رؤساء المجالس التشريعية الخليجية: ندعم سيادة الشعب الفلسطيني على الأراضي المحتلة    قرارات «استثنائية» لقمة غير عادية    رينارد: سنقاتل من أجل المولد.. وغياب الدوسري مؤثر    «التراث»: تسجيل 198 موقعاً جديداً في السجل الوطني للآثار    كيف يدمر التشخيص الطبي في «غوغل» نفسيات المرضى؟    فتاة «X» تهز عروش الديمقراطيين!    الشركة السعودية للكهرباء توقّع مذكرة تفاهم لتعزيز التكامل في مجال الطاقة المتجددة والتعاون الإقليمي في مؤتمر COP29    محترفات التنس عندنا في الرياض!    عصابات النسَّابة    «العدل»: رقمنة 200 مليون وثيقة.. وظائف للسعوديين والسعوديات بمشروع «الثروة العقارية»    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    رقمنة الثقافة    الوطن    على يد ترمب.. أمريكا عاصمة العملات المشفرة الجديدة    هيبة الحليب.. أعيدوها أمام المشروبات الغازية    صحة العالم تُناقش في المملكة    لاعبو الأندية السعودية يهيمنون على الأفضلية القارية    «جان باترسون» رئيسة قطاع الرياضة في نيوم ل(البلاد): فخورة بعودة الفرج للأخضر.. ونسعى للصعود ل «روشن»    تعزيز المهنية بما يتماشى مع أهداف رؤية المملكة 2030.. وزير البلديات يكرم المطورين العقاريين المتميزين    المالكي مديرا للحسابات المستقلة    أسرة العيسائي تحتفل بزفاف فهد ونوف    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    أفراح النوب والجش    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 تصل إلى لبنان    الطائف.. عمارة تقليدية تتجلَّى شكلاً ونوعاً    أكبر مبنى على شكل دجاجة.. رقم قياسي جديد    استعادة التنوع الأحيائي    الخليج يتغلّب على كاظمة الكويتي في ثاني مواجهات البطولة الآسيوية    حبوب محسنة للإقلاع عن التدخين    التقنيات المالية ودورها في تشكيل الاقتصاد الرقمي    أجواء شتوية    السيادة الرقمية وحجب حسابات التواصل    العريفي تشهد اجتماع لجنة رياضة المرأة الخليجية    المنتخب يخسر الفرج    رينارد: سنقاتل لنضمن التأهل    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    «الشرقية تبدع» و«إثراء» يستطلعان تحديات عصر الرقمنة    «الحصن» تحدي السينمائيين..    مقياس سميث للحسد    أهميّة التعقّل    د. الزير: 77 % من النساء يطلبن تفسير أضغاث الأحلام    ترامب يختار مديرة للمخابرات الوطنية ومدعيا عاما    قراءة في نظام الطوارئ الجديد    الرياض .. قفزات في مشاركة القوى العاملة    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    الذاكرة.. وحاسة الشم    أمير المدينة يتفقد محافظتي ينبع والحناكية    السعودية تواصل جهودها لتنمية قطاع المياه واستدامته محلياً ودولياً    القبض على إثيوبي في ظهران الجنوب لتهريبه (13) كجم «حشيش»    نائب وزير العدل يبحث مع وزير العدل في مالطا سبل تعزيز التعاون    وزير الداخلية يرعى الحفل السنوي لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    إرشاد مكاني بلغات في المسجد الحرام    محافظ الطائف يرأس إجتماع المجلس المحلي للتنمية والتطوير    نائب أمير جازان يستقبل الرئيس التنفيذي لتجمع جازان الصحي    محمية جزر فرسان.. عودة الطبيعة في ربيع محميتها    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



1.8 مليون مستغيث في بلقان اللاجئين والمعذبين
نشر في الحياة يوم 11 - 03 - 2002

تمثل قضية اللاجئين والنازحين عن ديارهم، إحدى المشكلات الرئيسية التي خلفتها نزاعات منطقة البلقان، وبقيت من دون حل كامل، ما جعلها سبباً في عدم عودة الأمور إلى وضعها الطبيعي وخطراً مؤثراً سلباً على استقرار دائم في المنطقة ومعاناة يشكو منها العديد من الدول الأوروبية، على رغم توقف القتال.
وتعتبر البوسنة وكرواتيا وصربيا والجبل الأسود وكوسوفو ومقدونيا، مراكز مشكلات اللاجئين حالياً، سواء النازحين منها أو الوافدين إليها، ما يدل على أن الصراع العرقي لا يزال عنيفاً ويشكل عقبة من دون تمكن الذين بارحوا ديارهم قسراً من العودة إليها بسبب التهديدات التي يتعرضون لها.
