أمير القصيم يستقبل سفير أوكرانيا    الجامعة العربية تعقد مؤتمرًا دوليًا بالأردن حول دور المجتمع الدولي في تعزيز حقوق الطفل الفلسطيني    أمير الشرقية يفتتح فعاليات منتدى المرأة الاقتصادي    انطلاق أعمال الملتقى البحري الثالث في المنطقة الشرقية بمشاركة 42 متحدثًا من 25 دولة    هوكشتاين متفائل من بيروت: هناك فرصة جدية لوقف النار    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين في العدوان الإسرائيلي إلى 43972 شهيدًا    محمد بن عبدالعزيز يطلع على جهود تعليم جازان لانطلاقة الفصل الدراسي الثاني    مجلس الوزراء يوافق على الترتيبات التنظيمية لرئاسة الشؤون الدينية للحرمين وهيئة العناية بهما    محافظ الخرج يكرم مركز التأهيل الشامل للإناث    مجمع الملك فهد يطلق "خط الجليل" للمصاحف    نائب أمير الشرقية يطلع على جهود مجلس الجمعيات الأهلية    في اليوم ال1000 لحرب أوكرانيا.. روسيا إلى عقيدة نووية جديدة    الهويّة السعوديّة: ماضي ومستقبل    جامعة الملك سعود تحتفي باليوم العالمي للطلبة الدوليين    تقرير كي بي إم جي: بناء الحوكمة من أجل مستقبل صناعي مستدام في السعودية وخارجها    مركز الملك سلمان للإغاثة ينظم المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة الأحد القادم    أمير تبوك يستقبل المواطن ممدوح العطوي المتنازل عن قاتل أخيه    «السعودية للكهرباء» و«أكوا باور» و«كوريا للطاقة» توقع اتفاقية شراء الطاقة لمشروعي «رماح 1» و«النعيرية 1»    التشكيلة الرسمية لمنتخب السعودية أمام اندونيسيا    القبض على مواطن لترويجه 44 كيلوجراما من الحشيش في عسير    انطلاق ملتقى المسؤولية الاجتماعية 2024 تحت شعار "الإعلام واقع ومسؤولية"..غداً    ارتفاع أسعار الذهب إلى 2623.54 دولارًا للأوقية    سماء غائمة تتخللها سحب رعدية ممطرة على جازان وعسير والباحة    منتدى الرياض الاقتصادي يطلق حلولاً مبتكرة    «الجامعة العربية» تدعم إنشاء التحالف العالمي لمكافحة الفقر والجوع    دراسة: القراء يفضلون شعر «الذكاء» على قصائد شكسبير!    وزير الخارجية يلتقي وزير الخارجية الأمريكي    رينارد في المؤتمر الصحفي: جاهزون لإندونيسيا وهدفنا النقاط    الأخضر يختتم استعداده لمواجهة منتخب إندونيسيا ضمن تصفيات كأس العالم    الخليج يواجه الشباب البحريني في ربع نهائي "آسيوية اليد"    «عكاظ» تكشف تفاصيل 16 سؤالاً لوزارة التعليم حول «الرخصة»    9,300 مستفيد من صندوق النفقة في عام    الأخضر السعودي تحت 19 يتغلّب على البحرين في ختام معسكر الشرقية    وزير الدفاع ونظيره الفرنسي يبحثان آفاق التعاون العسكري    انعقاد أولى الجلسات الحوارية في المؤتمر الوطني للجودة    العتودي الحارس الأخير لفن الزيفه بجازان    اتهامات تلاحق كاتباً باستغلال معاناة مريضة ونشرها دون موافقتها    بعد سيلين ولوبيز وكاميلا.. العالمي هوبكنز يعزف في الرياض    الأخضر «كعبه عالي» على الأحمر    163 حافظا للقرآن في 14 شهرا    «الإحصاء»: السمنة بين سكان المملكة 15 سنة فأكثر 23.1 %    إصابات الربو في الطفولة تهدد الذاكرة    بيع ساعة أثرية مقابل 2 مليون دولار    لبنان نحو السلام    (إندونيسيا وشعبية تايسون وكلاي)    الاختيار الواعي    صنعة بلا منفعة    وزير الدفاع يلتقي حاكم ولاية إنديانا الأمريكية    مرحلة الردع المتصاعد    رسالة عظيمة    أصول الصناديق الاستثمارية الوقفية بالمملكة ترتفع إلى مليار ريال    ChatGPT يهيمن على عالم الذكاء الاصطناعي    سعادة الآخرين كرم اجتماعي    المملكة ومكافحة مضادات الميكروبات !    الاكتناز    البرتقال مدخل لإنقاص الوزن    إطلاق كائنات فطرية بمتنزه الأحساء    يا ليتني لم أقل لها أفٍ أبداً    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيسنجر : رجل المهمات الصعبة !
