هل ارتكب الرئيس جورج دبليو بوش خطيئته السياسية الكبرى بتعيينه هنري ألفرد كيسنجر رئيساً للجنة التحقيق في احداث 11 ايلول سبتمبر؟ أنصاره ومستشاروه لا يرون ذلك، لا بل هم يعتبرون عودة العزيز هنري على حصان أبيض الى البيت الابيض، "ضربة معلم" موفّقة. فهذا التعيين، من ناحية، سيكم أفواه قادة الحزب الديموقراطي المعارض الذين يطالبون منذ أشهر بالتحقيق في أسباب تقصير أجهزة الامن والاستخبارات الاميركية في توقّع ومن ثم منع وقوع كارثة نيويوركوواشنطن. ومعروف أن بوش كان يرفض بقوة إجراء هذا التحقيق، خوفاً من ان يؤثّر ذلك على استراتيجيته لإقامة نظام عالمي جديد ينبثق من أتون حروبه ضد الارهاب و"الدول المارقة". اضافة الى ذلك سيخدم التعيين، من ناحية أخرى، أهداف الرئيس الاميركي كافة. فكيسنجر سيبذل قصارى جهده لإبعاد أي شبهة تقصير عن البيت الابيض وسكانه. وهو بحكم ارتباطاته التاريخية العميقة مع أجهزة الاستخبارات الاميركية العديدة، لن يعمد الى احداث أضطرابات ذات شأن في صفوفها. كما انه بحكم العلاقات "التجارية" الكثيفة مع العديد من دول العالم عبر شركته الاستشارية "كيسنجر أسوسياتز"، سيحرص على ألا يحرج الدول التي لا تريد الادارة الاميركية إحراجها في هذه المرحلة. والحصيلة؟ لجنة تحقيق لا تحقق في ما يجب التحقيق به. وهكذا يخرج الجميع سعداء: البيت الابيض، كما الكونغرس، كما أجهزة الاستخبارات، كما بالطبع كيسنجر. فهذه الفرصة الذهبية ستمكّنه وهو على مشارف الثمانين من تلميع صورته، وتبييض بعض غسيله القذر، وزيادة ثرواته الطائلة عبر زيادة نشاطاته الاستشارية لاحقاً. لعبة ذكية ؟ أجل. لكن على المستوى التكتيكي الآني فقط. أما على المديين المتوسط والبعيد، فقد يؤدي دخول كيسنجر البيت الابيض الى خروج بوش منه في معركة الولاية الثانية. لماذا؟ لأسباب عدة، أهمها تاريخ "العزيز هنري" هكذا كان يسميه الرئيس أنور السادات الملطّخ بكل الألوان الداكنة، والذي وصفته الكاتبة الاميركية ماري ماكروري بأنه "من أسوأ الفصول السوداء في تاريخ الولاياتالمتحدة": - فهو متهم بإصدار الأوامر لتنفيذ عشرات العمليات السرية التي لم يعرف الكونغرس عنها شيئاً طيلة الفترة من 1969 الى 1977، حين كان عضواً في إدارات الرؤساء ليندون جونسون وريتشارد نيكسون وجيرالد فورد. وهذه العمليات تضمنت الكثير من عمليات التخريب والاغتيالات والانقلابات. - وهو تواطأ مع نيكسون لتأخير السلام في فيتنام أربع سنوات كاملة، ما أدى الى سقوط مليون قتيل بلا مبرر. - وفي أواخر الستينات، أشرف هنري على تنفيذ القصف السري لكمبوديا ولاوس، الذي أدى الى سقوط 600 ألف قتيل في الاولى و250 ألفاً في الثانية. - وفي اندونيسيا، منح الديكتاتور سوهارتو ما يكفي من صفقات الاسلحة لقتل ثلث سكان تيمور الشرقية. - ثم هناك بالطبع مأساة تشيلي التي نفذها كيسنجر بدم بارد، فدبّر إطاحة الرئيس المنتخب سلفادور ألليندي وساعد الجنرال اوغستينو بينوشيه على إغراق البلاد في بحر من الدماء. - وفي افريقيا أوعز هنري الى ال"سي. أي. ايه" بتنفيذ العديد من الحروب، التي كانت في أساس الفوضى التي تعيشها القارة الآن. ويقول الصحافي الاميركي الجريء كريستوفر هيتشنز: "ان هنري كيسنجر مجرم حرب وكذّاب. انه مسؤول شخصياً عن كل عمليات القتل والتعذيب