"أنا قلق الآن على مستقبل أميركا، لا على حاضرها ولا على ماضيها، وأخشى التحديات الكبرى التي تنتظر الرئيس الجديد. سيكون من الصعب للغاية كسر الطريق المسدود الراهن لأنه يستند الى انقسام ثقافي كبير يشطر الأمة الأميركية". هكذا تحدث بوب باو، الرئيس السابق للحزب الديموقراطي في فلوريدا، قبل أيام قليلة من الانتخابات الاميركية. "أميركا ستصّوت في هذه الانتخابات بصفتها أمتين متحاربتين ومنقسمتين جغرافياً وايديولوجياً وروحياً، وحتى ديموغرافياً. وبغض النظر عمن سيفوز في الانتخابات، فإنه سيواجه نصف أمة حانق وغاضب ورافض". وهكذا تحدث جون زغبي، اللبناني الأصل، أحد أبرز محللي الرأي العام الأميركي، قبل ساعات قليلة من بدء فرز الاصوات في هذه الانتخابات. ما هذا الذي يحدث؟ لماذا يعرب الاثنان عن هذه المخاوف السوداء، فيما يحتفل معظم الاميركيين بالنصر الأبيض الذي حققته الديموقراطية الأميركية، سواء من خلال النسبة المرتفعة التي لم يسبق لها مثيل من معدلات الاقتراع، أو من خلال جمالية العملية الديموقراطية نفسها وصفائها؟ حقاً لماذا؟ الواقع أن المسألة لدى هاتين الشخصيتين البارزتين، لم تكن لها علاقة لا من قريب ولا من بعيد بمن سيفوز في هذه الانتخابات، لسبب بسيط: لا جورج بوش ولا جون كيري، في اعتقادهما، سيكون قادراً على وقف انشطار الأمة الاميركية الى أمتين، أو على إعادة توحيدها وفق أسس "القيم الدستورية" القديمة التي يتمسك بها الديموقراطيون والعلمانيون، أو وفق "القيم الاخلاقية" الجديدة التي يرفع راياتها الجمهوريون والانجيليون. أميركا في أزمة. وربما تكون أزمة تاريخية أيضاً. و هي لا تدري في أي إتجاه تسير. نصفها الاول يشدّها نحو درب جلجلة التوجهات الاصولية الدينية والقومية المحافظة، ونصفها الثاني يناشدها البقاء على الطريق الليبرالي، العلماني والعقلاني. نصفها الأول يدعو الى وقف فصل الدين عن الدولة واللاهوت عن التعليم وقمع المثليين جنسياً والتمسك بقيم العائلة أو ما تبقى منها، ورفض التعددية الثقافية والاثنية باسم القومية الاميركية البروتستانتية البيضاء. والنصف الثاني يؤيد التعددية الثقافية وتوسيع الحريات الليبرالية وحقوق الانسان وفرض القيود الاجتماعية على الرأسمالية المنفلتة من عقالها اقتصادياً. صموئيل هانتينغتون، البروفسور الشهير في جامعة هارفارد، كان أول من ذهب بعيداً في وضع اليد على جذور هذه الأزمة، في كتابه الاخير "من نحن: تحديات أمام الهوية القومية الأميركية"، الذي كان في الواقع التكملة الداخلية الأميركية لكتاب "صدام الحضارات" الخارجية. من نحن؟ من قرأ "صدام الحضارات" بتمعن، اشتم سريعاً أن هدف هانتينغتون الحقيقي لم يكن انقاذ الحضارة الغربية، كما قال، من التبعثر أو الاندثار بفعل تغيّر موازين القوى العالمية الجديدة، بل انقاذ أميركا نفسها. انقاذها مم؟ من "القطعان" اللاأوروبية الآسيويون، المكسيكيون، الخلاسيون، الأميركيون اللاتينيون الذين يهددون التركيبة السكانية البيضاء الاميركية المؤسسة لأميركا. ومن يقرأ كتاب هانتينغتون الجديد "من نحن..."