على هامش المفاوضات بين اسرائيل و"حزب الله" اللبناني حول صفقة تبادل الاسرى، ومن زاوية منسية ويأس شبه تام، يخرج مئات الضباط والجنود الاسرائيليين الذين كانوا وقعوا في الأسر إبان حرب تشرين الأول اكتوبر 1973 ليطلقوا صرخة مدوية: "نحن تحررنا من الأسر العربي. لكننا دخلنا في أسر في اسرائيل، اشد وأقسى. فالدولة تأكل ابناءها، ولا تكترث لأحوالهم المأسوية وتتركهم في ضائقة نفسية شديدة. وحتى تعرض عليهم الانتحار". على هذه الخلفية يحاول الجيش الاسرائيلي منع اتمام الصفقة مع "حزب الله". وعلى هذه الخلفية يعود شارون ليكرر المشهد نفسه الذي لعب فيه الدور الرئيسي قبل 30 عاماً، ويتحمل مسؤولية نجاح الصفقة آملاً بتحقيق مكسب جماهيري يعيد له مكانته المفقودة جراء سياسته الفاشلة. ذات يوم، كان الجيش الاسرائيلي يتباهى بقدسية كل جندي من جنوده. وفي أدبياته قصص كثيرة عن التضحيات التي قام بها لانقاذ جندي يحتضر في أرض المعركة. يدرسون هذه القصص في الوحدات العسكرية باستمرار. ويبنون عليها النظريات، ويستخدمونها ساترا لتغطية الحقيقة الكبرى. فسياستهم لا تقود الا الى الحروب، والمزيد المزيد من القتلى والمعوقين، ليس من العرب فحسب، بل اليهود ايضاً. ألوف اليهود. ومع ذلك لا تزال ماكينة الكذب في هذا المجال تعمل. فمن يوقفها؟ من يكشف زيفها؟ الجيش الاسرائيلي نفسه، من داخله. جنود وضباط تربوا في مدارسه الحربية التي تصدر الخبرات الى جيوش العالم. واذا بهم يكشفون عن ماكينة تعذيب سادي يتعرضون لها من قيادتهم. ويطلقون صرخات ألم. ويقولون ان قيمة الانسان اليهودي في الجيش الاسرائيلي، لا تساوي في الواقع شيئاً. وما يقال غير ذلك هو مجرد دعاية كاذبة للاستهلاك التجاري وحسب. ولعل قصة الحنان توننباوم، رجل الاعمال الاسرائيلي الذي خدم في الجيش وبلغ رتبة كولونيل، ووقع في أسر "حزب الله"، هي خير مثال على ذلك. لكنها قصة واحدة من مئات القصص التي يكشف النقاب عن بعضها من حين الى آخر، ثم يتم كبتها ولفلفتها على الفور. قريباً، يتوقع ان تنفجر من جديد قصة مجموعة اخرى من الضباط والجنود الاسرائيليين الغاضبين على قيادتهم. كانوا قد بدأوا معركة جماعية في سنة 1999 ضد الجيش والحكومة. لكنهم أداروها بهدوء بالغ. وقد اكتشفوا أخيراً ان هذا الهدوء يغش ويخدع. إذ أن المسؤولين يحسبونه ناجماً عن ضعف او قلة حيلة. ويقولون: نتركهم يصرخون قليلاً، ثم يضمحل نضالهم كما اضمحل نضال غيرهم. فمن هم هؤلاء؟ إنهم مئات الضباط والجنود الاسرائيليين الذين وقعوا في الأسر السوري وكذلك المصري ابان حرب تشرين الأول اكتوبر 1973 وعادوا بعد بضعة شهور في مصر 3 شهور وفي سورية 8 شهور، ليدخلوا أسراً آخر في اسرائيل هو، حسب قولهم، اشد مرارة من حالهم في الأسر العربي "على رغم اننا تعذبنا في السجون العربية وعانينا الأمرين". عندما سقط هؤلاء الشبان في الأسر، كانت اسرائيل قد حسمت النقاش في موضوع أسراها العسكريين باتجاه تقديم كل دعم ممكن لهم. فقد قرروا ان كل من يقع في الاسر، يظل جنديا او ضابطاً محسوباً على الجيش، وعندما يطلق سراحه يعود الى خدمته العسكرية ودرجته العسكرية، إلا اذا ثبتت عليه الخيانة أو إفشاء الأسرار الدقيقة للدولة العبرية وأجهزتها الامنية. وبالفعل، عاد المئات من الجنود الاسرائيلين لمزاولة نشاطاتهم العسكرية بعد خروجهم من