على رغم ما يعانيه مناخ الأرض من اضطرابات خطيرة، فإن ثمة «غيبوبة» ملحوظة عربيّاً عن إدراك فداحة ذلك الاضطراب وآثاره الكوارثيّة. وتشمل الغيبوبة معظم الأوساط الرسميّة والشعبيّة، على رغم شمول الدول العربيّة (أسوة بدول الجنوب كلّها) بالتأثيرات السلبيّة الفادحة للتغيّر في المناخ التي ثبت علميّاً أنها تؤثر بصورة شاملة في السياسات الزراعيّة والتوجهات الصناعيّة والاقتصاديّة، بل مختلف مناحي الحياة اليوميّة للشعوب. وفي معظم الدول العربيّة والنامية، تتحمّل جموع الفقراء ومحدودي الدخل عواقب التغيرات المناخية الموجعة، خصوصاً حدوث كوارث على هيئة فيضانات جارفة وأعاصير مدمّرة وموجات جفاف وقحط قاسية. ويكاد يجمع العلماء على إدانة الاستمرار في اتّباع الأساليب الحاضرة في الحصول على الطاقة عبر حرق الوقود الأحفوري ما يتسبّب بارتفاع انبعاثات غازات التلوّث المرتبطة بتفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري. ويشيرون إلى أنّ ذلك سيؤدي خلال ما يتراوح بين 50 و100 سنة، إلى ذوبان هائل للكتل الجليديّة الكبرى، وانقراض أنواع كثيرة من الكائنات الحيّة، وتفاقم ظواهر الجفاف والتصحّر في مناطق واسعة من أفريقيا وجنوب آسيا وشمال غربي أميركا. ويحذرون أيضاً من تدني إنتاج الغذاء عالميّاً بالترافق مع تفاقم التوترات المناخيّة المدمّرة التي تتغذّى من ارتفاع مستويات غاز ثاني أكسيد الكربون وغيره من الغازات الملوّثة للغلاف الجوّي. والمفارقة أنّ هناك أزمة «معاكسة» تتمثّل في إهدار البشر الغذاء إلى حدّ أن ثلث سكان العالم يهدر 750 بليون دولار من الغذاء سنوياً. اتّفاقات منجزة وتواقيع «منسحبة» يدور جانب كبير من الجدل حول تغيّر المناخ ضمن أطر دوليّة وإقليميّة، ما يؤكّد ضرورة المشاركة على المستوى الكوني في إنقاذ الغلاف الجوي وحماية المستقبل المشترك للبشر. وفي أوقات سابقة، دعت اتفاقيّة دوليّة عن المناخ حملت اسم «بروتوكول كيوتو» (1997) إلى البدء بتخفيض انبعاثات غازات التلوّث بنسب صغيرة تتوالى حتى عام 2012. وفي عام 2015، وقّعت دول العالم كلّها (عدا سورية ونيكاراغوا)، اتفاقاً إطاريّاً ملزماً عن مكافحة الاضطراب في المناخ، حمل اسم «اتّفاق باريس». وتضمّن الاتفاقان توزيعاً متقناً لحصص الدول في خفض غازات التلوّث، وكذلك تحديد مسؤولية الدول عن اضطراب المناخ مع التشديد على المسؤولية الكبيرة للدول الصناعية في ذلك الشأن. ومهرت الولاياتالمتحدة الاتفاقين كليهما بتوقيعين من رئيسين ينتميان إلى الحزب الديموقراطي (وقع بيل كلينتون «اتّفاق كيوتو» وباراك أوباما «اتّفاق باريس»)، قبل أن يأتي رئيسان من الحزب الجمهوري ليسحبا توقيعي سلفيهما الديموقراطي (سحب جورج دبليو بوش توقيع كلينتون، وترامب توقيع أوباما). وفي الاتفاقين أيضاً، تذرّعت الولاياتالمتحدة بعدم التناسب في الشطر الذي نُسِبَ إليها من المسؤولية عن التلوّث، بالمقارنة بدول ملوّثة اخرى كالصين والهند وروسيا. وأدّى سحب توقيع كلينتون عن «اتّفاق كيوتو» إلى إفقاده فعاليّته كإطار قانوني ملزم للدول في مكافحة التغيّر في المناخ. ولم يحصل أمر مماثل مع «اتّفاق باريس» حتى الآن، نظراً لتبرع دول