شهر رمضان المبارك هو شهر التوبة والعبادة والغفران، وهو شهر الجهاد بمعناه الشامل عند المسلمين الذين يصومون عن الطعام والشراب والشهوات، وبذلك يقومون بمجاهدة النفس الأمارة بالسوء لأن مجاهدة النفس هي المرتبة الأولى من مراتب الجهاد الأربع عند المسلمين، والتاريخ الإسلامي حافل بالأخبار الرمضانية التي تضم تاريخ الولادات والوفيات والانتصارات الحربية الكثيرة، والهزائم النادرة، ومن أخبار ما حدث في رمضان نقتطف الأخبار الآتية: الأول من رمضان: معركة بلاط الشهداء. فقد تعرضت بلاد الأندلس كغيرها إلى وفود هجرات إنسانية من بقية البلدان، ومن الذين نزلوا الأندلس الكنعانيون الذين سمّاهم اليونان باسم الفينيقيين، وسماهم الرومان باسم البونيقيين، والاسمان مبنيان على وصفهم بصفة اللون الآسيوي الأسمر، وأقام الكنعانيون مراكزهم على شواطئ صيدا وصور وجبيل بيبلوس معلمة الأبجدية والكتابة، ومن اسمها اشتق الأوروبيون اسم الكتاب المقدس: بايبل، وبنى الكنعانيون قرطاجة في تونس، ولُبدة وطرابلس في ليبيا، كما بنوا إشبيليا في الأندلس، وسموها إسفيليا لأن أرضها منخفضة، ومن الأندلس انطلق حنا بعل هنيبعل كي يفتتح أوروبا، لكنه فشل على أبواب روما، وبعد ذلك هاجم القوط والوندال الألمان بلاد الأندلس فاحتلوها، ولكنها لم تخضع لهم، وحينما وصلت طلائع الفتح العربي الإسلامي الأول في عهد الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان سنة 27ه 647م رحب بها الكنعانيون، لكن القوط استردوها. ومرت السنوات حتى حصل الفتح الثاني في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك سنة 92ه 710م، وقاد الفاتحين موسى بن نصير وطارق بن زياد. استمر وجود الكنعانيين والعرب من المسلمين وغير المسلمين، وشكلوا جبهة ذات أرضية مشتركة من أصول شعوب الأندلس الكنعانية والعربية، وخاضوا معارك كثيرة ضد الأطماع الأوروبية حتى سقطت غرناطة سنة 897ه 1492م. من الولاة المسلمين على الأندلس عبدالرحمن بن عبدالله الغافقي الذي تولى إمرة الأندلس في زمن الخليفة الأموي هشام بن عبدالملك بن مروان سنة 112ه 730م. واشتهر الغافقي بنشر العدالة في الأندلس، ودعا المسلمين من اليمن والشام ومصر وإفريقية لمناصرته، فجاؤوا من تلك البلاد ونزلوا في مدينة قرطبة. ولما ناوش الفرنجة ثغور الأندلس جمع الغافقي عسكره في مدينة بنبلونة، ثم عبر معهم جبال البرانس شمال أسبانيا، واتجه شرقاً جنوبفرنسا فأخضع مدينة أرل، ثم اتجه إلى دوقية أقطانيا فانتصر على الدوق أودو، واستنجد الدوق بشارل مارتل، حاجب قصر الميروفنجيين حكام الفرنجة وصاحب الأمر والنهي في دولة الفرنجة، وكان يسمى المطرقة، وهذا التهديد الإسلامي دفع شارل إلى وقف حروبه مع الساكسون والبافاريين، وتوحدت أوروبا في مواجهة المسلمين، ووقعت المعركة المشهورة عند العرب باسم بلاط الشهداء عند مدينة بواتييه جنوبفرنسا، على مسافة عشرين كيلومتراً منها. بدأت المعركة في أواخر شعبان سنة 114ه 732م، ورابط كل منهما أمام الآخر ثمانية أيام، ولم يشتبك الجيشان في المعركة إلا بعد بضعة أيام ظلا خلالها يتناوشان في اشتباكات محلية، ثم اشتبكا بعد ذلك في قتال عنيف، وبينما كان عبدالرحمن الغافقي يقاتل في ميدان المعركة أصابه سهم أودى بحياته، وصبر المسلمون حتى أقبل