وتتحمل سلطات هذه المناطق المحلية والجهات الدولية التي تتولى أموراً إدارية وأمنية فيها، القسط الأوفر من المسؤولية في عدم حل مشكلة اللاجئين والنازحين، إما لتواطئها مع سكان عرق الغالبية فيها الرافضين لذلك، أو لضعف قدرتها في حماية العائدين وتوفير الأمن اللازم لهم.
كما أن هيئات الاغاثة الدولية العاملة في المنطقة، والتي يتجاوز عددها 50 منظمة، اعتادت أن تقتصر مهماتها على ابقاء النازحين أحياء من خلال سد رمقهم بالخبز وبعض المواد الغذائية الضرورية واسكانهم إلى أمر غير محدود في الخيام والمباني العامة، من دون بذل جهد، سواء كانت راغبة في ذلك أم غير معنية، في ايجاد وسيلة لحل دائم لا يمكن أن يتحقق إلا بعودتهم إلى أماكنهم الأصلية.
وعلى رغم عدم وجود احصاءات رسمية كاملة لعدد اللاجئين والنازحين الذين غادروا ديارهم في منطقة البلقان، بسبب الضغوط التي تعرضوا لها، وذلك لأن قسماً كبيراً من هؤلاء اللاجئين يقيم عند أقاربه أو وجد له عملاً يعتاش منه ولم يسجل لدى المنظمات الإنسانية لاجئاً، إلا أن المراقبين يتفقون على أن أقرب الأرقام المتداولة إلى الحقيقة هو حوالي مليون و800 ألف لاجئ ونازح في الوقت الحاضر، مقسمون كما يلي: أكثر من مليون من البوسنة ونصف مليون من كرواتيا و250 ألفاً من كوسوفو و22 ألفاً من صربيا والجبل الأسود و20 ألفاً من مقدونيا.
وينقسم هؤلاء إلى فئتين: الأولى تلك التي غادرت مناطقها إلى بلدان أخرى وهم الذين يطلق عليهم "اللاجئون"، والفئة الأخرى هم الذين انتقلوا من أماكنهم حيث كانوا أقلية عرقية أو بسبب اضطهاد شديد إلى مناطق أخرى داخل بلدهم نفسه حيث يشكل العرق الذي ينتمون إليه الغالبية السكانية، وهم "النازحون".
وازاء هذا الوضع، سواء كانت المغامرة داخلية أم خارجية، فإن الأمور مهما اعطيت لها من مبررات ومسميات، لا يمكن جعلها واقعياً خارج إطار "التطهير العرقي" الذي طالما شهدته منطقة البلدان في عهود متعاقبة، وانه حالياً امتداد لتلك الممارسات غير الإنسانية التي سعت إلى جعل المناطق وحتى الدول مقتصرة على عرق واحد، والتي نجحت حيناً وأخفقت حيناً آخر، لكنها في كل الأحوال كانت من أسباب النزاعات والحروب والحوادث الدامية.
البوسنة
توافر الأمل في عودة اللاجئين والنازحين البوسنيين، من الأعراق كافة، إلى ديارهم مع إعلان "اتفاق دايتون" الذي ابرم في ولاية اوهايو الأميركية برعاية الرئيس السابق بيل كلينتون وكبار مسؤولي إدارته أواخر 1995، وتم بموجبه وقف الحرب وتقسيم البوسنة - الهرسك إلى كيانين: الاتحاد الفيديرالي البوسني المسلم - الكرواتي 51 في المئة من الأراضي البوسنية والجمهورية الصربية كيان صرب البوسنة 49 في المئة من الأراضي، ورافق ذلك نشر قوات عسكرية دولية بقيادة حلف شمال الأطلسي.
إذ نص الاتفاق في صدارة بنوده على سرعة عودة النازحين واللاجئين كافة إلى أماكنهم الأصلية التي اضطروا لمغادرتها بسبب ظروف الحرب، باعتبار أن هذه العودة تمثل قضية إنسانية ملحة وسبيلاً لتجاوز إحدى مشكلات الصراع العرقي الرئيسية، وفاتحة عهد جديد من السلام والاستقرار والامان.
لكن الذي حصل خلال الشهور الستة التي أعقبت وقف القتال، أن عدد الذين تركوا ديارهم ازداد بشكل كبير، فقد كان عدد الصرب من سكان المحيط الداخلي لمدينة ساراييفو 184 ألف شخص، بحسب الاحصاء الرسمي لعام 1991، يتوزعون على بلديات العاصمة الست: ساراييفو الجديدة، فوغوشتشا، اليجا، نوفي غرا، سينتر، المدينة القديمة، لم يبق منهم حالياً سوى حوالي أربعة آلاف صربي.