والإبادات الجماعية التي حدثت في العالم خلال حقبة السبعينات". أما "واشنطن بوست" فاستخدمت التوصيفات الآتية: "كيسينجر ليس فقط شخصية تعشق السلطة وتضع نفسها بتصرف أصحابها. انه أيضاً يشاطر الرئيس بوش الرأي بأن احداث 11 ايلول وقعت بسبب أخطاء بيل كلينتون. انه رجل يعشق الاسرار، ويحب القنابل، ويفخر بأنه كان وراء القصف السري لكمبوديا". هذا التاريخ الحافل، والذي دفع العديد من الاطراف الاميركية والدولية الى المطالبة بمحاكمة كيسنجر جنباً الى جنب مع بينوشيه وميلوسيفيتش، كان قبل فترة قصيرة مدعاة ل"حرب منخفضة الوتيرة" بينه وبين خصومه. لكن الآن وبعد تعيينه على رأس لجنة ستكون مسؤولة ليس فقط عن تحديد المسؤولين عن التقصير في 11 ايلول، بل أيضاً عن تحديد وتعريف "معنى الجرائم وأسبابها"، فإن الاضواء الاعلامية والقانونية الباهرة ستتحوّل برمتها نحوه. وحين يحدث ذلك والمؤكد أنه سيحدث، قد يثبت هذا انه نكسة سياسية حقيقية للرئيس بوش. اذ أن هذا الاخير يحتاج بشكل سيء في حربه العالمية الراهنة ضد الارهاب والدول "المتشردة" الى غطاء أخلاقي وتبريرات مثالية، كتلك التي غطّت بها الديبلوماسية الاميركية كل حروب الولاياتالمتحدة طيلة القرنين الماضيين. وبالطبع "العزيز هنري" هو آخر من يمكنه تقديم مثل هذا العون المبدئي والاخلاقي والمثالي. العكس سيكون صحيحاً فكيسنجر لا يخفي ازدراءه الشديد لكل فلسفة الرئيس وودرو ويلسون السياسية المثالية، التي تدعو الى ارساء السياسة الخارجية الاميركية على أسس أخلاقية ومبدئية. وهو بذل جهوداً مضنية في كتابه "الديبلوماسية" للأثبات بشكل حاذق أن الولاياتالمتحدة كانت ترفع دوماً الشعارات "الويلسونية" المثالية، لكنها كانت تطبّق في الواقع الشعارات ال"روزفلتية" تيمناً بالرئيس روزفلت الواقعية. وفي كتابه الاخير "هل تحتاج الولاياتالمتحدة الى سياسة خارجية؟"، كان كيسنجر اكثر وضوحاً بكثير في رفضه الأخلاق. يقول: "صحيح ان اميركا كسبت الحرب الباردة، الا أنها فعلت ذلك بسياسات كانت أخلاقية بشكل زائد، مما كلّفها أثماناً أكبر". وطالما اننا نتحدث عن مؤلفات كيسنجر، فيجب أن نتذكر هنا ان أطروحته التي نال عليها الدكتوراه في جامعة هارفرد في الخمسينات، أحدثت ضجة كبرى بسبب تحبيذها شن الولاياتالمتحدة الحروب النووية، بغض النظر بالطبع عن الكوارث التي يمكن ان يسببها ذلك في مجال البيئة الطبيعية والدمار والضحايا البشرية. يقول في هذه الاطروحة، التي صدرت لاحقاً في كتاب بعنوان "الحرب النووية والسياسة الخارجية": "الحرب الذرية المحدودة يمكن خوضها وربحها. كل ما على الولاياتالمتحدة فعله هو كسر الحاجز النفسي المتعلق بالاسلحة النووية". هذا هو كيسنجر المكّلف الآن ملف 11 ايلول الذي يعتبر الاخطر في التاريخ الاميركي منذ ملف بيرل هاربور، والذي بات المفتاح الرئيس للسياسة الخارجية الاميركية. وعلى رغم ان "لجنة كيسنجر"، كما قلنا في البداية، لن تحقق في ما يجب التحقيق به ولن تمس لا السلطة السياسية ولا السلطة الاستخبارية الاميركيتين، الا ان كيسنجر سيكون في موقع يمكّنه من توجيه السياسات الخارجية الاميركية نحو الوجهة التي يريد. وهي وجهة لا مُثل فيها ولا أخلاق ولا حتى تبريرات قانونية. الدافع الحاسم في عمل اللجنة سيكون القوة، ثم القوة، ثم القوة. أي: كيفية فرض القوة الاميركية، وكيفية تحقيق ميزان قوة لمصلحتها، وكيفية اخضاع خصوم اميركا بالقوة. ومثل هذا المنحى يتطابق حرفا بحرف مع توجهات صقور البنتاغون البروتستانت واليهود المتطرفين الثلاثي رامسفيلد - بيرل - وولفوفيتز الذين يرفعون هم ايضاً شعار إخضاع العالم للزعامة الاميركية بالقوة. وهنا، ومع تقاطع نظريات كيسنجر مع تطبيقات صقور البنتاغون، تكون أنشوطة التطرف قد أحكم ربطها حول رقبة الرئيس بوش، الذي سيجد نفسه قريباً بفضل هذه النظريات والتطبيقات، عرضة لمخاطر التمدد الاستراتيجي الزائد التي طالما حذّر منها بول كينيدي. وحينها، سيكون في وسع بوش طبع قبلة الوداع الاخيرة على فرصة تمديد اقامته في البيت الابيض لأربع سنوات أخرى. هذا بالطبع من دون ان ننسى الاشارة الى ما قد يتعّرض له بوش من تشويه سمعة، في سياق الحملات العنيفة التي يتوقع أن يتعّرض لها كيسنجر. لكن ماذا الآن عن التأثيرات المحتملة لعودة كيسنجر الى دائرة القرار على منطقة الشرق الاوسط؟ حسناً. الامور لن تكون مطمئنة كثيراً. لا بل هي لن تكون مطمئنة البتة. وهذا بسبب ماضي كيسنجر كما بسبب حاضره. فالرجل كان المهندس الحقيقي لفك ارتباط مصر بالمنطقة العربية خلال ديبلوماسية المكوك التي مارسها العام 1973. وهو كان وراء الانقلاب العسكري في قبرص العام 1974، الذي يعتبر الكثيرون انه كان التمهيد الحقيقي للحرب اللبنانية العام 1975. ثم انه هو أيضاً كان العامل الاساسي في نسف مفهوم التضامن العربي. هذا عن الماضي. ويبدو ان الحاضر لن يقل خطورة. فالكاتب الصهيوني الاميركي المتطرف وليام سافاير المقرّب للغاية من أرييل شارون وبنيامين نتانياهو، والذي كان على غير ودّ مع كيسنجر في السابق، كان السبّاق للترحيب بعودته الى بلاط البيت الابيض. وهو ألمح الى أن "هنري لم يعد لا بركاناً منطفئاً ولا بركانا متفجّراً ولا ماكيافيلياً هاوياً". وطالما أنه لم يعد كذلك، فسيكون على الارجح كما يريده سافاير: بركاناً "عقلانياً" في خدمة شارون، وماكيافيلياً محترفاً في خدمة الصقور المتطرفين في البنتاغون. متى يمكن لجورج دبليو بوش أن يكتشف مدى فداحة الخطأ الذي أرتكبه بنفض الغبار عن هنري ألفرد كيسنجر؟ ربما بعد فوات الاوان. لكن هذا لا يجب أن يكون مدعاة فرح. اذ أن العزيز هنري لن يجر معه الى أسفل بوش وحده، بل منطقة الشرق الاوسط برمتها أيضاً. انها عادته كيسنجر البافاري - ولد هنري كيسنجر في بافاريا، جنوبألمانيا، العام 1923. هرب مع عائلته من البلاد سنة 1938 واستقر في نيويورك. - انضم الى الجيش الاميركي العام 1943، وخدم كمترجم حين اجتاحت قوات الحلفاء ألمانيا. - بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، انتسب الى جامعة هارفرد، وسرعان ما أصبح أهم خبير فيها في شؤون ديبلوماسية القرن الثامن عشر الاوروبي. - أطروحته للدكتوراه كانت بعنوان "الحرب النووية والسياسة الخارجية" التي شدّد فيها على انه يمكن كسب حرب ذرية محدودة. - عمل مع ادارتي كينيدي ونيكسون. وحين فاز نيكسون بالرئاسة العام 1968، عيّنه مستشاراً لشؤون الامن القومي، ثم وزيراً للخارجية. - بعد خروجه من الحكومة العام 1977، أسس شركة تجارية تقدم النصح السياسي للشركات متعددة الجنسيات والعديد من قادة دول العالم، وجنى من وراء ذلك ثروة طائلة.