، سيكتشف بالملموس هذا الهدف الحقيقي. فالكاتب ينقل جل تركيزه من صراع الحضارات على المستوى الدولي - التاريخي العام، الى صراع الحضارات على المستوى الأميركي الخاص. وهو يبذل قصارى جهده للعثور على قواعد ومبادئ جديدة تقي أميركا القومية من مخاطر التفكك، وتحمي القومية الاميركية من تهديدات الاندثار. لم يبن الكاتب هذه المرة مؤلفه الجديد على أسس أكاديمية أو بحثية، بقدر ما توخى ارضاء غروره القومي، في وقت تواجه القومية الاميركية ما يعتبره هو "مأزقا دقيقاً". فهو يشدّد على أنّ وحدة أميركا وتماسكها تحت الحصار. كما يعتقد أنّ هجمات 11 أيلول سبتمبر كانت تستهدف فرط عقد المجتمع الأميركي. لا بل هو يشّبه أميركا بالاتحاد السوفياتي في عهد غورباتشيف من حيث سيرها نحو التفكك السياسي، ويحذّر من مصير يوغوسلافي لولاية كاليفورنيا إذا ما استمر تناقص البيض فيها، ويعرب عن مخاوفه من ان تتحلل الدولة الأميركية الى دول عدة في وقت لا يتعدى العام 2025! بيد أنه، مع ذلك، لا يرى أن أميركا وصلت الى مرحلة اللاعودة في هذا التدهور. فهي ما تزال قادرة على تأجيل سقوطها من خلال الحد من عملية تآكلها، وتجديد الحيوية الكامنة في هويّتها. وهو يدعو إلى انقاذها من خلال التركيز على إعادة تأسيس الثقافة الانغلو - بروتستانتية الاميركية و تثبيتها. النقلة الأهم والأكثر خطورة في الكتاب، هي تلك التي تشير الى اعتناق المؤلف المنحى الثقافي، بعدما كان يعتبره في كتاباته الأولى معادياً للمبادئ الأميركية. وهو يبرر هذه النقلة بتأكيده أنّ الاكتفاء برفع لواء ما يسمى بالمبادئ الدستورية الأميركية، ليس كافياً على الاطلاق للدفاع عن الأمة. ويرى انّ مكونات هذه "المبادئ"، على رغم نياتها القومية، مسؤولة هي الأخرى عن تدهور الأمّة جنباً إلى جنب مع التعددية الثقافية. ويحذر من انّ إقدام أميركا على التشبث بما تعتبره مبادئ خاصة بها كأساس وحيد للحفاظ على وحدتها، قد يؤدي سريعاً الى تفكك الاتحاد الى جماعات مختلفة سياسياً وثقافياً وعرقياً وإثنياً كذلك. ويبرر هذا بأنّ هذه المبادئ لا تحتوي على "صمغ" كاف للحفاظ على تماسك الأمة، وأنّ المدافعين الحقيقيين عن هذه الأمة هم أولئك الذين يجعلون من الثقافة هدفهم الأسمى. وبالمثل، يعتقد الكاتب بأنّ السمة التي يتميز بها الوضع الدولي اليوم، مع صعود الجهاد الاسلامي، تلائم تماماً تشديده المتزايد على المنحى الثقافي. ويقول إنّ "العداوة الاسلامية" تشجع الأميركيين على تحديد هويتهم على المستويين الديني والثقافي، تماماً كما كان من شأن الحرب الباردة ان تشدد على الناحية السياسية للهويّة الأميركية. ويشدد هانتينغتون مراراً على أن التشبث بالمبادئ الدستورية الأميركية وحدها، لا يشكل أبداً دعامة حضارية للأمة. ويرى أنّ أكثر ما يحبه الأميركيون في بلادهم و يرغبون فيه متوافر في "الثقافة" وليس في ما يعتبرونه طرائق خاصة بمجتمعهم. وهنا لا يكفي أن يدرك الأميركيون فقط أنّهم مسيحيون، على نحو أساسي، لا مسلمين أو بوذيين، بل أن يرغبوا في أن يكونوا كذلك. ومحصلة هذه المعادلة هي: إمّا أن تخضع الثقافة بشكلها العام للقيم الأميركية، فتموت الأمّة" وإمّا أن تخضع هذه القيم للثقافة، فتعيش وتزدهر. هل هذه الحلول الهانتينغتونية كافية لأنقاذ القومية والأمة الاميركيتين؟ لا يبدو الأمر كذلك. صحيح أن الرجل سعى الى إيجاد حل وسطي بين القيم الأميركية، التي دفعته في مطلع التسعينات الماضية الى اطلاق نظرية صدام الحضارات، وبين محاولته ايجاد موقع لأميركا أقرب ما يكون الى استيعاب حالة ثقافية ما، إلا أن هذا قد يثبت في النهاية أنه لعب في الوقت الضائع. فالبيض والملونون الاميركيون الذين لا توحّدهم القيم الأميركية، سيكون من الصعب عليهم التوحّد في إطار ثقافي مشترك. لا تاريخهم الخاص يسمح بذلك، ولا التراث "غير الشكسبيري" للملونين يسّهل عليهم هذه المهمة. ثم هناك مسألتان أخريان مهمتان : الأولى، بدء انكشاف المجتمع الاميركي أمام الضغوط الهائلة للعولمة وهذا يتخذ الان شكل تصدير الوظائف والمصانع الى خارج الولاياتالمتحدة، وتوقف الرأسمالية الصناعية الاميركية عن الاهتمام بصهر عناصر المجتمع الاميركي في الثقافة القومية الانغلو - بروتستانتية. وهذا ما سيجعل القومية الاميركية بعد حين عاجزة عن لعب أخطر دور لأي قومية، وهو حماية مواطنيها ودمجهم. والثانية، تخبط الاميركيين الواضح بين نقيضين متطرفين في تباعدهما: العزلة المستحيلة داخل شرنقة الدولة - الامة، أو الانفتاح الاكثر إستحالة في إطار عولمة امبراطورية لا يبدو ان أحداً في أميركا مستعد لتحمل أكلافها ومستتبعاتها. وبين عزلة القومية وانفتاح امبراطورية العولمة، تجد أميركا نفسها الان ممزقة بين تيارات تاريخية لا تدرك كنهها تشدها مرة نحو الانتماء الى أوروبا تكره هيمنتها وثقافتها، ومرات نحو آسيا وأميركا لاتينية لا تستسيغان سيطرتها وعنجهيتها. وفي مثل هذه الظروف، سيكون من الصعب للغاية على جغرافيا الثقافة ان توّحد ما أفسده عطار التاريخ. الجمهورية والامبراطورية هذه، إذا، بعض أبعاد ما يسميه هانتينغتون "الأزمة المصيرية للقومية الاميركية". وهي، كما هو واضح، أزمة هوية حادة تجد تعابيرها أساساً الآن في الانقسام الكبير الراهن بين المحافظين - الدينيين والليبرالليين العلمانيين. فالأوائل يريدون الحفاظ على أميركا الجمهورية كما أسسها الانغلو بروتستانييون الاوائل، على أن تلحق بها امبراطورية امبريالية شاسعة. فيما الأخيرون لا يمانعون في تحويل أميركا نفسها الى امبراطورية تتعايش فيها مختلف الأجناس والأنواع، في إطار الدستور الجمهوري الذي يمكن ان يتحولّ بعد ذلك برأيهم الى دستور العالم والعولمة. كتب روس دوثات، في "بوليسي ريفيو": "إذا ما فشلنا في تجديد القومية الأميركية، فهذا لن يؤدي بالضرورة الى تفكيك أميركا ونشوء جمهوريات