كبرى، خصوصاً الصين وروسيا ودول «الاتحاد الأوروبي»، في الاستمرار في حماية ذلك الاتّفاق. وكشفت المواقف الدوليّة وجود تناقض بين مكافحة تغيرات المناخ من جهة، ورؤية الاقتصاد الرأسمالي التقليدي لحرية الأسواق. ويهدّد الأمر بوقوع كوارث قبيل اختتام القرن 21، خصوصاً إذا استمرت النشاطات الأساسيّة في السوق العالميّة المعولمة على حالها حاضراً. ويرى بعض علماء الاقتصاد المنحازين إلى الإطلاقيّة في حريّة السوق أنّ تكاليف تجنّب كوارث المناخ تفوق الفوائد والأرباح المتوقعة منها، إضافة إلى أنّ التباطؤ في الاقتصاد الذي ينجم عن كبح نشاطات اقتصاديّة معيّنة، ربما فاقت كلفته ما تلحقه كوارث المناخ من خسائر بالاقتصاد. هل يبدو منطقيّاً التخبط في نظريات اقتصاديّة واضح أنها تستهدف حماية مصالح أباطرة السوق عالميّاً، بدلاً من المسارعة في إطلاق مسيرة الإصلاح؟ يكاد يعقد إجماع علميّاً على القول إن تغيّر المناخ لا يعالج بمعزل عن اقتصاد السوق. ويكاد لا يرد في بال أباطرة السوق الاهتمام في شأن البيئة، بل ينحصر همهم في إيجاد نظام سوق يضمن مصالحهم عالميّاً. وكذلك يصعب التغاضي عن واقع بديهي مفاده أنّ تغيّرات المناخ تولّد تأثيرات سلبيّة مباشرة في نشاطات السوق، تصل إلى حدّ تهديد الوجود الدائم لذلك الاقتصاد برمّته. في مقلب مغاير من ذلك المشهد الصراعي، تظهر العدالة البيئيّة باعتبارها مساراً يستند إلى مبدأ مهم هو «من يلوث يدفع». واستطراداً، يكون لزاماً على من تسبب واستفاد من تلوث الغلاف الجوي، أنّ يتحمل المسؤوليّة الأساسيّة في تخفيض انبعاثات الغازات المرتبطة بتفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري. ولا شك في أن تطبيق مبدأ العدالة البيئيّة يعتبر أيضاً أسلوباً عمليّاً وعلميّاً في التعامل مع المسؤوليات الكبرى في مكافحة الاضطراب في مناخ الكرة الأرضيّة. وحاضراً، تقع مسؤولية كبرى في تراكم غازات الاحتباس الحراري على أميركا وأوروبا واليابان التي تضم معاً قرابة 15 في المئة مِن سكان العالم، مع ملاحظة أنّ نصيبها في غازات التلوّث يرتفع باستمرار، بل ربما تضاعف خلال القرن 21. وتبلغ انبعاثات ثاني أكسيد الكربون 20 طناً لكل فرد في الولاياتالمتحدة، وعشرة أطنان في ألمانيا واليابان وسبعة أطنان في سائر أوروبا لكنها تنخفض في فرنسا والسويد بسبب اعتمادهما على الطاقة النوويّة. مستقبل غامض لا تنقذه سوى مبادرات عملاقة إذا كانت الدول الغنيّة مطالبة بالانخراط الواسع في جهود حماية المناخ، فإن الدول النامية مسؤولة عن الإسراع في تفعيل سياساتها الانمائيّة وتعديل السلوكيات البيئيّة لشعوبها، بما يساهم في تخفيض الانبعاثات قبل حلول 2030. ويستلزم ذلك أيضاً إطلاق برنامج طوارئ عالمي لاستحداث تكنولوجيات منخفضة الكربون من جهة، وتساهم في الحفاظ على الحق في التنمية من الجهة الثانية. ويرى علماء البيئة أن وجود اتفاقات دوليّة بشأن حماية المناخ يشكل ضرورة عالميّة، ولا يمكن إلقاء مسؤوليّة انبعاثات الكربون على مجموعة صغيرة من الدول. كذلك يقتضي الأمر إدراك أنّ المشاركة في تكاليف حماية المناخ تمثل ضرورة كونيّة أيضاً. ويطرح بعض الدراسات البيئية صيغة