الأسر، بينهم اسرى بلغوا درجات عسكرية عالية. لكن مئات غيرهم من الضباط والجنود وجدوا انفسهم منبوذين غرباء، وبعضهم بات على حافة الجوع. ويقول أحدهم، وكان قائد كتيبة مدرعات، يوآب دافيد: "صرنا أجساماً تمشي على الأرض. نفوسنا انطفأت. فلا يكفي اننا قضينا زمنا طويلا في الأسر، وهذا بحد ذاته أمر قاس وخطير ويحفر فينا الجراح التي لا تزول آثارها البادية للعيان، ولا يكفي انهم تركونا واهملونا قبل الوقوع في الأسر وبعده. لقد خرجنا بقناعة انهم أرسلونا الى المعركة وهم لا يأبهون بنا ان كنا بين الاحياء او الاموات. انهم يرسلوننا بشكل متعمد الى الموت". ويقول عدد من هؤلاء الجنود انهم توصلوا الى هذه القناعة أثناء التحقيق معهم بعد العودة من الاسر، حيث نصحهم المحققون بالانتحار. الخدعة الكبرى أما عميرام جاي، الذي كان طياراً مقاتلا عندما سقطت طائرته في الجولان فيقول: "انا غاضب. غاضب على اصحاب الرؤوس المغلقة الذين بسببهم نعاني اليوم، وبسبب أمثالهم وقعنا في الاسر". وتعود المشكلة الى الخديعة الكبرى التي وقع فيها هؤلاء الجنود، قبل حرب تشرين الأول، مثل كل افراد الجيش والمجتمع الاسرائيلي. فقد أوهموهم بأن الجندي العربي الحقيقي هو ذلك الذي هزم في نكسة 1967، عندما احتلت اسرائيل سيناء والجولان وبقية الاراضي الفلسطينية الضفة الغربية وقطاع غزة وشرق القدس. ودربوهم وشحنوهم بثقافة استعلاء عنصرية ضد العربي. وجاءت حرب سنة 1973 مفاجأة تامة للجمهور والجيش. حتى عندما شنت القوات المصرية والسورية الهجوم، لتحرر اراضيها المحتلة، ووصل الجنود المصريون الى مداخل أماكن اختباء الجنود الاسرائيليين، ظل الجندي الاسرائيلي يؤمن بأنها سحابة صيف وتمضي. ربما هي حلم، وربما هي واقع. لكنها ستنتهي بعد قليل، فلن يصمد أي جيش عربي امام اسرائيل. وتوقعوا بالطبع ان تصلهم الامدادات وقوات الدعم. فكانت النتيجة خداعاً في خداع. طلب الجنود المختبئون داخل الخنادق المتقدمة خوفاً من اقتراب المصريين، النجدة من سلاح الطيران. وكانت القيادة تؤكد لهم انها مسألة دقائق وثوان لا أكثر، وستظهر طائرات سلاح الجو. كانت القيادة الاسرائيلية تعرف انها تكذب. إذ ان الأوامر العسكرية صدرت واضحة: الطيران الاسرائيلي يعمل على الجبهة الشمالية لرد القوات السورية المهاجمة، ومن المستحيل ارسال طائرات الى الجنوب. فبات الجنود المحاصرون في سيناء مرشحين للتصفية او الاسر. وحتى عندما ارسلوا الطائرات الى سماء المعركة قيل للطيارين: "لا تخافوا. كل شيء جاهز. لم تبق للمصريين صواريخ يوجهونها الينا". وكانوا يكذبون. يقول الطيار جاي: "ما ان ظهرتُ في سمائهم حتى ضُربت طائرتي واسقطت فوقعت في الأسر". وفي الأسر المصري شكا الاسرائيليون من عمليات ضرب وتعذيب طيلة الاشهر الثلاثة. لكن الجنود الاسرائيليين الذين وقعوا في الأسر السوري الذي طال ثمانية اشهر، يعتبرون الاسر المصري منتجعا للاستجمام بالمقارنة مع أسرهم في سجن المزة السوري. وشكوا من تعذيب وقهر بلا توقف اذ اصر السوريون على الحصول على معلومات استخباراتية دقيقة منهم. الأسر الاسرائيلي لقد كتبت في اسرائيل قصص كثيرة رواها الأسرى الاسرائيليون عن معاناتهم في السجون المصرية والسورية، بعد عودتهم منها، فكسبوا بذلك عطف المواطنين الاسرائيليين. وجمعت السلطات تلك الشهادات وقدمتها الى مختلف