"ماتشيزمو" تعبير انكليزي يعني وفق قاموس أوكسفورد: "شعور الذكور الشديد أو المبالغ فيه بذكوريتهم، ومفاخرتهم بقوتهم وشجاعتهم وهيمنتهم". حسناً. جورج بوش الاسبوع الماضي كان "ماتشيزموياً" الى آخر مدى. فهو فاجأ الجميع خلال قمة منظمة "آسيان" في تشيلي بخرقه البرتوكول بشكل فاقع، حين انغمس في معمعة عراك بين حارسه الخاص وبين الشرطة التشيلية، وأخرجه بنفسه من هذه الموقعة. وتصف "نيويورك تايمز" ما جرى بعد ذلك بالكلمات الساخرة الآتية: "تقدم الرئيس الى الامام، وهو يجر وراءه حارسه نيك تروفا، وعلامات الرضى الشديد والفخار على وجهه. كان يرسم على شفتيه تلك الابتسامة التي يسميها النقاد حركة الرجل المبالغ بإعجابه بنفسه، فيما كان حاجباه يرتفعان وكأنه يغمز للحضور". وانضم الصحافيون التشيليون الى الركب، ولكن بغضب لا بسخرية، واصفين سلوك بوش بأنه "من نوع تلك العجرفة والعنجهية المعهودتين لدى رعاة البقر". مسؤولو البيت الأبيض ووزارة الخارجية استقبلوا، في البداية، هذا الحادث بروح الدعابة قائلين أن بوش "يوزّع عادة الصلاحيات، لكنه أحياناً يحب أن يأخذ الأمور بيديه". لكنهم، وبعدما اطلعوا على ردود الفعل العالمية الساخرة أو المدينة لما جرى، اعترفوا بأن ما حدث كان خطأ ديبلوماسياً وسياسياً يجب ألا يتكرر. خطأ سياسي؟ نحن نتحدث هنا عن شخصية رئيس أعتى قوة عظمى في العالم والتاريخ، تتوافر بين يديه صلاحيات تمكّنه من التصرف كملك في الداخل وكامبراطور في الخارج. فماذا يمكن ان يحدث لو أنه ارتكب "أخطاء" عجرفة وتسرّع من هذا النوع على نطاق أكبر؟ في هذه النقطة الأخيرة، لم يجد المراقبون، خصوصاً أولئك الذين يقطنون الشرق الاوسط و"ضواحيه" الاوروبية ما يضحك او يسلي في سلوك بوش. بل أدى ذلك الى دق المزيد من أجراس القلق والإنذار حول طبيعة المغامرات التي يمكن ان يقدم عليها بوش، بعدما حصل في الأنتخابات على تفويض كامل من الشعب الاميركي ل"انجاز المهمة". الرئيس الأميركي نفسه لم يتردد في تغذية هذه المخاوف. فهو أطاح وزير خارجيته المعتدل كولن باول، الذي كان يوصف بأنه الحمامة الواقعية الوحيدة بين جمهرة صقور المحافظين الجدد والقدماء التي تعج بهم الادارة، وأحلّ مكانه كونداليزا رايس التي توصف بأنها "صوت سيديها" بوش وتشيني. ثم أتبع ذلك بخوض معركة مع وكالة الأستخبارات المركزية الاميركية سي أي ايه، التي كانت تؤيد باول أحياناً في الأعتراض على بعض سياسات الأمبراطور، وذلك بهدف جعلها تحلل فقط ما يستنتجه هو. هذا على الصعيد الداخلي. أما في مجال السياسة الخارجية، فكان بوش صريحاً حين أعلن مراراً وتكراراً بعد فوزه الكاسح في الانتخابات، أنه ينوي المضي قدماً في مواصلة تنفيذ السياسات والمبادئ التي وضعها خلال سنواته الاربع الاولى في البيت الأبيض. وهذه، للتذكير، هي الحروب الاستباقية، وخوض معارك عالمية دائمة ضد "الارهاب" ومحاور الشر، والعمل على اخضاع الشرق الاوسط الكبير وتحويله منصة انطلاق كبيرة لإحكام القبضة على قلب العالم : "قارة أوراسيا". الترجمة العملية لهذه التأكيدات النظرية جاءت سريعة، من سانتياغو في أقاصي الغرب اللاتيني الى شرم الشيخ في أقاصي الشرق الأسلامي. ففي سانتياغو كان الرئيس الاميركي يضغط بقوة على الصين وبقية دول "آسيان" لتضغط بدورها على كوريا