وحدثت هجرة، سواء صربية أيضاً أو مسلمة أو كرواتية، من أماكن بوسنية أخرى في الوقت نفسه، إذ أن تقسيم الجمهورية إلى كيانين عرقيين، وسيطرة العرقين البوشناقي المسلم والكرواتي على أماكن منعزلة عن بعضها، أدى إلى أن تصبح البوسنة مجزأة إلى ثلاث مناطق عرقية متنازعة، أفرزتها الحرب، ما جعل السكان يتركون أماكنهم حين غدت خاضعة لعرق ليسوا منه، خشية تعرضهم للانتقام باعتبارهم أقلية سكانية شاركت في الحرب ضد العرق الذي أضحى مسيطراً، وما نتج عن تلك المشاركة، حتى لو كانت اضطرارية، من قتل وعداوة وثارات.
ويبدو أن الأحزاب ذات النزعات القومية التي خاضت الحرب بين 1992 و1995 وهي "العمل الديموقراطي - الإسلامي" بزعامة علي عزت بيغوفيتش، و"الديموقراطي الصربي" الذي استمر ولاؤه لقائده رودوفان كاراجيتش، و"الاتحاد الديموقراطي الكرواتي" الذي يضم غلاة المتشددين الكروات، شجعت هذا الفرز والتجميع العرقي، لأنه يلائم مصالحها القائمة على "التعصب"، كما أن قوات حلف شمال الأطلسي التي انتشرت في البوسنة بعد توقيع "اتفاق دايتون"، تساهلت مع هذا النزوح الجماعي لأنها اعتبرته تسهيلاً لمهمتها الأمنية نتيجة تخفيفه الاحتكاكات والتوترات العرقية، وكانت "الوسط" رصدت في آذار مارس 1996 جنوداً أطلسيين يحرسون قوافل النازحين حتى مغادرتها حدود الكيان الذي لا تنتمي إلى عرقه.
وإلى ذلك، قال رئيس لجنة هلسنكي لحقوق الإنسان في البوسنة سرجان ديزداريفيتش، خلال مؤتمر صحافي في ساراييفو في كانون الأول ديسمبر الماضي، إن الصلاحيات الواسعة التي أعطاها "اتفاق دايتون" بعد إبرامه للأحزاب القومية، باعتبارها الموقعة عليه والملتزمة به، وفرّت لها المجال لوضع العراقيل أمام عودة اللاجئين إلى ديارهم وتزايد صعوبة حل هذه المشكلة الإنسانية مع استمرار بقاء الحال على وضعها المأسوي.
وبحسب المحصلة التي كانت متداولة في النصف الأول من عام 1996، فإن حوالي مليوني بوسني أي نصف المجموع الكلي لسكان البوسنة البالغ بموجب احصاء 1991 الرسمي أربعة ملايين و355 ألف نسمة كانوا خارج مناطق ديارهم، أما نازحون إلى أماكن أخرى داخل البوسنة أو مهاجرون خارجها.
ويشكل المسلمون القسم الأكبر من هؤلاء التاركين مناطقهم ويليهم الصرب ثم الكروات، كما أن معاناة المسلمين منهم كانت الأشد قساوة، لأنهم لا توجد لهم دولة أم قريبة توفر الرعاية لهم، كما هي صربيا بالنسبة للصرب المجاورة شرقاً للبوسنة، وكرواتيا بالنسبة للكروات المحاذية للبوسنة شمالاً وغرباً وجنوباً، ولهذا فإنه كان أمام المسلمين أحد أمرين: إما الانضمام إلى القطاع الضيق وسط البوسنة الذي كان يدافع المسلمون عنه، والذي كان نفسه في وضع صعب حيث تحيط به من جميع الجهات أراض يسيطر الصرب والكروات عليها، وأصبح مسرحاً رئيسياً لعمليات عسكرية وقصف صربي وكرواتي متواصل، إضافة إلى شحة المواد الغذائية والأساسية فيه التي كان وجودها مقتصراً على ما تجود به مساعدات المنظمات الإنسانية الدولية، أما القسم الآخر من النازحين المسلمين فقد فرّ إلى خارج البوسنة وتشرد في دول كثيرة قريبة وبعيدة.
