يكثر الحديث هذه الأيام عن العلاقات القائمة، والتي يمكن ان تقوم، بين سورية ولبنان، وذلك لمناسبة صدور قرار مجلس الأمن الرقم 1559. الا ان مقاربة العلاقات بين بلدين متجاورين في الجغرافيا والتاريخ تفرض الذهاب الى ما هو أبعد من الأمور العارضة والحالات الخاصة ومراحل الأزمات أو الانفراجات، الى تحليل في العمق يستند أول ما يستند الى الجغرافيا السياسية للبلدين. ذلك ان الكلام على الخيارات الاستراتيجية لأي دولة يرتبط قبل كل شيء وبعد كل شيء، بهموم هذه الدولة واهتماماتها أي بما يقلقها وبما تتصور انه الدواء لمثل هذا القلق، أي بالخطة الشاملة التي تعني فن حشد الامكانات لتحقيق الأهداف التي حددتها سياسة هذه الدولة. مع العلم ان سياسة كل دولة ترتبط حكماً بجغرافيتها. فما هي هموم سورية واهتماماتها؟ وما هي هموم لبنان واهتماماته؟ أولاً: هموم سورية اذا شئنا ان نختصر هموم سورية بعناوين عامة لرأينا انها تندرج ضمن الأمور الآتية: 1- همّ العظمة التاريخية: وفيه ايقاظ للذاكرة التاريخية، أي لدمشق الأموية. فمنذ وصول الرئيس حافظ الأسد الى السلطة 1970 وعمل، كما يقول كيسنجر، على استعادة مجد سورية القديم كدولة محورية في المنطقة تعرضت لخيانة الغرب لآمالها ودورها وجغرافيتها. وبالتالي لا بد من ان يكون لها اهتمام واحترام لدى الدول الكبرى ولدى محيطها والعالم. 2- همّ موقع العاصمة: ان الناظر الى الجغرافيا السورية يلاحظ كيف ان العاصمة دمشق محشورة بين حدودين: حدود لبنان لجهة الغرب ببعد لا يزيد على عشرين كيلومتراً فقط، وحدود الدولة العبرية في الجنوب ببعد هبط من 50 كيلومتراً الى 35 كلم بعد احتلال الجولان. وفي علم الجغرافيا السياسية ان قرب عاصمة الدولة من حدود الدول المجاورة يجعلها عرضة للتهديد. فالعاصمة هي الموقع الأكثر أهمية وحساسية في حياة الدولة لأنها عصبها: رأسها وقلبها في آن. لذا تجهد الدول على جعل عواصمها في منتصف جغرافيتها كي تكون لديها المناعة الكافية ضد التهديد. من هنا تشديد السوريين على الخاصرة الرخوة وامكان تطويق دمشق بهجوم اسرائيلي عبر سهل البقاع. 3- همّ الواجهة البحرية: ان للواجهة البحرية أهمية كبرى في تحديد طبيعة الدولة: هل هي دولة برية أم دولة بحرية. وهناك شعور لدى السوريين ان دولتهم بمفهوم سورية الكبرى كانت في الأساس دولة بحرية بواجهة تصل الى 750 كلم هي كل واجهة شرق المتوسط من خليج الاسكندرون الى العريش في مصر. وأن نشوء الدول البحرية لبنان واسرائيل ثم غزة في فلسطين ثم ضم اقليم الاسكندرون الى تركيا لم يُبق لسورية سوى واجهة بحرية بطول 193 كيلومتراً فقط أي 25 في المئة فقط من مجمل الواجهة الشرقية للمتوسط وما يعادل 5.8 في المئة من حدود سورية البالغ طولها 2253 كيلومتراً، الأمر الذي حوّل سورية الى دولة برية. 4- همّ الموارد المائية: ليس لدى سورية أنهر وطنية داخل الدولة السورية. بل ان ما يزيد على ثمانين في المئة من مواردها المائية المتاحة تأتيها من الخارج: نهر الفرات الذي يخترق زاويتها الشمالية الشرقية آتياً من تركيا. ونهر دجلة على قسم من حدودها الشرقية مع العراق وهو ينبع في تركيا