الشمالية، أحد محاور "مثلث الشر". وهذا حقق أسوأ كوابيس بيونغ يانغ التي كانت تراهن على فوز جون كيري الذي وعدها ب"مفاوضات مشرّفة" حول أسلحتها النووية، وجعلها تستعد لجولة أخرى من جولات التجويع الأقتصادي والخنق الديبلوماسي الأميركي. وفي شرم الشيخ، أضفى بوش بالقوة شرعية استخدامه للقوة ضد دولة مركزية وتاريخية كالعراق، ممهداً بذلك الطريق أمام المزيد من استخدامات العنف في الشرق الاوسط الموسّع. وهذا ما جعل حلبة مسرح المنطقة العربية جاهزاً لرقصة منفردة أميركية واحدة تمارس على وقع لحن وحيد: المارشات العسكرية. أهلاً أوروبا! كيف ستكون التطبيقات العملية لهذه التوجهات "الماتشيزموتية" الجديدة، خصوصاً حيال ايرانوالعراق وفلسطين وسورية ولبنان؟ وما موقف الاوروبيين منها؟ لنبدأ أولاً مع السؤال الثاني. بعد ساعات من اعلان فوز بوش في الانتخابات، كانت صحيفة "فاينانشال تايمز" ذات النفوذ المؤثر تسارع الى دعوة الاوروبيين للتعاطي مع اميركا كما تعاطت هذه الأخيرة مع بوش. قالت: "طالما أن الشعب الأميركي فوّض رئيسه مواصلة سياساته الخارجية كما هي، قد يكون من الأفضل للأوروبيين قبول هذا التطور كأمر واقع والتصرف على أساسه في العلاقات مع واشنطن". ويبدو ان الفرنسيين والألمان، أصحاب مشروع القوة العظمى الاوروبية المستقلة، قبلوا سريعاً هذه النصيحة اللااستقلالية واقتنعوا، وإن موقتاً، بأنه لم يعد ثمة مفر من التعامل مع واشنطن كما تحب هي أن يتعاملوا معها: أخ أكبر يطلب، وأخوة صغار ينفّذون. وهكذا فتحت باريس وبرلين أبواب خزائنها على مصراعيها، فأعفت "العراق الاميركي" من 80 في المئة من ديونه، ووافقتا في شرم الشيخ على الاعتراف رسمياً بهذه الأمركة لبلاد ما بين الرافدين. وهذا كان، على ما يبدو، أول الغيث في مسيرة مرحلة جديدة من العلاقات بين الطرفين، تحاول من خلالها اوروبا ان تأخذ من أميركا بالسلام المشاركة في النظام العالمي ما عجزت عن نيله منها بالحرب المطالبة بنظام دولي تعددي جديد. وهذا يدعم الى حد ما نظرية سمير أمين حول حقيقة العلاقات بين طرفي الأطلسي بكونها "امبريالية جماعية" تختلف في الداخل على الغنائم، وتتوحد في الخارج ضد الشرق الروسي والآسيوي والجنوب العالمثالثي. وفي دراسة أخيرة نشرها في دروية "مانثلي ريفيو" عاد امين الى تأكيد نظريته هذه و"حدّثها" على النحو الآتي: الحرب العالمية الثانية انتهت بتحوّل كبير في شكل الأمبريالية، تم بموجبه استبدال تعدد الامبرياليات دائمة الصراعات بإمبريالية جماعية. هذه الاخيرة جمعت كل مراكز العالم الرأسمالية في مثلث يضم اميركا ومقاطعتها الكندية، وغرب أوروبا ووسطها واليابان. الديغولية ولدت في تلك المرحلة. لقد آمن شارل ديغول بأن هدف الولاياتالمتحدة منذ العام 1945 هو السيطرة على كل العالم القديم أوراسيا، وأنها ستنشط استراتيجياً لتقسيم أوروبا التي تمتد وفق ديغول من الأطلسي الى الأورال بما في ذلك روسيا من خلال اثارة الخوف من شبح عدوان موسكو الذي اعتقد الزعيم الفرنسي بأنه غير موجود. تحليل ديغول كان واقعياً، لكنه وجد نفسه وحيداً. وهو طرح، في مواجهة النزعة الأطلسية التي تروّج لها واشنطن، استراتيجية مضادة تستند الى المصالحة الألمانية - الفرنسية وبناء أوروبا "لا أميركية" تستثنى منها بريطانيا العظمى، التي