متطوّرة في تحديد نصيب الدول المتقدمة من المسؤوليّة الاقتصاديّة. ويرون أن تنال الولايات المتّحدة 34 في المائة من تكاليف حماية المناخ، وأوروبا 27 في المائة، واليابان 8 في المائة، والدول المصدرة للنفط 7.8 في المائة. وبمقتضى تلك الصيغة، تتحمل الدول المتقدمة قسطاً من التكاليف العالميّة في مكافحة اضطراب المناخ يفوق ما تنفثه من غازات التلوّث حاضراً، لأنها تتحمّل أيضاً المسؤولية عما تراكم منها في الغلاف الجوي منذ الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر. هناك رؤيتان بشأن مواجهة مشكلة المناخ. تميل الأولى إلى الإبقاء على الأوضاع الحاليّة مع إدخال بعض التغيّرات الجزئيّة عليها تكون مستندة إلى مقولة تفيد بأنّ تكاليف حماية المناخ تتجاوز الفوائد الربحيّة والعائد الاقتصادي منها. وفي العمق، ترفض تلك الرؤية استشراف مستقبل الظواهر المناخيّة وتداعياتها السلبية على الأجيال القادمة، كما تتجاهل الحقيقة الساطعة التي تشير إلى أن مشكلة تغير المناخ ممتدة زمنياً ما يعني أنّ مستقبلها مرتبط بالقرارات التي تتخذ في الزمن الحاضر. واستطراداً، يؤدي تراكم التأثيرات السلبية للاضطراب المناخي إلى نتائج تهدّد الأرض وحياة سكانها من الأغنياء والفقراء سويّة. خطة واسعة للعمل تستند الرؤية الثانية إلى مبدأ العدالة البيئية المرتبط عضوياً بمبدأ العدالة المجتمعية سياسيّاً واقتصاديّاً وثقافيّاً واجتماعيّاً. وبقول آخر، تعبّر الرؤية الأولى عن أصحاب المصالح المسيطرين عالمياً على مراكز النفوذ الاقتصادي والسياسي، وهم الذين لا همّ لهم سوى الدفاع عن قوانين السوق العالميّة، مع التغافل عمداً عن استشراف المستقبل. لا يشغل تلك الثلّة سوى الاهتمام بالحفاظ على أطماعها وثرواتها ومغانمها التي تؤمّنها الأوضاع الحاضرة، فتكون لهم حصن الأمان الاقتصادي والسياسي على حساب الأمان البيئي بأبعاده وآفاقه الآنيّة والمستقبليّة. من الواضح أن الحلول المقترحة من أنصار الرؤية الأولى تعمّد إغفال مسألة العدالة، خصوصاً أنّ أفقر الشعوب هي أول من يدفع ثمن الصدمات الناجمة عن تغيّر المناخ، على رغم أنهم الأقل مسؤوليّة عن التغيرات المناخية، وأقلهم قدرة على دفع تكلفة حماية المناخ وتخفيض الانبعاثات الملوّثة للغلاف الجوي. ومن الواضح أيضاً أن القوى العالميّة اقتصاديّاً تتمثّل في الشركات المتعديّة الجنسيّة، والصندوق والبنك الدوليين، ومنظمة التجارة العالميّة، والدول الصناعيّة الكبرى، لا تسعى بجدية لحماية الأرض والمناخ. واستطراداً، لا سبيل لدفع تلك الأطراف إلى المساهمة في وقاية البشر من كوارث المناخ، إلا في حال ضربت تلك الكوارث صومعة مصالحهم وأرباحهم، أو هدّدت جوهر سطوتهم وطغيان نفوذهم. ومن المؤسف أنه لم تتوافر حتى الآن رؤية مستقبلية لنوع التكنولوجيا التي يمكن أن توجد بعد 50 عاماً وتكون قادرة على حماية المناخ. هل من المستطاع توقّع أنّ تبادر الدول الغنية إلى تحمّل مسؤولياتها في حماية المناخ، بالترافق مع سعي النخب العلميّة والبيئيّة إلى التعاون في ابتكار أساليب فعّالة في توعية الأجيال المختلفة بشأن طُرُق الحفاظ على كوكب الأرض وموارده الطبيعيّة والبشريّة؟