أيضاً، ومن ثم نهر العاصي الذي ينبع في لبنان شمال البقاع ويخترق الساحل السوري من الجنوب الى الشمال، ويدخل لواء الاسكندرون في تركيا. بمعنى آخر، ان سورية مرتهنة في شكل واضح وبنسبة عالية لدول الجوار الجغرافي لتأمين مواردها المائية. وهذا همّ حياتي بل وجودي لأن سورية في الأساس بلد زراعي في حاجة ماسة الى الري لتأمين أمنها الغذائي. نمو سكاني ودور وايديولوجيا 5- همّ القنبلة الديموغرافية: تعتبر سورية بين أكثر البلدان في العالم نمواً ديموغرافياً بحيث يتراوح معدل هذا النمو بين 6.3 الى 4 في المئة وهي نسبة عالية جداً تجعل سكان سورية يتضاعفون كل عشرين سنة. وهذا النمو يؤدي حكماً الى زيادة في عدد من هم في سن الشباب، وبالتالي تتولد هموم اجتماعية واقتصادية ناتجة عن البطالة وصعوبة تحقيق الأمن الغذائي وتطرح ضرورة اعتماد سياسة اقتصادية مناسبة تؤمن الازدهار وفرص العمل والنمو. 6- همّ الدور الاقليمي: انطلاقاً من شعور العظمة التاريخية تصبو القيادة السورية الى تأكيد الدور الاقليمي لسورية أي أن تكون لها كلمة فاعلة في قضايا المنطقة، لا سيما القضية الفلسطينية والقضية اللبنانية. وقد اختصرنا هذا الدور في أحد مؤلفاتنا بالقول انه قبل حافظ الأسد كان "الصراع على سورية" وهو عنوان كتاب مشهور للمحلل السياسي البريطاني باتريك سيل، ولكن بعد حافظ الأسد أصبح "الصراع مع سورية" وليس عليها. وفي مقدم هذا الصراع مواجهة الدولة العبرية وأهدافها التوسعية. 7- الهمّ الايديولوجي: وخلاصته ان السلطة في سورية منذ ما يزيد على ثلث قرن جاءت الى الحكم وعملت فيه تحت الشعار الايديولوجي لحزب البعث ولا يزال هذا الشعار قائماً حتى الآن. غير ان التجربة التي مرت بها سورية منذ زمن الوحدة في أواخر خمسينات القرن الماضي الى زمن النكسات والنكبات العربية في الستينات والسبعينات والثمانينات جعلت الفكر السياسي السوري يستمر على شعاراته في الأمة العربية والوحدة العربية، ولكنه يصبح أكثر ميلاً للعمل الفعلي من أجل الأمة السورية والوحدة السورية. وهذا ما هو حاصل الآن. على ان الانتقال الفعلي من تلك الايديولوجية الى هذه ليس أمراً سهلاً بسبب ما يرتبه ذلك من خيارات فكرية وسياسية جديدة يصعب تبريرها نظراً الى ما بين الايديولوجيتين من اختلافات جوهرية في المنطلق والمبادئ. هذه هي باختصار بعض هموم سورية الأساسية وهي الهموم التي تكون عادة في أساس الاستراتيجية السورية. لأن استراتيجية الدولة، كل دولة، هي مستجمع اهتماماتها لمعالجة همومها. ثانياً: هموم لبنان إذا انتقلنا الى لبنان، نجد ان همومه الكبرى تندرج ضمن العناوين الآتية: 1- همّ الوجود الحر: وهو همّ يتناول الانسان في لبنان فرداً وجماعات وطوائف، وخلاصته ان تركيبة لبنان الجغرافية - البشرية منذ القدم كانت ولا تزال تركيبة النزوع الى الحرية في أرض مغلقة من جانب ومفتوحة على العالم من جانب آخر. ان واقع لبنان الجغرافي كجبال في محاذاة المتوسط جعلت منه منطقة لجوء لكل الأقليات التي تريد ان تعيش حريتها الدينية والذاتية. لقد كان الضمان لهذه الأقليات هو حماية الجبل الطبيعي. واستمرت هذه الروحية، روحية الوجود الانساني اللبناني الحر، بعد نشوء الدولة اللبنانية. بهذا المعنى انتقل مفهوم الحرية، من ضمان الطبيعة الى ضمان الدستور والقانون في مجتمع ديموقراطي. وحتى في هذه الحال فإن مفهوم الديموقراطية، كما يقول آلان تورين في كتابه "ما هي الديموقراطية؟" لا يعود يعني حكم الأكثرية بمقدار ما يعني ضمان حقوق الأقليات وحريتها. 