المؤسسات والهيئات الدولية تشكوها. وفي السنوات التالية، تذكروا تلك القصص واضافوا عليها. وفي المقابل حاولت اسرائيل الظهور بمظهر انساني راق في التعامل مع هؤلاء الاسرى الاسرائيليين فقالت انها لا تعتبرهم منبوذين وأظهرت عدداً منهم وقد اعيدوا للجيش وحافظوا على رتبهم وحصلوا في ما بعد على الترقيات. وجعلت من تعاملها مع الاسرى العائدين نموذجاً يدرس في الجيش للدلالة على مدى اهتمام الجيش الاسرائيلي بجنوده، حتى بعد عودتهم من الاسر. وبثت الشعور بالأمان لدى الجنود وأهاليهم. ولكن في الواقع، ومن وراء هذه الديماغوجيا الصاخبة كانت مجموعة كبيرة من هؤلاء الاسرى تعاني الأمرين جراء تعامل هذه المؤسسة مع جنودها. وكان هؤلاء الجنود يتعذبون بصمت. فلم يجرؤوا على الشكوى واستمر صمتهم اكثر من ربع قرن. وحتى عندما قرروا الاحتجاج، فعلوا ذلك بهدوء. وابتعدوا عن الاعلام. كان ذلك في سنة 1999، عندما تأسست جمعية "يقظون في الليل" او "لا ينامون في الليل". والاسم نفسه يبدو ناعما ويدل على نياتهم في جعل معركتهم انسانية هادئة. وبدأوا يناضلون، ليس من اجل محاكمة المسؤولين عن تعذيبهم، بل من اجل الحصول على بعض الحقوق: علاج نفسي مجاني، تعويضات مالية وغير ذلك. وتدخل لمصلحتهم عدد من الجنرالات السابقين واللاحقين. فتأسست لجنة برئاسة الجنرال يورام يئير ياهياه، وبحثت وضعهم طيلة سنتين. وانتهت الى اصدار توصيات عدة لمعالجة قضيتهم، أهمها توفيرالعلاج النفسي لهم مجانا ودفع تعويضات مالية لهم شهرياً تعادل نصف قيمة الحد الادنى للاجور 400 دولار تقريباً او الحصول على مبلغ لمرة واحدة لا يتعدى 50 الف دولار حسب نسبة الضرر. ووافق الجنود الاسرى على البند الاول، لكنهم اعترضوا على البند الثاني. فتجاوبت وزارتا الدفاع والمال معهم، وقررتا زيادة المبلغ بنسبة 25 في المئة. وكان بالامكان ان تنتهي القضية عند هذا الحد، من دون ان يطلع احد على معاناة هولاء الجنود، لكن الحكومة جنت على نفسها، وضمن الخطة الاقتصادية الجديدة التي طرحها وزير المال، بنيامين نتانياهو، تجاوباً مع الشروط الاميركية لمنح اسرائيل ضمانات بقيمة 9 بلايين دولار، اجريت تقليصات على الموازنات، ومن بينها تقليص في البند المتعلق بالأسرى. إذ الغي الاتفاق معهم. ليصبحوا بلا علاج مجاني ولا تعويضات مالية. وهنا انفجر الاسرى غضبا. وبدأوا يكشفون قصتهم. ويقولون صراحة ان معاناتهم هي من قيادتهم في اسرائيل، خلال الحرب قبل الاسر وبعد الحرب أقسى بكثير من معاناتهم في الأسرين السوري والمصري: "طيلة هذه السنوات كانوا المسؤولون يكذبون. زعموا انهم يهتمون بالأسرى العائدين لكن الحقيقة مغايرة"، يقول يواف بن دافيد، الذي أسره السوريون في الجولان وهو يقود دباباته قرب مدينة القنيطرة. ويضيف: "فور اطلاق سراحنا من الاسر أخذونا الى منتجع زخرون يعقوب، المطل على البحر، لقضاء فترة نقاهة. وصدق الناس هذا الكلام. لكن الحقيقة هي انهم اخذونا الى غرف التحقيق التي تشبه آلزنازين. وحققوا معنا فترات طويلة جداً، اربع مرات كل يوم، كما لو اننا مجرمون. مرة يدخل علينا محققون من الاستخبارات والموساد ومرة يأتون باخصائيين نفسيين. ارادوا تفاصيل التفاصيل عما دار في غرف التحقيق في سورية. اشعرونا اننا ارتكبنا جريمة الخيانة. ثم راحوا يهددوننا. انا نفسي، فهمت هذا التحقيق بشكل ايجابي في البداية. وتجاوبت معهم. وقلت لهم بصراحة ان احد المحققين السوريين عرض علي ان اعمل جاسوساً لهم في اسرائيل. وكانت تلك ورطة عمري. فقد انتقوا هذه العبارة وركزوا التحقيق معي عليها. لماذا أنت بالذات؟ ماذا قلت لهم؟ قل بصراحة ان كنت تورطت معهم؟ ولم يحلوا عني حتى بعد اطلاق سراحي. فاستدعوني للتحقيق مرات ومرات. واشعروني باستمرار انهم يراقبونني". الكوابيس ويروي هؤلاء الاسرى كيف اثرت فيهم كل تلك الاحداث، منذ ان اهملوهم في المواقع والاستحكامات ووقوعهم في الأسر ثم التحقيقات معهم في اسرائيل بعد اطلاق سراحهم، ثم ماذا جرى لهم خلال السنوات الاخيرة. داني لفين، كان قائد وحدة عسكرية عمل قرب بحيرة طبريا، وهو قبل اسره كان رجل اعمال ناجحا جداً. منذ عودته من الاسر لا يعمل. منطو على نفسه. صامت طوال الوقت، يقول: "في السنوات العشر الاخيرة باتت تنتابني حالات عصبية مخيفة. عنف جسدي. دماء. اعتقال. محاكمة. وبدأت حياتي تنهار. عندما انطلقت اللجنة في عملها وبدأوا يعالجوننا، تعلمت كيف ألجم نفسي واسيطر على تصرفاتي. عميرام جاي، طيار مقاتل اصبح عاطلاً عن العمل: "انظر الى حياتي واستغرب. فالاسر اخرجني من مسار حياتي. عندما اندلعت الحرب كنت طياراً مدنياً في شركة "اركيع". استدعوني الى الخدمة الاحتياطية، وقدت طيارة مقاتلة أُسقطت. لو لم أقع في الأسر كنت تقدمت في عملي المدني، ومن يدري، ربما انا الان قائد طائرة "بوينغ". لكنني بدلا من ذلك عاطل عن العمل. حياتي كلها تغيرت وتتجه الى الانهيار. لهذا من الطبيعي ان تجدني عصبيا، في الشارع وفي البيت". يواف بن دافيد، قائد في سلاح المدرعات: "كان من حظي انني عدت الى الجيش. او هكذا اعتقدت. الا انهم واصلوا تعذيبي هناك. لقد أرسلوني الى وظيفة غريبة جدا علي هي اخبار عائلات الجنود الثكلى بنبأ مقتل ابنائهم. بالمناسبة، هناك اسرى مثلي ارسلوا لحراسة أسرى فلسطينيين. لا ادري لماذا، لكنهم فعلوها. لقد قبلنا القيام بأية وظيفة حتى لا نطرد من الجيش ويصيبنا ما اصاب غيرنا من الزملاء. فهناك من تم حبسهم ومحاكمتهم بتهمة الخيانة، لانهم اضطروا للاعتراف في الاسر السوري بمعلومات سرية. لذلك كان وضعنا افضل. لكن عائلاتنا تحملت عناء ذلك. فما لم نستطع قوله في الجيش وللقادة، انفجر من داخلنا على ابناء عائلاتنا. ولم تتوقف الامور عند هذا الحد، بل ان ابناءنا وبناتنا خرجوا مصابين من هذا الوضع. واصابهم ما اصابنا من امراض نفسية وعصبية. ويؤكد الثلاثة انهم لم يعودوا قادرين على الاستسلام لهذا الوضع، لذلك قرروا خوض معركة بلا هوادة ضد مؤسسة الحكم، بما فيها الجيش، حتى تعترف بحقوقهم. وهم يقومون حالياً بجمع تواقيع اسرى سابقين، من امثالهم، وتمكنوا حتى الان من جمع 250 توقيعاً وسيعقدون اجتماعا لاقرار امرين: 1- فتح ملف الاسرى منذ القدم، ومحاكمة المسؤولين عن الكذب عليهم وخداعهم وبالتالي تهديدهم وتعذيبهم بعد عودتهم من الاسر. فيما يطالب البعض الاخر بالاكتفاء بجعلها معركة حقوق مدنية ومالية. 2- الاتجاه الى القيام بتظاهرات امام وزارة الدفاع او التوجه الى المحكمة العليا لالزام الحكومة تنفيذ اتفاق سابق معهم لماذا لم تنتحر؟ احد الاسرى الاسرائيليين في السجون السورية، ابان حرب اكتوبر كان يسمى ب"النابغة". اسمه عاموس ليفنبرغ. ولد سنة 1949، ابوه توفي وهو في العاشرة من العمر. في المدرسة الثانوية اختار ان يتخصص باللغة العربية. وكان تلميذاً متفوقاً. عندما بلغ سن التجنيد الاجباري، وعرفوا عن تخصصه، ألحقوه بشعبة الاستخبارات. فتدرب طويلا على التجسس وعلى اسرار الشيفرا" و"تحليلها"، وكان لامعا خلال كل مراحل الدراسة. فعرضوا عليه ان يبقى في الجيش. وضموه الى الوحدة 848 التي تعتبر اكبر وحدة عسكرية في الجيش، وتضم ألوف الجنود والضباط المنكبين ليل نهار على مراقبة الدول العربية والتنظيمات الفلسطينية، من تحركات الجيوش الكبيرة الى محادثات الملوك والرؤساء الهاتفية وكان اسمها في حينه "الوحدة 8200". تميز ليفنبرغ ايضا بقدراته الذهنية الخارقة في عدد من المجالات. كان يحفظ الارقام بسرعة مذهلة. ذات مرة راهن مع قائده على ان يحفظ عن ظهر قلب ارقام جميع السيارات التي تدخل القاعدة العسكرية الكبرى التي خدم فيها. وخلال ساعتين دخلت 100 سيارة. فحفظ بالفعل أرقامها جميعا، واحدة واحدة. كذلك فإنه أظهر قدرة خارقة على حفظ ارقام سيارات الضباط، ومعرفة اسم كل ضابط و درجته ووظيفته. وكان يرسم في ذهنه خرائط لكل من يزوره. في حرب اكتوبر أرسل ليفنبرغ في مهمة قصيرة في نقطة المراقبة العسكرية فوق جبل الشيخ، التي تعتبر اكثر منطقة حساسة واهم نقطة مراقبة. لذلك وضعت فيها احدث الاجهزة. وكما هو معروف فإن هذا الموقع سقط في بداية الحرب في 6 تشرين الأول اكتوبر 1973 وتم اسر ليفنبرغ سوية مع مجموعة ضباط وجنود. ولسوء حظه، اكتشف السوريون مواهبه الخارقة، فاستخدموها في استخراج مخزن المعلومات في رأسه. ونجحوا في ذلك. فقد أطلعهم على كل ما يعرفه. وفي مرحلة ما، عرض المحقق السوري الخفيف الظل، ابو ابراهيم، ان يكتب كل ما يعرفه. فكتب مجلدين كاملين طافحين بالمعلومات عن أدق الاسرار العسكرية. ليفنبرغ يرفض اليوم الحديث عن اسره وعن الظروف التي دفعته الى الاعتراف بكل شيء. لكنه تحدث عن هذا مرة نادرة سنة 1990، فقال انه اختار بين أمه وخوفها عليه وبين وطنه وخوفه عليه. وانه بالتالي قرر ألا يموت حتى لا يؤذي أمه. وقال ان ما حسم لديه هو انه صدق ما قاله له السوريون من ان اسرائيل اخفقت واصبحت ولاية فلسطينية تابعة لسورية الكبرى وان حاكمين عسكريين احدهما سوري والاخر مصري يحكمانها حاليا. عندما عاد من الاسر تعرض ليفنبرغ للتحقيق طويلاً لدى الاستخبارات الاسرائيلية، وعانى من جراء ذلك، لأنه من جهة كان يشعر بالذنب نتيجة لما قاله للمحققين السوريين، ومن جهة ثانية لم يكن يحتمل ضغوط المحققين الاسرائيليين والحرب النفسية التي شنوها عليه. وأبرز ما فيها الحاح المحقق عليه انه كان يتوجب عليه ان ينتحر في الاسر السوري. ففي كل يوم كان المحقق يأتيه متسائلاً: ألم تنتحر بعد؟ لماذ لم تنتحر؟ لو كنت مكانك لانتحرت من زمان. وحاول فعلاً ان ينتحر شنقاً، مثلما انتحر زميله ايلان داخل زنزانته في سجن المزة السوري: "ايلان كان شجاعا. فكي لا يكشف للسوريين ما يعرفه من معلومات، شنق نفسه. لكنني لم أنجح في شنق نفسي". عندما تم كشف امر محاولته الانتحار، ارتفعت اصوات داخل الاستخبارات تطالب بمحاكمته بتهمة الخيانة. ففي هذه الحالة ستظهر محاولة انتحاره الثانية بمثابة عقاب ذاتي شرعي. لكن احد قادته تصدى لهذه المحاولة وطالب باطلاق سراحه من دون أي تهمة. ومنذ ذلك الوقت وهو منطو على نفسه لا يقابل احداً.