وتفاقمت مشكلة نزوح المسلمين خلال العامين الأولين للحرب، إذ أنه في عامها الأول بدأت في نيسان/ ابريل 1992 استخدم الصرب تحركات عسكرية سريعة لافراغ مناطق كاملة في شرق البوسنة وشمالها من المسلمين الذين كانوا يشكلون الغالبية السكانية في معظمها، منها بلديات فيشيغراد وبراتوناتس وروغاتيتسا وزفورنيك وفلاسينيتسا أكثر من 60 في المئة وفوتشا وتشاينيتشي وبرتشكو حوالي 50 في المئة ورودو وسوكولاتس وخان بيساك واوغلوفيك وبييلينا ومودريتشا أكثر من 30 في المئة.
كما أن الكروات في عام 1993 ارغموا السكان المسلمين على مغادرة بلديات تشابلينا وبروزور وليفنو وتوميسلاف غراد وليوبوشكي وفيتز وكيسيلياك واوجاك واوراشيا التي كانت نسبة السكان المسلمين فيها بين 15 و40 في المئة.
ووفقاً لاحصائية نشرتها المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة في كانون الأول ديسمبر الماضي، فإن نحو 800 ألف بوسني عادوا إلى منازلهم، وهذا يعني أن حوالي مليون و200 ألف بوسني، غالبيتهم من المسلمين حسب التقديرات أكثر من 850 ألفاً لم يستطيعوا استعادة منازلهم وممتلكاتهم، على رغم مرور 6 سنوات على وقف الحرب عند إعلان احصائية مفوضية اللاجئين.
وترجح منظمات الاغاثة الدولية، عدم عودة غالبية من بقوا من اللاجئين المسلمين إلى بيوتهم لأسباب عدة، بعضها مرتبط بتجاهل تطبيق بنود "اتفاق دايتون" وأخرى نتيجة الأوضاع الاقتصادية والأمنية الصعبة في البوسنة.
ويضيف مدير برنامج الاغاثة الدولية في مدينة موستار جنوب البوسنة المقسمة بين المسلمين والكروات لانس سالسبوري إلى ذلك، عدم وجود الخدمات التعليمية والصحية وصعوبة الحصول على فرص عمل، حيث تصل نسبة البطالة في عموم البوسنة إلى أكثر من 50 في المئة من الأيدي القادرة على العمل، وان الجهات الدولية لا توجه اهتماماً لإعادة عمل وسائل الانتاج التي تضررت خلال الحرب، كما أنها لا تهتم بترميم مساكن النازحين وتسهيل رجوعهم إليها، إذ أنها تصرف اهتمامها لقضايا غير ملحة مثل إعادة تعمير المعابد والأماكن الدينية، في الوقت الذي ليست ضرورة آنية متعلقة مباشرة باللاجئين، واللافت أن معابد عمرت بصرف ملايين الدولارات في أماكن متفرقة من البوسنة، من دون أن يعود المنتمون إلى ديانات تلك المعابد إلى مناطقها حتى الآن، فبقيت بناء معزولاً مهجوراً كثيراً ما يعيث به أهل الديانات الأخرى، الساكنين خولها، فساداً.
وبحسب معلومات رسمية نشرت في ساراييفو، فإن المنح الدولية للبوسنة، منذ توقيع "اتفاق دايتون" وحتى الآن، بلغت حوالي خمسة بلايين دولار، وإذا كان نحو بليونين منها صرفت كمتطلبات للوجود الدولي العسكري والمدني في الجمهورية، وبليونين آخرين رواتب لموظفي الكيانين البوسنيين ومصاريف الانتخابات، وبليون واحد منها ذهب لمتطلبات محكمة "جرائم الحرب" في لاهاي، التي يعتبرها البوسنيون عبئاً غربياً عليهم من دون فائدة واقعية، فإنه لم يبق للمساعدات والقضايا الإنسانية أي منحة، ويستمر النازحون في ملاحقة منظمات الاغاثة للبقاء على قيد الحياة، ويشتكي النازحون من جدوى صرف محكمة لاهاي لملايين الدولارات لمحققين دوليين في نبش القبور، من دون التوصل إلا إلى نتيجة بائسة، حيث لا يزال عشرات الآلاف من البوسنيين يعتبرون في عداد المفقودين، من دون أن تعثر ملايين الدولارات التي صرفت إلا على عظام مجهولة الهوية، ويؤكد البوسنيون أنه "كان الأجدر لو تصرف هذه الملايين على الأحياء وليس على الأموات".
وترى مجلة "ليليان" البوسنية، انه من الصعب تصور أن الكثير من النازحين البوسنيين، على رغم مرور أكثر من ست سنوات على وقف الحرب، لا يزالون يعيشون في خيام أقامتها لهم منظمات الاغاثة، وانه في ساراييفو وحدها يوجد 35 ألف لاجئ يقيمون في المباني العامة ويعيشون على "ما تجود به" الهيئات الإنسانية الدولية.