2- همّ لبنان في ذاته الكيان: ان التعبير الذي أطلقه شارل مالك عن فلسفة "لبنان في ذاته" يختصر هذا البعد الكياني. ذلك ان النظرة الى لبنان في ذاته تحدد مسبقاً الموقف من الكيان وبالتالي من الدولة. فهناك من ينظر الى لبنان في ذاته على انه وجود كامل وحقيقة جغرافية وتاريخية، وهؤلاء هم الاستقلاليون السياديون. وهناك من ينظر الى لبنان في ذاته على انه جزء من غيره وبالتالي فهو خطأ جغرافي وتاريخي. وعليه فإن الخطر على الكيان قائم لدى الذين لا يعترفون بهذا الكيان او الذين يحاولون اسقاطه بمختلف الضغوط والوسائل. ومثل هذا الخطر يولّد الهمّ الكبير لدى كثيرين من اللبنانيين. 3- همّ الممر التاريخي: ان مراجعة سريعة لأحداث التاريخ في منطقة الشرق الأدنى تبيّن الى أي حد كان لبنان، ولا يزال، مسرحاً وممراً لقوى الجنوب باتجاه الشمال، ولقوى الشمال باتجاه الجنوب. وأبرز علامات هذا المسرح موجودة على صخور نهر الكلب. ولكن المهم في الأمر، والهمّ الذي تتركه هذه العلامات على نفسية اللبنانيين وواقعهم السياسي والعسكري والاقتصادي والثقافي هي الآتية: - ان لبنان الممر أضعف لبنان بالمعنى العسكري والسياسي ولا يزال. - لكن لبنان الممر قوّى لبنان بالمعنى الثقافي والاقتصادي ولا يزال. هذا يؤكد حقيقة يعرفها الجميع، حتى الذين يستهينون بإمكانات لبنان العسكرية والسياسية، وهي ان قوة لبنان الحقيقية هي قوة ثقافية قبل كل شيء. 4- همّ الدولة - الحاجز: الأمن والمياه: تصنّف الجغرافيا السياسية الدولة اللبنانية بأنها دولة - حاجز، أي انها دولة صغيرة واقعة بين دولتين اقليميتين كبيرتين هما سورية واسرائيل، وكل واحدة منها تعتبر ان أمنها مهدد من جانب لبنان وتسعى بوسائلها الخاصة للحفاظ على هذا الأمن، وهو ما اختصره كيسنجر في مشروعه عام 1976 بأن "أمن اسرائيل وسورية من لا أمن لبنان". هذا يعني ان تدخل كل دولة قواتها الى داخل لبنان للحفاظ على أمنها. من جانب آخر فإن لدى لبنان نعمة المياه التي بفضل التجاذب عليها شمالاً وجنوباً تتحول في بعض الأحايين الى نقمة. ويصبح همّ لبنان الحقيقي في الحالتين كيف يقنع جيرانه بأنه لا يهدد أمنهم، وكيف يستطيع تأمين الاستعمال العادل والمنصف والمقبول للمياه بما يحقق مصالح شعبه أولاً، ومن ثم مصالح الآخرين طبقاً للقانون الدولي. 