كاليفورنيا المكسيكية أو ميامي الكوبية أو ميتشيغان الاسلامية، بل الى الانتقال من الجمهورية الى الامبراطورية التي ستكون ثنائية اللغة، تحكمها نخبة ما بعد قومية، ويقطنها مهاجرون غير مندمجين في وعاء التذويب الاميركي". ولا يرى دوثات غضاضة في هذه التطور، طالما أنه قد يستغرق ردحاً من الزمن. وهو يطمئن نفسه بأن "الأمر استغرق أكثر من 500 عام بين سقوط الجمهورية الرومانية وسقوط روما". لكن، ليس هذا ما يمكن ان يقبل به المحافظون - الانجيليون، أو ما يمكن أن يستسيغه حتى الليبراليون العلمانيون. فالطرفان ما زالا يعتبران أن خياراتهما الايديولوجية - الاستراتيجية، ما زالت قادرة على السير بسفينة الجمهورية الاميركية نحو بر الامان. وهما يخوضان من أجل هذا الهدف التوحيدي حرباً أهلية تقسيمية حامية الوطيس! أوضح تعبير عن هذه الحقيقية كان ما فعلته "كريستيان ساينس مونيتور" الأسبوع الماضي، حين قفزت فوق انتخابات بوش - كيري الاستقطابية لتشجّع الاميركيين على خوض انتخابات من نوع آخر. فهي ذهبت مباشرة إلى ضمائر الناخبين من كلا الحزبين الديموقراطي والجمهوري، وطلبت منهم التصويت بالرأي والمقال أز الصورة على المسألة الرئيسية: كيف يمكن وقف الانشطار الكبير في صفوف الامة الاميركية؟ العنوان الذي اختارته "المونيتور" لحملتها كان أكثر إثارة حتى من الحملة نفسها: "محاورة العدو". وهذا الأخير لم يكن لا "العدو الاسلامي" الجديد الذي اخترعه المحافظون الجدد الاميركيون والمحافظون القدماء اليهود منذ أوائل التسعينات، ولا "العدو الصيني" أو الاوروبي، بل العدو الداخلي الاميركي. وهذه كانت لفتة ذكية، لأنها دفعت منطق الانقسام القومي الاميركي الى أقصاه، وحفزت بالتالي الأميركيين أو بعضهم على الأقل على تخيلّ المضاعفات الخطرة للأستقطاب الحالي الذي يقسم الأمة الاميركية الى "عالمين متصادمين"، وفق توصيف "نيويورك تايمز". بيد أن الردود على هذه الحملة كانت مخيبة للآمال. وهي عبقت ب"الحرب الأهلية" ذاتها التي أرادت "المونيتور" العمل على تخطيها. وهذه بعض العيناّت: ماري آن ستروفن: حاولت الاستجابة الى دعوة الحوار، ففتحت صدري لخصومي الجمهوريين. لكني حين ناشدتهم وقف الشتائم والاكاذيب، تجاهلوني أو وصفوني بأنني هرطوقة وكافرة. هل نسي الأميركيون كيف يفكرون وكيف يعالجون القضايا المعقدة وكيف يزنون الحقيقة بصدق. اعتقد بأن الحل للانقسام والاستقطاب يكمن في الاعلام وإعادة التعليم .... كاثلين فيورور: الطرف الآخر الجمهوري يتجاهل عمق مخاوف الديموقراطيين والمستقلين وحتى بعض الجمهوريين من طبيعة القرارات التي اتخذها الرئيس حول العراق والأمن الداخلي والضرائب والوظائف والحريات الأساسية الاميركية. فكيف يمكن ان نتحاور؟ استيلا لوتر: سبب الانقسام هو بوش. فحين يسأل: لماذا تعتقد ذلك؟ يرد بأن هذا شعوره أو حدسه أو حتى بأن الله أبلغه ماذا يجب أن يفعل. وبهذا يوقف الحوار أو يحولّه الى مطالبة بالأيمان به أو بالله. جيم ماوت: معالجة "الانقسام الأحمر الجمهوري - الأزرق الديموقراطي" في البلاد أمر ضروري. لكن في المقابل هناك مبرر للغضب. فإدارة بوش بدأت حرباً وأرسلت أطفالنا ليقتلون وليقتلوا في أرض أجنبية بلا سبب، وضربت قواعد حماية البيئة وأغرقت البلاد في الديون واعتدت على الحريات المدنية. الغضب العنيف يمكن أن يؤدي الى انقسام، لكنني اعتقد بأن العمى الجماعي مدمّر أيضاً. مايك فالسيا: إذا ما كانت الديموقراطية مهددة حقاً، فهذا ليس سببه الاحتجاجات الشعبية أو الإعراب عن الغضب، بل السلوكيات غير العقلانية وغير العادلة. هناك مجال للغضب العادل، والتاريخ يعج بالحوادث التي أدى فيها الغضب الى مواجهة الظلم. صليل السلاح العنيف هذا لا يقتصر على "العامة" الذين قد يتهمهم بعض أصحاب نظرية النخبة بأنهم "رعاع"، بل هو يطاول أيضا هؤلاء "الأصحاب" أنفسهم. قارنوا، مثلاً، كيف يصف الكاتب الاميركي روبرت رايتش، معسكر المحافظين الانجيليين: "المحافظون الراديكاليون هكذا يسميهم ليسوا تياراً اميركياً آخر. إنهم يشكلّون اعتداء على اميركا. وهم شنوا ثورة مضادة شاملة وشريرة وطويلة الأمد للسيطرة على البلاد وضد كل ما يحتقرونه، خصوصاً الليبرالية". ويتابع رايتش بغضب: "المحافظون الراديكاليون يهاجمون بشراسة كل من يحمل آراء مخالفة لآرائهم، فيشتمونهم ويسخرون من مجموعات كاملة في المجتمع قوتها ضعيفة نسبياً مثل السود والفقراء والاسبان الاميركيين والمكسيكيين والعرب الأميركيين والمهاجرين". وثمة ليبراليون آخرون غير رايتش، يرون أن ايديولوجيا المحافظين - الانجيليين وممارساتهم "تطيح بكل فرص النقاش الحر، وتفصل فصلاً كاملاً بين فئات الشعب، وتشكلّ خطراً على الديموقراطية، خصوصاً أنها تحصل على أموال ضخمة من بعض الشركات الكبرى لتمويل نشاطاتها". هل هذه الاتهامات الخطيرة في محلها؟ أجل. وإلى حد بعيد أيضاً. والسبب واضح: المحافظون الأميركيون الحاليون، لم يعودوا يشبهون بأي حال المحافظين القدماء الذين أنتجهم أصلاً الليبرالية والعقلانية البروتستانية. إنهم باتوا مطليين الى حد بعيد باللون الواحد الاصولي الانجيلي الرافض لليبرالية البروتستانتية والمبشّر ب"الخلاص الاصولي الديني" بدلاً من الحلول المنطقية لمشاكل الهوية والاقتصاد والعادات والتقاليد. وهذا التيار في حال صعود قوي منذ سنوات عدة. ويوضح مايكل هوت، بروفسور علم الاجتماع في جامعة كاليفورنيا، أن نسبة المسيحيين الانجيليين كانت ضئيلة للغاية بين البروتستانت الأميركيين. لكنهم الآن باتوا أكثر من 60 في المئة". هذا الانقلاب في عالم اللاهوت تمدد سريعاً إلى عالم السياسة. فكل رئيس أميركي منذ 1976 اعترف بأنه "ولد من جديد" أي اهتدى الى المسيح مجدداً. والانجيليون البيض، الذين كانوا منقسمين بالتساوي بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري، باتوا الآن جمهوريين بنسبة الضعف. ويقول معهد "بيو للدراسات الدينية" الاميركية إنه منذ 1992 