميركي جون ماكين كان أشجع بكثير، حين ارتاد أرضا قلة من السياسيين تجرأت على أن تطأها، عاقداً العلاقة بين موسم الاعاصير الكارثية في الولاياتالمتحدة وبين تغّير المناخ. خسائر التغيرات المناخية لا بل أكثر: امتد الصراخ الى الرأسماليين أنفسهم، فعمدت منظمة شركات الضمان البريطانية التي تضم بعض أغنى الشركات في العالم الى نشر تقرير مجلجل نادر حول تأثيرات تغيّر المناخ، قالت فيه أن مضاعفات بالاحرى كوارث الاحترار العالمي بدأت بالفعل. وبالتالي بات على الدول والمجتمعات أن تخصص موازنات، لتغطية زيادة المخاطر الناجمة عن الحرارة والعواصف والفيضانات. وقدّرت المنظمة أن الخسائر الناجمة عن الكوارث الطبيعية زادت سبعة أضعاف خلال السنوات الاربعين الماضية، وان المخاطر الناجمة عن كوارث المناخ سترتفع بنسبة قدرها 2 الى 4 في المئة سنويا. وبلغة الارقام، ستكلّف الفيضانات التي ستضرب بريطانيا الساحلية خلال السنوات المقبلة شركات التأمين أكثر من 40 بليون جنيه استرليني. وفي الوقت ذاته، كان رون أوكسبرغ، رئيس شركة "شل" النفطية التي تعتبر من اكبر شركات البترول في العالم، يقول في مقابلة مع "الغارديان": "أن تهديد تغيّر المناخ، يجعلني قلق كثيرا على مصير كوكبنا. اننا في حاجة ماسة الى "اعتقال" انبعاثات غازات الحبيسة المسّببة لسخونة الجو، خاصة ثاني اوكسيد الكربون، وخزنها تحت الارض، وفق تقنية يطلق عليها اسم "حجز الكربون". هذان الاعترافان كانا الاولان من نوعهما. إذا درج قباطنة الرأسمالية على التأكيد دوماً بأن العلم لم يثبت بعد ان تغّير المناخ سببه غازات المصانع. وهكذا قال لي رايموند، رئيس شركة النفط "اكسون - موبيل" أخيراً: "نحن في ايكسون - موبيل، لا نعتقد بأن العلم أثبت وجود علاقة ما بين الوقود الاحفوري وبين الاحترار العالمي". وهكذا أيضا، كان معظم الشركات العالمية الكبرى يرفض أي \ وكل اقتراح لاعادة النظر في كيفية استهلاكها للطاقة، ناهيك بتوفير التمويل للأبحاث حول طاقة الريح والشمس، بحجة ان ذلك يضعف قدراتها التنافسية. هل يعني تقريرا منظمة التأمين البريطانية ورئيس شل، أن بعض حس المسؤولية لدى بعض الرأسمالين العالميين بدأ يستفيق بالفعل؟ ليس بالنسبة الى منظمات التأمين. فهذه لم تتحرك بدافع روحي نبيل هو إنقاذ الكوكب الازرق من الكوارث المناخية الزاحفة، بل بدافع مادي أناني هو إنقاذ نفسها من دفع أثمان هذه الكوارث.وليس أيضا، على الارجح، بالنسبة الى رئيس شل نفسه، على رغم تصريحاته الشجاعة التي ألبّت عليه كل أقرانه في صناعة الطاقة. أو هذا، على الاقل، ما تراه منظمات البيئة الدولية، التي تقول أن فكرة "خزن الكربون" تحت سطح البحر او الارض، مكلفة للغاية. وبالتالي فهي مجرد ستار دخان لتبرير مواصلة الاعتماد على الوقود الاحفوري. ويوضح بريوني وورثينغتون، احد مسؤولي منظمة "أصدقاء الارض"، هذه النقطة بقوله: "ليس موقفاً مسؤولاً القول بأننا سنتعهد القيام بخزن الكربون لكن إذا لم ينجح ذلك فإن الارض ستخرب. انه رئيس شل كان ذكياً جداً حين قال انه قلق للغاية من تغّير المناخ، بيد انه في الوقت ذاته لم يتعهد بأي شيء من شأنه تبديد هذا القلق". ثمة شكوك عميقة، إذاً، حول هذين الاعترافين. لكنهما، على رغم ذلك، يعتبران أول وثيقة تصدر عن الدوائر الرأسمالية الرئيسة، تؤكد وجود رابط قوي بين تغّير المناخ وبين التلويث الصناعي، وتعترف بأن الكوارث المناخية باتت على الابواب. وهذا شرخ مهم في الجدار الايديولوجي الرأسمالي يجب ان تنفذ منه الحركات البيئية والديموقراطية في العالم، لأجبار حكومات الغرب كما الشرق على بدء التفكير بتغيير أنماط الانتاج الحالية. بالطبع، هذه لن تكون مهمة سهلة. لكنها معركة يجب خوضها وكسبها، إذا ما أردنا إنقاذ الحياة على كوكب الارض من "يوم الآخرة" الذي ينتظرها بفعل تغّير المناخ. وهو يوم باتت تفاصيله وحيثياته أكثر من معروفة: 1- ارتفاع مفاجيء في درجة حرارة الارض وبدء ذوبان المجالد الكتل الضخمة من الجليد الدائم في القطب المتجمد الجنوبي أو غرينلاند. 