5- همّ الحياة المشتركة: المسيحية - الاسلامية: يتألف لبنان من عائلتين كبيرتين: المسيحية والاسلام بمختلف تلاوينهما ومذاهبهما. والتحدي الذي يولّد الهم الأكبر لدى اللبنانيين هو العمل الدائم والهادف والمستمر لخلق مجتمع لبناني متجانس ومتوافق في تعدديته يؤكد امكان، بل لزوم، قيام مجتمع مسيحي/ اسلامي في دولة واحدة هي لبنان. وتكون في الوقت عينه مختبراً عالمياً لهذه الامكانية. فالمطلوب ليس فقط مبدأ العيش المشترك، لأن للعيش طابع المادية في الأكل والشراب، ولكن مبدأ الحياة المشتركة يتخطّى مجرد الأمور المادية ليعانق الخيارات العليا للانسان، مسيحياً أو مسلماً، وهي في الأساس خيارات فكرية / فلسفية تتناول النظرة الى المجتمع والى القيم والى نمط الحياة في هذا المجتمع في ظل التفاهم والحرية، بحيث يتجاوران ويتحاوران ولا يسعى أي منهما لإلغاء الآخر. بل لاحترام رأي الآخر وخياراته ونمط حياته. 6- الهمّ الحضاري: التوفيق بين الحرية والوحدة: ان قاعدة الايديولوجية المسيحية هي الحرية. وان قاعدة الايديولوجية الاسلامية كما جسّدها وأبرزها القرآن الكريم هي الوحدة. وان الهم الأكبر المطروح على اللبنانيين باعتبارهم لبنانيين أولاً، ومسيحيين ومسلمين ثانياً، ان يستطيعوا صوغ نظام سياسي قادر على التوفيق والجمع بين قطبين: الحرية والوحدة. فمن دون الحرية يفقد الانسان اللبناني مبرر وجوده كما بيّنا في الهمّ الأول، ومن دون الوحدة يفقد لبنان مجرد كيانه كما بيّنا في الهم الثاني. ان مصير لبنان واللبنانيين يتحدد في ضوء الجمع بين الحرية والوحدة في آن. 7- همّ الجمع بين اللبنانية والعروبة: وهو أحد الهموم المطروحة على ضمير اللبنانيين نظراً الى علاقته بمفهوم الهوية. والصحيح ان اللبنانية والعروبة تتلاقيان وتجتمعان. بل ان اللبنانيين المسيحيين تحديداً هم الذين طرحوا فكرة العروبة بآفاقها العلمانية منذ منتصف القرن التاسع عشر. لكن التفريق المطلوب، المثير للتحفظ هو العلاقة بين اللبنانية والعروبوية وليس العروبة بمعناها القومي أو الديني. ان تبديد هذا الالتباس جزء من همّ اللبنانيين. وهو تبرير، في بعده الفكري والحضاري والانساني، يقرّب ما بين اللبنانيين وخصوصاً المسيحيين ومحيطهم العربي ولا يباعد نظراً الى الدور الذي يقوم به المسيحيون في تطوير واغناء الثقافة العربية. الى الهموم السورية واللبنانية علينا ان نضيف همّين يشارك فيهما الجانبان، وهما: همّ الحداثة من أجل بناء الدولة الحديثة في كل من البلدين، وهذا لن يتم الا بالعمل على قيام مجتمع المعرفة في كل منهما. ومثل هذا المجتمع المتميز بالجامعات ومراكز الأبحاث والتطورات التكنولوجية ووسائل الاتصالات هو الرهان الصحيح بل الوحيد ليس لهما فقط بل لكل دول العالم. وأما الهم الثاني فهو الهمّ لدى كل منهما الناشئ عن طرق العمل لتبديد هواجس وهموم الطرف الآخر بالنسبة الى كل منهما. ان للبنان هواجس تاريخية في نظرة سورية اليه انساناً ودولة، بمعزل عن الظروف والعهود والمراحل التاريخية. وان لسورية هواجس تاريخية في نظرتها الى لبنان بمعزل عن هذه المراحل والعهود أيضاً. وفي قراءة لهموم البلدين يتبين مدى علاقة هذه الهموم بالدولتين، بشرياً وسياسياً وفكرياً وايديولوجياً. ولعل المطلوب اليوم، مواقف أكثر جدية ومسؤولية: مواقف تاريخية تتخطى أساليب التذاكي والاستغباء لترسم الخط الوسطي المشترك الذي يراعي هموم الجانبين، ويسمح بقيام تفاهم تاريخي يؤمن فعلاً مصالح البلدين كما يريدها ويتمناها شعبا البلدين وشعوب المنطقة. وليس كما يريدها ويسعى اليها الآخرون