اعتقد، عن حق، بأنها ستكون حصان طروادة الاميركي في أوروبا. بعدها يمكن لأوروبا ان تمهد الطريق أمام مصالحة مع روسيا وتشكيل محور فرنسي- ألماني - روسي يضع حداً للمشروع الاميركي للهيمنة على العالم. الصراع الداخلي الخاص بالمشروع الاوروبي، والذي يمكن اختصاره بكونه خياراً بين بديلين: أوروبا الأطلسية كذيل لأميركا، أو دولة لاأطلسية تضم روسيا اليها، لما يحل بعد. بيد أن التطورات الأخيرة، وهي نهاية الديغولية، وانضمام بريطانيا العظمى الى الاتحاد الاوروبي، وتو سع أوروبا شرقاً، وانهيار الاتحاد السوفياتي، كل ذلك دفع المشروع الاوروبي الى العولمة الليبرالية الجديدة والى التحالف السياسي - العسكري مع واشنطن. أكثر من ذلك: هذه التطورات عززت قوة الطابع الجماعي للمثلث الامبريالي. سؤال بالمقلوب اذا ما كانت مقاربة سمير أمين صحيحة، فهذا سيجعل المحللين والسياسيين الشرق أوسطيين يقلبون سؤالهم التقليدي رأساً على عقب. فبدلاً من التساؤل عما اذا كنا على قاب قوسين أو أدنى من "مواجهة تاريخية" بين الغربين الاوروبي والاميركي، يجب التوقف الآن امام احتمال "صفقة تاريخية" ما بين الطرفين في المنطقة. احتفل الانكليز والفرنسيون قبل ايام بذكرى مرور مئة عام على إبرام "الوفاق الودي" الذي اقتسموا بموجبه الشرق الاوسط بالعدل والقسطاس العام 1904. فهل كان هذا الاحتفال مجرد ذكرى تاريخية، أم أنه نذير "وفاقات ودية" جديدة أوروبية - اميركية جديدة برعاية بريطانية؟ هذا السؤال رهن بالمستقبل القريب وبمحصلات ونتائج الاندفاعة الأميركية الجديدة في المنطقة. بيد ان بعض آثار أقدام مثل هذه الوفاقات المحتملة مبعثرة هناك وهناك على جوانب الطرق الشرق أوسطية. فإضافة الى الدور الاوروبي في غسل الصحون الاميركية في أفغانستان، ولعب دور الشرطي الجيد لمصلحة واشنطن في ايران، وبدء التفاعل الايجابي مع "واقع" الاحتلال الاميركي للعراق، هناك أيضاً ذلك "الوفاق الودي" المفاجئ الذي ولد اخيراً بين الفرنسيين والاميركيين حيال لبنان وسورية. صحيح أن كل هذه النذر كانت موجودة قبل ولاية بوش الثانية. لكن الصحيح أيضاً أن التنازلات الاوروبية لواشنطن، سيكون لها من الآن فصاعداً طعم آخر ومضامين أخرى. بكلمات أوضح : التعاطي الأوروبي الإيجابي مع الماتشيزموية الاميركية، سيشجع هذه الاخيرة على مواصلة اندفاعتها العنيفة في المنطقة. هذه الحصيلة المحتملة تقود الى السؤال الثاني: ما هي التطبيقات العملية لهذه التوجهات في ايرانوالعراق وفلسطين وسورية ولبنان؟ يمكن القول، من دون خطر الانزلاق الى استنتاجات متسرّعة، أن السياسة الاميركية خلال السنوات الثلاث المقبلة قد تقوم على القاعدة الثلاثية الآتية: إبقاء العراق فوق عبر تهدئته بالقوة، وايران تحت عبر تجميدها وتحييدها وسورية مع عبر محاولة ضمها كلياً الى المعسكر الأميركي. في العراق، بدا واضحاً بعد معركة الفلوجة أن الادارة الاميركية وضعت نصب عينيها هدف إخماد المقاومة المسلحة العراقية بالقوة. وهي حدّدت لذلك ليس فقط مدة شهرين تسهيلاً لإجراء الأنتخابات، كما ذكر، بل فترة سنتين كاملتين. فقد نسبت "واشنطن بوست" الى كبار القادة العسكريين الاميركيين قولهم أنه ستكون هناك خلال الشهور المقبلة حاجة ماسة لزيادة القوات الاميركية في بلاد ما بين النهرين التي