وبحسب المسؤول الدولي الأعلى في البوسنة ولفغانغ بيتريتش، وهو نمسوي، في مؤتمر صحافي عقده عند زيارته لبلغراد في 24/2/2002، فإنه عاد خلال عام 2001 إلى دياره في البوسنة نحو مئة ألف نازح "وهو أكبر عدد يعود في سنة واحدة منذ إبرام اتفاق دايتون"، لكنه لم يوضح من أين عادوا، وما هي أعراقهم، وكم كان عدد العائدين خلال السنوات السابقة، وكم نازحاً لا يزال بعيداً عن دياره!
ويرى المراقبون أن الجهات الدولية المشرفة على إدارة البوسنة عملياً، تخشى تنظيم احصاء سكاني، لأنه سيأتي بكثير من التغيير "الديموغرافي" الذي قد يثير ضجة بسبب التناقضات التي سيكشفها والمخالفة لاحصاء 1991، حيث كانت النسبة السكانية فيه: مسلمون 45، صرب 33، كروات 18 وأعراق أخرى 4.
ويرجح أن تكون نسبة الكروات، في احصاء مقبل، باقية على ما كانت عليه عام 1991، في حين ستقل نسبة المسلمين وتزداد نسبة الصرب بشكل كبير.
أما سبب قلة نسبة المسلمين فتعود إلى أن غالبية الذين غادروا البوسنة، بصورة شبه نهائية، ويقدر عددهم بحوالي 250 ألف بوسني، هم من المسلمين الذين حصلوا على اقامات دائمة وفرص عمل في الدول الأوروبية، في حين انتقل الكثير منهم إلى كندا والولايات المتحدة واستراليا، نتيجة التسهيلات التي قدمتها هذه الدول لهم، والتي وصفتها هيئات المسلمين البوسنية بأنها "عززت عملية تخفيض نفوذ السكان المسلمين، في مقابل تعزيز نفوذ الصرب والكروات، بسبب الامتيازات التي منحها الوجود الدولي لهم".
ويعود سبب زيادة عدد الصرب إلى أمرين: الأول، ان اللاجئين منهم أقاموا في صربيا حيث عادوا إلى كيان صرب البوسنة حال وقف القتال من دون أن يحدث تشتيت لهم في دول أخرى، كما أن نحو 400 ألف نازح صربي من كرواتيا انتقلوا إلى شمال البوسنة وغربها، وأقاموا في بيوت المسلمين واستولوا على ممتلكاتهم، حيث أن "اتفاق دايتون" سمح لهم بالعيش في البوسنة أسوة بسكانها الاصليين.
كرواتيا
كانت نسبة الصرب في كرواتيا، بحسب الاحصاء الرسمي لعام 1986 تبلغ 12 في المئة، ولما كان عدد سكان كرواتيا في الاحصاء نفسه يبلغ 4 ملايين و667 ألف نسمة، فهذا يعني أن عدد الصرب كان 560 ألف شخص، يتجمعون في ثلاث مناطق رئيسية في جمهورية كرواتيا: شمالها الغربي كرايينا وشمالها سيساك وشرقها سلافونيا.
وشكل الصرب حركة انفصالية في مناطق تجمعاتهم، استمرت منذ إعلان استقلال كرواتيا أواخر عام 1991 وحتى آب 1995 حيث شنت القوات الكرواتية هجوماً شاملاً، بدعم من الولايات المتحدة والحلف الأطلسي، واتفاق بين الرئيسين في حينه: الكرواتي الراحل فرانيو توجمان والصربي سلوبودان ميلوشيفيتش، أسفر عن هزيمة حركتهم وانتقال غالبيتهم إلى البوسنة ولجوء عدد قليل منهم إلى صربيا، في حين بقي نحو 60 ألف صربي في شرق كرواتيا.
ويبدو وجود تواطؤ دولي في عدم عودتهم إلى ديارهم، حيث لم تمارس الدول الغربية أي ضغط على كرواتيا من أجل ذلك، ويرجح المراقبون أن الموقف الغربي ناتج عن الرغبة ببقاء هؤلاء الصرب في البوسنة من أجل التخفيف من النفوذ الإسلامي فيها "وذلك خشية أن يتطور هذا الوجود، ولو ظل كبيراً، إلى قيام دولة إسلامية وسط أوروبا".
وفي الوقت نفسه، فإن ميلوشيفيتش، فضل تجميع الصرب في البوسنة، حيث لهم وجود قوي في إدارة الدولة، بدل بقائهم أقلية هامشية في كرواتيا مرهقة لصربيا.