قفز عدد البروتستانت الانجيليين الذين يعتبرون أنفسهم محافظين بنسبة 13 في المئة. وحتى الانجيليون الاميركيون الافارقة الذين كانوا تاريخياً ديموقراطيين، أيدوا بوش بأعداد كبيرة 18 في المئة صوتوا له العام 2000. ويعتقد العديد من المحللين أن سبب إقدام الاميركيين على الاصولية الانجيلية هو تعطشهم للقيام بتجارب دينية مباشرة تتضمن "اليقين الكامل". وهذا ما لا توفره العقلانية البروتستانتية. وهكذا، حين يقول لهم الانجيليون إن "الله يقف الى جانبنا"، يشعرون ان ثلاثة أرباع مشاكلهم حُلت! وتعبّر إحدى الانجيليات الجديدات، وهي ساندي وليامز، عن هذه الحقيقة بقولها: "حين يكون الله الى جانبنا، فهذا يعني أننا يجب ان نقاتل الشر في الجانب الآخر. إننا نعتقد بأننا نخوض حرباً روحية على الأرض". وتوضح الباحثة الأميركية جانيت كوبرمان أن الانقسام بين التيار البروتستانتي الأساسي والتيار البروتستانتي الانجيلي بدأ العام 1900 ووصل الى ذروته خلال الصراع بين داروين صاحب نظرية التطور وبين الانجيل في محاكمة "سكوبس مونكي" العام 1925. الاصوليون آنذاك ربحوا القضية لكنهم خسروا مواقعهم في التيار الرئيس. وحين شعروا ان الثقافة الاميركية انقلبت ضدهم، انسحبوا من الحياة العامة وأقاموا بناهم التحتية في كليات الانجيل ودور النشر والعبادة. في هذه الاثناء كان التيار الرئيسي البروتستانتي يندفع الى أقصى الليبرالية فيشكك في ربوبية المسيح وفي الله تعالى نفسه، ويعيد النظر في عقيدة الخلاص، ويعيد التشديد على الراديكالية الاجتماعية للمسيح. ولذا حين قرر الاصوليون العودة الى الساح الدينية - الاجتماعية، وجدوها خالية تماماً لهم. وهذا ما جعلهم يتقدمون أولاً على الساحة الدينية، ثم لاحقاً على الساحة السياسية حيث وجدوا في محافظي الحزب الجمهوري الحليف التاريخي المطلوب. وهكذا ولد الفرز "النهائي" الراهن بين المحافظين المتطرفين وبين الليبراليين المتطرفين. ومع تراجع قوة الطبقتين الوسطى والعمالية الأميركية، بفعل العولمة وتفلّت الرأسمالية الأميركية من قيودها بعد انتهاء الحرب الباردة، بات الأستقطاب الحاد هو سيد الموقف. وهذا الآن ما يطرح الأسئلة الكبيرة: هل ستتمكن الديموقراطية الاميركية في النهاية من التغلّب على هذه الانقسامات، كما فعلت في السابق، أم أن الترياق الليبرالي - الديموقراطي سيكون مستعصياً هذه المرة بسبب صعود التعصّب اليميني - الديني؟ وكيف لأمة منقسمة على هذا النحو، أن تواصل قيادة سفينة العالم نحو مرفأ العولمة إقرأ الأمركة؟ وهل يمكن ل"الباكس أميركانا" السلام الأميركي أن يتقدم في العالم، فيما هو يتأخر في الداخل الأميركي نفسه؟ لقد قال جون زغبي إن أميركا باتت في حاجة الى توماس جيفرسون آخر للاجابة على الأسئلة المتعلقة بانقساماتها. حسناً. ربما كان هذا صحيحاً. لكن الصحيح أيضاً أن بوش الفائز لا يمكن ان يتحول الى جيفرسون. فهو جزء من الأزمة الحادة للهوية الاميركية، لا جزءاً من الحل