يبلغ حجمها الآن 141 ألف جندي لتمكينها من انهاء المقاومة في المناطق الباقية من البلاد. وقدّر البعض هذه الزيادة بما بين 20 الى 40 ألف جندي، اضافة الى كتيبتين عراقيتين ما بين 3000 الى 5000 جندي تم تدريبهما اخيراً وستدخلان الخدمة الفعلية الشهر المقبل. وتعتقد أجهزة الاستخبارات العسكرية الاميركية أن هجوم الفلوجة دمّر أكبر معقل للثوار، على رغم أن هذا لم يكسر ظهر المقاومة في مناطق اخرى ولم يؤد الى اعتقال أبو مصعب الزرقاوي وباقي قادة المقاومة العسكريين. ولذا ستكون هناك ضرورة قريباً لتجريد حملات عسكرية جديدة ضد الموصل والرمادي وسامراء وبغداد، وإن بوتائر أقل من معركة الفلوجة التي شارك فيها 12 ألف جندي أميركي و2500 عسكري عراقي. والمثير هنا أن "نيويورك تايمز"، التي كانت الأكثر حماسة قبل الانتخابات الاميركية لإنهاء احتلال العراق وتسليم مفاتيحه الى الاممالمتحدة، باتت الأن الأكثر حماساً لحسم الامور عسكرياً والأكثر مطالبة بإدخال زيادات كبيرة على عدد القوات الاميركية. لا بل هي حذر ت بأنه ما لم يحدث ذلك، ستبدو والمهمة المنتهية وعلى نحو متزايد "مهمة مستحيلة". ماذا الآن عن ايران؟ الأيام القليلة الماضية شهدت لغطاً تحوّل الى تساؤلات أشبه بألغاز: لماذا بادر كولن باول، وهو المؤيد نسبياً لسياسة الجزرة الاوروبية مع الفرس، الى الإدلاء بتصريحه المفاجئ حول سعي ايران لامتلاك رأس نووي عشية مغادرته وزارة الخارجية، وأيضاً عشية دخول الأتفاق الايراني - الاوروبي حيز التنفيذ؟ هل تم ذلك بطلب من بوش وارضاء لرغبته بأن تدان ايران من بيت أهلها المعتدلين، تماماً كما فعل باول قبيل حرب العراق، أم أنه مقتنع بالمعلومات الأستخبارية التي قال أنه يملكها حول ذلك؟ لماذا أفصح ريشارد أرميتاج، نائب باول المستقيل أيضاً، علناً بأن أوروبا وأميركا تلعبان مع ايران لعبة الشرطي الطيب والشرطي الشرير؟ هل كان يتبجح، أم انه أراد استكمال صبّ الزيت على النيران التي أشعلها باول؟ ثم: لماذا تحوّل بوش الى الاعتدال في تعاطيه مع الملف الأيراني، فيما كان باول المعتدل يتطرف، فأسقط انذاراته النهائية وأحاديثه عن وعدم احتمال التسلح النووي الايراني"، واكتفى بالتشكيك بنياتها الحقيقية وباحتمال نجاح المساعي الاوروبية؟ هذه الألغاز لها على ما يبدو تفسير وحيد: أولوية بوش في هذه المرحلة ليست التصعيد مع ايران بل مجرد ابقائها على صفيح ساخن، فيما هو ينشط ل"استكمال المهمة وفي العراق. وهذا تفسير معقول لسببين: الاول، أن ايران ما زالت في حاجة الى ما بين ثلاث الى خمس سنوات لإنتاج القنبلة. وهذا سيكون وقتاً وفيراً اذا ما تمكنت واشنطن من تهدئة العراق قبل هذا الموعد. والثاني، أن الملالي يمارسون سياسة هادئة وبراغماتية تماماً في العراقولبنان. ومن غير المفيد في هذه المرحلة فتح وكر دبابيرهم، فيما أميركا منغمسة في مواجهة الدبابير العراقية. وهذا يعني، بكلمات أخرى، أن واشنطن تريد في هذه المرحلة ابقاء الأيرانيين "في الصندوق". لكنها تريد هذا الصندوق أضيق ما يكون، كي يكون من السهل عليها لاحقاً بدء التفكير بالزحف من بغداد الى طهران لمنعها من امتلاك القنبلة، من ناحية، ولأعادتها الى الحظيرة الاميركية في اطار المشروع الاميركي العام في الشرق الاوسط - أوراسيا، من ناحية أخرى. كتب