ويرجح بقاء هؤلاء الصرب "كابوساً" على البوسنة، برضا الدول الغربية، وقطع علاقاتهم مع أماكنهم في كرواتيا، من خلال صرف الحكومة الكرواتية تعويضات لهم عن أملاكهم.
كوسوفو
يبلغ عدد النازحين من كوسوفو حوالي 250 ألفاً، بينهم 200 ألف صربي و20 ألف من الغجر والأقليات الأخرى و30 ألفاً من الألبان الذين كانوا غادروا إلى دول أوروبية والولايات المتحدة وكندا واستراليا، قبل وضع الاقليم تحت الاشراف الدولي، وآثروا البقاء هناك.
وغالبية النازحين الصرب إما انتقلوا إلى أماكن أخرى في كوسوفو حيث التجمعات الصربية، أو ذهبوا إلى صربيا ويتلقون معونة منتظمة من منظمات الاغاثة الدولية.
في حين أن نازحي الغجر ويسمون محلياً رومي والأقليات الأخرى، انتقلوا إما إلى مقدونيا أو إلى الجبل الأسود.
وتتهم بلغراد الإدارة الدولية لكوسوفو، بعدم الرغبة في عودة النازحين من غير الألبان إلى ديارهم، وذلك لأنها لا تبذل الجهد المطلوب لمنع "العصابات الإرهابية الألبانية" من التعرض لهؤلاء النازحين الراغبين بالعودة.
وتؤكد بلغراد ان المسؤولين الدوليين قادرون على انهاء معاناة كل اللاجئين من كوسوفو، إذا أرادوا ذلك، بدليل أنهم تمكنوا من إعادة نحو نصف مليون ألباني في غضون أسبوعين، كانوا غادروا كوسوفو أثناء الغارات الجوية التي شنها الحلف الأطلسي، في حين لا يعقل أنه مرت حوالي سنتين ونصف السنة على هؤلاء النازحين ولم يتمكنوا من العودة إلى ديارهم.
ويعتبر الصرب، أن عدم حل مشكلة اللاجئين يمثل عقبة رئيسية أمام تسوية دائمة ومقبولة من كل الأطراف لقضية كوسوفو، ويتهم الصرب الولايات المتحدة بممارسة ضغوط على الأمم المتحدة والمسؤولين الدوليين في محاولة "لتحقيق رغبة الألبان ببقاء اقليم كوسوفو نظيفاً مقتصراً على عرقهم".
أما في صربيا والجبل الأسود لا توجد احصاءات واضحة عن عدد الذين نزحوا عن صربيا والجبل الأسود، اثر انهيار يوغوسلافيا السابقة، لكن التقديرات تشير إلى أن عددهم بحدود 22 ألفاً، غالبيتهم من الكروات الذين انتقلوا إلى كرواتيا وسيطروا على أملاك الصرب الذين نزحوا عنها، والقسم الآخر من هؤلاء النازحين هم البوشناق المسلمون الذين انتقلوا إما إلى البوسنة أو ذهبوا إلى تركيا.
وتستبعد المعلومات عودة هؤلاء إلى أماكنهم، وذلك لأن غالبيتهم باعوا أملاكهم ورحلوا.
مقدونيا
يحدد مسؤول مكاتب مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة مقره الرئيسي سكوبيا أمين عوض سوداني عدد النازحين المسجلين لدى منظمات الاغاثة في مقدونيا بحوالي 17 ألف شخص، منهم 10 آلاف من العرق المقدوني السلافي و7 آلاف ألباني.
ويشير إلى أن مفوضية اللاجئين والمنظمات الإنسانية الأخرى، تمكنت من انقاذ أعداد كبيرة من المدنيين في مقدونيا من الأعراق كافة، الذين تضرروا نتيجة الحرب التي شهدتها هذه الجمهورية، وذلك من خلال نوع من التوزيع الاختصاصي بينها، إذ أن مفوضية اللاجئين تولت توفير المأوى والفراش وأدوات المطبخ أثناء النزوح، في حين تقوم الآن بترميم المنازل وتنظيم العودة بالتعاون مع الجهات المحلية والدولية المعنية.
أما منظمة الغذاء ولجنة الصليب الأحمر، فإنهما تعملان في مجالات توفير المواد الغذائية والطبية والاسعافات الصحية، بينما الهيئات الدولية الأخرى من حكومية وأهلية اختارت المجال الإنساني الذي تراه مناسباً لإمكاناتها.