2- اختلال كبير في تيارات المحيط، واجتياح الامواج البحرية العملاقة لكل المناطق الساحلية، خصوصاً في نصف الكرة الشمالي. 3- وأخيراً حلول عصر جليدي جديد يقضي على كل البشر كما قضى عصر جليدي آخر قبل 60 مليون سنة على الديناصورات. لكن هل الرأسمالية، وهي النظام الاقتصادي - السياسي - الثقافي المهيمن على كل العالم الآن، مستعدة لتكييف مناخاتها الايديولوجية مع المتغيرات الخطرة في مناخ الأرض؟ تقدمية الرأسمالية لا بد من القول، اولاً، أن الرأسمالية هي أكثر أنماط الانتاج دينامية ونجاحاً في التاريخ. وهي كانت ثورة تقدمية حديثة نقلت المجتمعات البشرية من عهود الاقطاع والزراعة البدائية والتقاليد الجامدة، الى عصور الحداثة والصناعة والتكنولوجية المتطورة. وهذه حقيقة لا ينفيها حتى عدو الرأسمالية الأول كارل ماركس. لكن في لحظة ما، قد تنقلب تقدمية الرأسمالية الى رجعية خطرة، إذا ما بدأ نمط انتاجها يتناقض ويتضارب مع قدرة كوكب الأرض على تحمل مضاعفاته. فالرأسمالية، كما هو معروف، تتطلب نمواً اقتصادياً سريعاً ودائماً. تاريخياً، تم تقديم الافتراض الصحيح عموماً بأن الاقتصادات الرأسمالية ستتمتع بنسبة نمو تبلغ 3 في المئة سنوياً. ومع مثل هذه النسبة، يجب ان يزداد نمو الاقتصاد العالمي 16 مرة خلال قرن واحد، و250 مرة خلال قرنين، و4000 مرة خلال ثلاثة قرون. قد تبدو هذه مجرد لعبة حسابية. بيد أنها تظهر كيف ان الاقتصاد الرأسمالي المتوّسع أبداً، لن يستطيع في النهاية ان يتعايش مع المعطيات البيو - مناخية لكوكب الأرض. والحل؟ لجنة كبار العلماء التي كلفها البيت الابيض دراسة ظاهرة تغّير المناخ وكيفية مواجهتها، أعلنت في تقريرها أن خفض انبعاثات الغازات الى أكثر من النصف خلال هذا القرن، أمر ضروري لوقف التغيير البشري لمناخ الارض. لكنها أضافت أن هذا يؤدي الى وضع سياسات ناجعة تفرض تكاليف على مجتمعات اليوم، لكن من دون فوائد مؤكدة تعود على مجتمعات المستقبل. هذه "الفجوة الاجيالية" بين تكاليف اليوم وفوائد الغد، هي التي تخلق الان الجدل الكبير حول تغير المناخ. فمن جهة، ثمة من يقول أساساً في أوساط الشركات متعددة الجنسيات ان سخونة الجو "مجرد خدعة أو مؤامرة "اخترعها علماء متآمرون يريدون اغتصاب سيطرة الحكومة على الاقتصاد بهدف جني الاموال العامة الطائلة. ومن جهة اخرى، هناك من يحّذر بأن تغّير المناخ خطير الى درجة أنه بات يتطلب إعادة تنظيم فورية وشاملة للاقتصاد الصناعي الحديث. وهذا النوع من الجدل يقود الان الى ثلاثة خيارات استراتيجية: الخيار الاول المتمحور حول التأقلم والابداع يفترض أن حوادث ومخاطر تغير المناخ، تقارن ببساطة بالتحديات البيئية الاخرى التي نجحت المجتمعات المعاصرة في التأقلم معها. وهذه الاستراتيجية تحّبذ توسيع الاستثمارات الراهنة في البحث العلمي، وتحسين القدرة على التأقلم مع تغيرات الطقس، وتخصيص الموارد لابتداع تكنولوجيات جديدة تسمح بانبعاثات غازية أقل في المستقبل. ويفترض هذا الخيار أن تغير المناخ حتمي، وبالتالي الاستثمار في عملية التأقلم معه أمر ضروري. الاستراتيجية الثانية تطوير اتفاقات كيوتو تنتهج طريقاً مختلفاً بشكل راديكالي. فهي تشّدد على ان تغيّر المناخ يمكن أن يتسبب في تحولات مفاجئة وربما كارثية في انماط الطقس او مستويات البحر. وبالنسبة الى البشر، التأقلم مع ذلك قد يكون مكلفاً للغاية. اما بالنسبة