الاميركي هوارد لافرانشي: "احتمال حصول ايران على القنبلة النووية مقلق من زوايا عدة، منها الدور الذي تراه ايران لنفسها في العالم الأسلامي، والتهديد الذي تشكل ه بالنسبة الى اسرائيل، والمكان الحاسم الذي تحتل كقوة نفظية عالمية، والأخطر سباق التسلح النووي الذي سيطلقه امتلاكها للقنبلة، حيث سترى مصر والسعودية وسورية حاجة للتسلح النووي للدفاع عن نفسها". من بين كل هذه العوامل، تبدو وضعية ايران النفطية واستقلاليتها السياسية النسبية، هما العاملان الأبرز اللذان يدفعان الولاياتالمتحدة الى رفض قبول الأمر الواقع الأيراني الراهن، سواء امتلك النظام الأيراني القنبلة أم لا. فما هو في الميزان هنا ليس تفصيلاً بسيطاً من تفاصيل اللوحة الأستراتيجية الاميركية العالمية العامة، بل مصير هذه اللوحة برمتها. ولذا، الهدنة التي يمكن أن تبرم الآن بين واشنطنوطهران، والتي تفرضها الاولوية العراقية، لن تكون أكثر من ذلك: أي مجرد هدنة تشكل فاصلاً بين "حربين". "معركة سورية" اذا ما كانت واشنطن ستقنع خلال السنوات الثلاث المقبلة بأن تبقي ايران "تحت" الا انها ستص ر، على الأرجح، أن ترى سورية "مع" مباشرة في معركة تهدئة العراق. لماذا؟ ببساطة لأنها في حاجة الى الدور السوري نفسه الذي احتاجته العام 1991 حين خاضت معركة الكويت ضد العراق، وليس الى الدور السوري الراهن الذي يقتصر على اغلاق الحدود أمنياً والتعاطف فعلياً وسياسياً مع المقاومة العراقية. بلاد الأمويين الآن هي والعمق الأستراتيجي والاهم للمشروع الاميركي في بلاد العباسيين. والفرق كبير بالطبع أن تكون دمشق على الحياد الايجابي لمصلحة المقاومة في العراق، وان تكون ومنحازة ايجابياً ولمصلحة النظام الموالي لواشنطن في بغداد. كيف يمكن لأدارة بوش أن تحقق هذا الهدف؟ حين كان رئيس الوزراء العراقي اياد علاوي في واشنطن قبل نحو شهرين، أبلغ ندوة ل"مجلس العلاقات الخارجية" الاميركي أنه حين التقى الرئيس السوري بشار الاسد في دمشق، طلب منه وقف تدفق الاسلحة والرجال عبر الحدود السورية، ولمّح الى أن بغداد قادرة على ان تفعل المثل، أي على اثارة القلاقل في بلاد الشام. وحين اندلعت الأضطرابات الكردية في القامشلي وصولاً الى دمشق، لاحظ كثيرون أن النظام السوري خسر في هذه الجولة التي حدثت على وقع تصفيق صامت من الجانب العراقي من الحدود، أحد نقاط ارتكازه التقليدية. ثم هناك بالطبع لبنان والقرار 1559، اللذان سيكونان خلال الشهور القليلة المقبلة من "عفاريت" الضغط الرئيسة على الوضع الداخلي السوري وسياساته الخارجية. بالطبع، رهان بعضهم في لبنان على بداية نهاية الدور السوري في بلاد الأرز، قد لا يكون في محله تماماً. فواشنطن لا تريد أساساً اخراج سورية من لبنان، بل ادخالها الى جانبها في العراق. وفي حال تم ذلك، سواء "سلماً" بتغيير نهج النظام السوري الحالي، أو "حرباً" بفرض التغيير الداخلي بقوة الضغوط الخارجية، فلا يستبعد أن تبرم واشنطن مع "دمشق الجديدة" صفقة طائف لبنانية جديدة. هل تمتلك الاندفاعة الاميركية الجديدة مقومات النجاح؟ لا احد يستطيع أن يجزم. فالكثير الكثير سيعتمد على ما سيحدث في العراق. لكن ثمة شيء واحد مؤكد : لا شيء في الشرق الاوسط سيعود الى ما كان عليه قبل هذه الاندفاعة والماتشيزمووية والجديدة والجامحة