وبحسب المعلومات المتوافرة لدى السيد أمين عوض، فإنه نزح في أوج أيام الحرب التي قامت في مقدونيا العام الماضي حوالي 67 ألف شخص، توزعوا بين الأعراق المقدونية والألبانية والصربية والغجرية والتركية، حيث ذهب 38 ألفاً منهم إلى كوسوفو و4 آلاف إلى جنوب صربيا، بينما انتقل 25 ألف شخص إلى مناطق أخرى في مقدونيا.
ويوضح ان بقاء قسم من النازحين في مقدونيا من دون العودة حتى الآن، لا علاقة له بعمل منظمات الاغاثة، لأن ذلك تتحمله الأطراف التي تقاتلت والتي لم تنه خلافاتها حتى الآن، والتي بينها قضايا النازحين.
ويؤكد السيد عوض أنه متى تم الاتفاق بين الأطراف المعنية بالسلام، المحلية المقدونية والألبانية والدولية دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، فإن منظمات الاغاثة ستسارع إلى تقديم إمكاناتها لتسهيل عودة النازحين، أما إذا استمرت الأوضاع غير محسومة فليس في مقدور الهيئات الإنسانية غير اسعاف النازحين في أماكن وجودهم الحالية، وتقديم المساعدات التي هم في حاجة إليها.
شهادات لاجئين
يروي اللاجئون روايات متشابهة ومتكررة، على رغم اختلاف مناطقهم واعراقهم والحقد القائم بينهم، بسبب تباين انتماءاتهم القومية، ما توضحه هذه النماذج المختارة من دون معرفة سابقة بالمتحدثين فيها، هي ان مشكلة النازحين واللاجئين واحدة، وان اختلفت في اسبابها والاطراف المسؤولة عنها:
الحاج حسن، من منطقة براتوناتس في شرق البوسنة حالياً في الكيان الصربي النازح الى ساراييفو، يقول: "كنا منذ مئات السنين نعيش في منطقتنا، نحن المسلمين والصرب، متجاورين ومرتبطين بعلاقات اجتماعية متميزة بتسامحها المتوارث، من دون مشكلات، نتزاور كأصدقاء ونلتقي في مناسبات اعيادنا واعيادهم وافراحنا وافراحهم واحزاننا واحزانهم، حتى جاء "الزمن اللعين وانقلبت الأمور كلها" مع بداية الحرب البوسنية وزحفوا علينا واجتثوا وجودنا، وحلت نكبة لم ير تاريخنا مثيلاً لها، وتوزع سكان شرق البوسنة بين قتيل ومفقود، ومتشرد لم يحمل معه شيئاً باستثناء الملابس التي كانت تغطي جسمه".
وأضاف ان المأساة "لا تزال مستمرة، على رغم مرور نحو عشر سنين على بدئها، فإن "أرواح" أولادنا وأحفادنا واقربائنا الذين لم نتوصل الى معرفة مصيرهم تلازمنا، أما الأحياء فقد تفرقوا بحثاً عن الخبز والمأوى بين مناطق المسلمين في البوسنة وبقاع الدنيا".
واختتم الحاج حسن حديثه قائلاً: "لم يبق من عمري الا القليل، وعلى رغم ذلك لم أفقد الأمل في رؤية الأزقة والحقول التي عشت فيها وأحببتها، وأن ارتاح في مثوى أخير الى جانب آبائي وأجدادي".
الصربية ماريا ايفانوفيتش، نزحت الى صربيا هي وأولادها من منطقة بريزرين جنوب كوسوفو في تموز يوليو 1999 في جرار يملكه زوجها، الذي حمل ايضاً عائلة شقيقها ستيفان الذي "خطفه الألبان وليس معلوماً مصيره حتى الآن"، ولم يأخذوا معهم سوى حاجات بسيطة خفيفة لفسح المجال لأكبر عدد من الأهل والأقارب في الجرار "لأن المهم في مثل ظروف اعتداءات الألبان وتواطؤ قوات حلف شمال الاطلسي كفور معهم، هو ان يتمكن الانسان من انقاذ نفسه".
وحسب ما روته، فإن الألبان "مسحوا" منطقة بريزرين من كل من ليس ألبانياً، فخيروا الأعراق الأخرى من صرب وأهل الجبل الأسود وغيرهم، بين الموت ومغادرة المنطقة "لأن اقليم كوسوفو هو أرض للألبان وحدهم". وتتجه السيدة ايفانوفيتش ببصرها نحو الجنوب حيث أرض كوسوفو، وتقول: "كوسوفو مهد الحضارة الصربية وقلب صربيا، ويتوهم الالبان ومن يساندهم، خصوصاً الاميركيين والالمان، اذا ظنوا أنهم سينعمون في هذه الأرض ما دام بقي صربي واحد من بين الشعب الصربي الذي تعداده عشرة ملايين نسمة، واذا كانت الظروف الراهنة تجعلني لا أرى ذلك اليوم السعيد، إلا ان أبنائي الذين سيعملون من أجله، سيحتفلون به ويعيشون مباهجه... وقلت للالبان ذلك بأعلى صوتي، على رغم ان الجرار كان يسرع بنا نحو صربيا".