الى الطبيعة فانه سيكون مستحيلاً وسيؤدي الى انقراض واسع النطاق للمخلوقات الحية والى خسارة أنظمة بيئية فريدة. ومن هذا المنظور، الرد المعقول الوحيد هو تبني اجراءات قوية للسيطرة على انبعاثات الحبيسة بهدف تخفيف تغير المناخ من جذوره. وها يمكن أن يتم من خلال اتفاقات كيوتو بعد اصلاحها وتطويرها، مع فرض عقوبات على من يرفض الالتزام بشروطها. الاستراتيجية الثالثة "اليد الخفية للسوق"، تعترف بالحاجة الى جهد دولي مشترك للسيطرة على الانبعاثات، لكنها ترفض اتفاقات كيوتو بصفتها غير واقعية وقاسية. ويجادل أصحاب هذا الخيار بأن أكثر الانظمة الدولية فعالية، مثل منظمة التجارة الدولية، ظهرت من تحت الى فوق بعد عقود من الجهود. وهذا يمكن أن يطبق ايضا على مسألة تغير المناخ، عبر خلق سوق لتبادل كوتات الانبعاثات بين الدول. الانسان والطبيعة هذه هي الاستراتيجيات الرئيس المطروحة الان أمام أصحاب القرار في الولاياتالمتحدة، التي تعتبر الملوث الاول للبيئة في العالم. فأيها سيختارون؟ إدارة بوش انحازت في وقت مبكر الى الخيار الاول. فهي انسحبت العام 2001 من اتفاقات كيوتو. ثم عمدت في شباط فبراير 2002 الى الاعلان عن مقاربة بديلة، تستند الى اجراءات اختيارية تقوم بها الشركات، وعن استثمارات في مجال الابحاث والتطوير لابتداع تكنولوجيات جديدة مثل خلايا الوقود الهايدروجيني للسيارات ومصانع الفحم منخفضة الانبعاثات.وقد ركّز الرئيس بوش آنذاك على "اللايقين" الذي يحيط بالنظريات حول سخونة الجو، وقال أن الحل لايكمن في تقييد التكنولوجيا بل في تشجيعها على تطوير البدائل. حسنا. تطوير البدائل مسألة مهمة، لكنه عملية ستستغرق على الاقل أكثر من أربعة عقود قبل ان تصبح ناجحة اقتصاديا ومربحة تجاريا.فهل يستطيع مناخ الارض العليل، الانتظار كل هذه الفترة المديدة؟ أنصار البيئة جماعات الخضر، وخصوم "العولمة المتوحشة"، ومعهم قطاعات واسعة من الديموقراطيين - الليبراليين الذين باتوا يخشون من قيام الرأسمالية النيو- ليبرالية ليس فقط بتدمير بيئة الحياة بل حتى بيئة الديموقراطية نفسها بوصفها أثمن انتاجات البشرية، كل هؤلاء بدأوا يدركون أهمية العمل المشترك لمحاولة تغيير العلاقات الراهنة بين نمط الانتاج الرأسمالي وبين بيئة الارض. بعض هؤلاء يدعون الآن الى رفض العلم والحداثة برمتهما ومنح الاولوية ل"مركزية الطبيعة" على "مركزية الانسان". لكن هؤلاء قلة تطغى عليها الرومانسية والمثل غير القابلة للتطبيق. الاغلبية تنحو إما لاضفاء مسحة انسانية على النظام الرأسمالي الراهن، عبر الدعوة الى "تخضير" منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي، أو الى إعادة تنظيم جذرية للعلاقات بين الانسان والطبيعة. كتب جون بيلامي فوستر، في مؤلفه "الايكولوجيا والرأسمالية": "علينا أن نعيد النظر في علاقة الانسان بالطبيعة، انطلاقاً من ادراك القيمة الكامنة في العالم الطبيعي والعمل على الحفاظ عليها. لكننا في حاجة أيضاً الى الاعتراف بأنه ليس في وسعنا تجنّب تحويل الطبيعة في خضم عملنا وعيشنا فيها. وفي هذا الاطار، هدفنا يجب أن يكون تغيير الطبيعة بطريقة مستدامة، وتطوير علاقتنا معها في اطار تنظيم عقلاني جديد... وحديث". أفكار جميلة. لكن هل هي قابلة للتطبيق؟ يجب الاعتراف، من أسف، أن البروفسور جيمس لافلوك على حق: وحدها الكوارث الآن بإمكانها وقف حروب الانسان الانتحارية ضد بيئة الارض. كل ما يمكن فعله هو الصلاة لان تكون الكوارث البيئية المقبلة وهي مقبلة حتماً، محدودة لا شاملة، بحيث يتمكّن من سيتبقى من البشر من إعادة بناء علاقة سوية مع أمنّا الطبيعة، وأيضاً من تجنّب نظرية البروفسور فولكبنبرغ الصحيحة حول التقدم الى الوراء. إلى الهاوية