الليل فانتهزوا فرصة الظلام وتسللوا متراجعين إلى الجنوب على عجل، وكل ذلك أوائل شهر رمضان سنة 114ه. ولما وصل الخبر إلى الخليفة الأموي هشام بن عبدالملك بن مروان، أمر والي إفريقية بإرسال مدد بقيادة عبدالملك بن قطن الفهري، وأمره الخليفة بغزو فرنسا، وتوجه عبدالملك إلى نواحي شمال الأندلس، وحصن المعاقل التي بأيدي المسلمين، وتحالفَ بعض أمراء جنوبفرنسا مع المسلمين ضد الفرنجة، كرهاً بهمجية جيش شارل مارتل، ومع ذلك لم يستطع المسلمون اجتياح الحدود الفرنسية في ذلك الوقت مما أبقى أوروبا في عصر الظلمات بينما كانت البلاد الإسلامية في ذروة التقدم والتنوير، واستمر عهد الظلمات الأوروبي حتى القرن الخامس عشر حسب ما يراه المؤرخون الأوروبيون. اليوم الثاني من رمضان: ولادة ابن خلدون. في اليوم الثاني من رمضان وُلد العلامة عبدالرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي الكندي في تونس سنة 732 ه 1322م، وهو من أسرة يمنية الأصل، أندلسية الموطن، وكانت تستوطن في مدينة قرمونة ثم أقامت في إشبيلية، وذلك منذ القرن الثالث الهجري التاسع الميلادي. ولد ابن خلدون في تونس الخضراء وبدأت دراساته بحفظ القرآن الكريم على والده، ثم درس على أكابر علماء تونس في جامع الزيتونة، ما كان يعرف في زمانه من علوم النحو واللغة والفقه والحديث والأدب، وصار من أشهر علماء العرب في مجال علم الاجتماع الذي ابتكره في مقدمة تاريخه المشهورة باسم مقدمة ابن خلدون. وأجمع فلاسفة الغرب على أن "مقدمة ابن خلدون" هي أعظم عمل أدبي يمكن أن يبدعه العقل البشري في أي زمان، ومن الأقوال المشهورة: ان ابن خلدون هو الوحيد بين فلاسفة الشرق والغرب الذي يستحق عن جدارة لقب عاهل علم التاريخ والفلسفة. طاف ابن خلدون في البلدان طلباً للعلم والتعليم، فهو لم يقنع بما له من ثقافة واسعة في تونس، بل سافر إلى القاهرة كي يدرس ما فاته من العلوم، وطاب له المقام في القاهرة، وتولى قضاء المالكية في مصر، وبقي مقيماً في القاهرة حتى بلغ سنه 74 سنة، إذ وافاه الأجل في أيام السلطان برقوق المملوكي سنة 809 ه 1406م. وما زالت نظرياته ومؤلفاته موضع اهتمام الدارسين . الثالث من رمضان: وفاة فاطمة الزهراء بنت رسول الله. تزوج رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، ورزق منها بناتاً، وتزوج الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان، رضي الله عنه، اثنتين من بنات النبي هن أم كلثوم ورقية، ولذلك سمي عثمان ذو النورين، وتزوج الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه فاطمة بنت النبي، وأنجبت الحسن والحسين سبطي رسول الله، كما أنجبت ابنتها أم كلثوم التي تزوجها الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعنها. ولدت فاطمة الزهراء قبل نبوة والدها بخمس سنوات حينما كانت قريش تبني البيت الحرام، وفاطمة هي أصغر بناته صلى الله عليه وسلم، وكانت لفاطمة مكانة عظيمة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يناديها بأمِّ أبيها لما كان فيها من الحنان والحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عقد زواجها من علي في رمضان في السنة الثانية من الهجرة 624م، وبني بها في ذي الحجة، وولدت له الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم محسناً الذي مات صغيراً. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه يصف حياتهما: "لقد تزوجت فاطمة ومالي ولها فراش غير جلد كبش ننام عليه بالليل، ونعلف عليه الناضح بالنهار، ومالي ولها خادم غيرها...". وانتقل النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه يوم الاثنين 12 ربيع الأول سنة 11ه 632م، وحزن المسلمون، وكانت من أكثرهم حزناً ابنته فاطمة الزهراء التي مرضت، وزارها الخليفة الراشد الأول أبو بكر الصديق في مرضها، وقال لها: "والله ما تركت الدار والمال والأهل والعشيرة إلا ابتغاء مرضاة الله ومرضاة رسوله ومرضاتكم أهل البيت". وقيل إنها لم تضحك طوال فترة حياتها بعد النبي عليه الصلاة والسلام، وأنها كانت تذوب من حزنها عليه وشوقها إليه صلى الله عليه وسلم. ولما حضرتها الوفاة أوصت أسماء بنت عميس - امرأة أبي بكر الصديق - أن تغسلها فغسلتها هي، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وصلى عليها زوجها علي، وعمه العباس ودفنت ليلاً، وذلك ليلة الثلثاء لثلاث خلون من رمضان سنة 11ه 632م، رضي الله عنها وأرضاها. وفاة مروان بن الحكم: تنازل الخليفة الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما عن الخلافة، وبايع معاوية بن أبي سفيان سنة 40ه 661م، وسميت تلك السنة بعام الجماعة لاجتماع كلمة المسلمين على خليفة واحد بعد الفتنة التي فرقت كلمتهم، وصارت دمشق عاصمة للخلافة الأموية. ولكن أمور السفيانيين اضطربت، وكادت تنهار الخلافة الإسلامية الأموية بعدما تنازل عنها معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وحينذاك عقد أهل الحل والعقد اجتماعاً لتدارس الأوضاع الصعبة في ظل التهديدات البيزنطية على الحدود الشمالية، وتمرد الولاة في الثغور، وحركات التمرد، وكان ذلك الاجتماع في "الجابية" الشام بتاريخ 3 من شهر ذي القعدة سنة 64ه 22 من حزيران/ يونيو سنة 684م. وقرر أهل الحل والعقد البيعة بالخلافة لمروان بن الحكم، وكان تجاوز الستين من عمره، وكان يتمتع بقسط وافر من الحكمة والذكاء وسداد الرأي، وكان شجاعاً فصيحاً يجيد قراءة القرآن، ويروي كثيراً من الحديث عن كبار الصحابة، واستطاع توحيد مصر والشام، وبدأ مسيرة إعادة توحيد بلاد الخلافة الإسلامية التي تشتت إلى إمارات متعددة ومتنازعة، لكن الخليفة توفي في اليوم الثالث من رمضان سنة 65ه 685م، وآلت الخلافة إلى ولده عبدالملك بن مروان الذي وحَّد البلدان الإسلامية، وتوسعت مناطق انتشار الإسلام في آسيا وإفريقيا وأوروبا حتى وافاه الأجل في منتصف شهر شوال سنة 86ه 705م. لقد توفي الخليفة مروان بن الحكم الأموي عن عمر بلغ نحو خمسة وستين عاماً، وهو لم يكمل العام الأول من خلافته، وعلى رغم ذلك فقد استطاع أن يؤسس دولة قوية للأمويين المروان في الشام، وتعد خلافته البداية الحقيقية للعهد الثاني من الحكم الأموي، وقد تميز عهده بالعديد من الإصلاحات والإنجازات. فمن الناحية العسكرية استرد مصر من سلطة عبدالله بن الزبير، وانتصر على "الضحاك" في موقعة مرج راهط، واستطاع أن ينقل الخلافة من البيت السفياني إلى البيت المرواني في عملية سياسية سلمية سلسة وشفافة، ونجح مروان بالإصلاح الاقتصادي، حيث ضبط المكاييل والأوزان، وبذلك منع الغبن أو الغش