أما الألبان، فيذكرون في رواياتهم انهم كانوا الضحايا "وفرار الصرب من كوسوفو حصل تخلصاً من حساب العدالة لما اقترفته أيديهم من آثام بحق الألبان".
ويلتقي كل من حلمي يوسوفي ورامز نيتاي من منطقة جاكوفيتسا جنوب كوسوفو، اللذين كانا فرا الى البانيا مع آلاف الألبان "هرباً من العنف الصربي الذي لا يرحم البانيا".
ويصفان أفواج الراحلين من كوسوفو، بعدما أحرق الصرب منازلهم واستولوا على حقولهم وممتلكاتهم وقتلوا واعتقلوا الآلاف منهم، واحتلت اجهزتهم الأمنية مئات المدارس الابتدائية وكل المدارس الثانوية والكليات، "لا لذنب ارتكبوه، سوى المطالبة بحقوقهم المشروعة في الحياة الكريمة في أرضهم كوسوفو التي يشكلون 90 في المئة من سكانها".
وحسب يوسوفي ونيتاي، فإن سياسة "التطهير العرقي" القائمة على القتل والتشريد والارهاب الصربية، كانت منظمة ومخططة من أجل ان يتخلص الصرب من الغالبية السكانية الالبانية "ويفرضوا احتلالهم لكوسوفو، على رغم ارادة الالبان وموقف المجتمع الدولي".
وفي مقدونيا، يشكل الصراع بين المقدونيين السلافيين والألبان، - كما أفاد النازحون عن ديارهم من الطرفين - مشكلة عجزت الجهود الأوروبية والاميركية عن انهائها، ولا تزال تمثل خطراً قد يحرق بقاعاً واسعة في منطقة البلقان، بعدما بقي اتفاق انهاء هذه الأزمة الذي ابرم في آب اغسطس الماضي "حبراً على ورق" وظل آلاف النازحين المقدونيين والألبان غير قادرين على العودة الى ديارهم في المناطق التي كان خيم عليها القتال الشديد ولا تزال تعاني من وضع غير مستقر.
وفي احدى قاعات البرلمان المقدوني في سكوبيا، يعتصم نحو 30 امرأة ورجلاً من العرق المقدوني السلافي من سكان منطقة تيتوفو شمال غرب ذات الغالبية الالبانية منذ أكثر من شهرين، للمطالبة بمعرفة مصير 12 رجلاً من اقربائهم يقولون ان المسلحين الألبان خطفوهم قبل حوالي ثمانية اشهر من دون توافر اي معلومات عنهم حتى الآن.
ومن هؤلاء المعتصمين، تحدثت ليليانا نيكولوفا والدة أحد المخطوفين وهي من بين أكثر من 6 آلاف مقدوني سلافي اضطروا للنزوح عن قراهم في المرتفعات المحيطة بمدينة تيتوفو "ليس فقط بسبب التهديدات التي وجهها المسلحون الألبان الينا، وانما لما استخدموه من عنف متواصل في اطلاق النار واحراق المنازل وتدمير الممتلكات ورمي القنابل والعبوات المتفجرة على المحلات، اضافة الى انسحاب السلطات الحكومية التي كانت توفر الحماية لهم من هذه المناطق وهيمنة الألبان عليها".
وتضيف نيكولوفا: "كل هذا جعلنا غير قادرين على البقاء في ديارنا، وان نعيش مشردين الى أجل لا نعرفه، نمد ايدينا لمنظمات الاغاثة لتمنحنا الطعام الذي يجعلنا لا نموت، ويخيم علينا الألم على اعزائنا القتلى والمفقودين".
وتتهم نيكولوفا المسؤولين الدوليين وقوات الحلف الاطلسي في مقدونيا "بعدم تنفيذ وعودهم للمقدونيين" وتضيف: "يبدو ان المسؤولين الدوليين الموجودين في بلادنا من أجل استقرارها يهمهم فقط الاستجابة لما يريده الألبان، وهذا يعني انهم ينافقون حين يدعون بأنهم جاؤوا من أجل كل سكان مقدونيا"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.