نشر في الحياة يوم 16 - 12 - 2002

عيّن الرئيس الأميركي جورج بوش وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر رئيساً للهيئة المستقلة للتحقيق في هجمات 11 أيلول سبتمبر 2001 ويأتي إنشاء هذه الهيئة في سياق قانون أقره الكونغرس، وشجّع عليه أقطاب في الكونغرس وأهل ضحايا الأحداث والعديد من وسائل الاعلام. وتتألف الهيئة من عشرة أعضاء: خمسة من الجمهوريين وخمسة من الديموقراطيين. ولها صفة قانونية وصلاحيات أشبه بتلك التي للجنة تحقيق وتوصيات بحيث يمكنها استدعاء أي كان للشهادة أمامها بمن فيهم الرئيس بوش نفسه. وأعطيت مهلة 18 شهراً لتقديم تقريرها.
فما هي أهداف هذه الهيئة؟
وماذا يعني اختيار هنري كيسنجر لرئاستها؟
أولاً: أهداف الهيئة
يعتبر يوم 11 أيلول 2001 تاريخاً مفصلياً، ليس في أميركا وحدها بل في العالم أيضاً. ففي ذلك اليوم شعر الأميركيون ان ضربة وجّهت اليهم في القلب وللمرة الاولى في عقر دارهم، وهي ضربة مدمرة أدت الى تغيير جذري في معطى السياسة الدولية، فقد وجدت الولايات المتحدة نفسها وجهاً لوجه أمام تحدي عدو جديد أطلقت عليه تسمية "الارهاب الدولي"، بحيث وضع الرئيس بوش خطاً فاصلاً مباشراً: "إما معنا وإما مع الارهاب وسنحاسب كل جهة على موقفها واختيارها لأحد الجانبين".
ولعل أفضل لوحة "لوجه العالم الجديد" غداة 11 أيلول كما رسمها ايناسيو راموني في "لوموند ديبلوماتيك" هي مزيج من التصميم والقدرة والمهارة والغش توخى فيها المنفذون اعتماد ثلاث وسائل للوصول الى ثلاثة أهداف:
أما الوسائل فهي:
- ان يضربوا بقوة.
- وأن يضربوا في القلب.
- وأن يزعزعوا النفوس.
أما النتائج التي هدفوا اليها فهي ثلاث:
1- ان تصاب الولايات المتحدة بأكبر قدر من الخسائر البشرية والمادية.
2- ان يكون للحدث صدمة تطاول هيبة الولايات المتحدة بضرب رموز عظمتها التجارية مركز التجارة العالمي والعسكرية البنتاغون والسياسية البيت الأبيض حيث كان مخططاً ان تضرب الطائرة الثالثة التي أسقطت.
3- احداث صدمة اعلامية عالمية بحيث ظهر أسامة بن لادن على كل شاشات التلفزة ليؤكد عطوبية الولايات المتحدة. فوجه رسالته الى العالم وأصبح الرجل الأشهر في العالم: عولمة... في مقابل عولمة!
ومع ان الرئيس بوش سارع الى اعلان الحرب على الارهاب، وخاض حرب أفغانستان، وشدد الاجراءات الأمنية وأنشأ وزارة الأمن الوطني الجديدة... الا انه اعترف "بأن هجمات أيلول هي خط فاصل في تاريخ الولايات المتحدة لأنها أظهرت مدى تعرض البلاد للأخطار في حقبة جديدة، لأن المحيطات التي تفصل أميركا عن العالم لم تعد تفصلها عن الخطر". لذا كان من الضروري، بل من الواجب، انشاء هيئة مستقلة تدرس ما حدث: ماضياً وراهناً ومستقبلاً ويكون من مهماتها، كما حددها الرئيس بوش بحضور كيسنجر:
1- "ان تفحص بدقة الأدلة وتتابع كل الحقائق بغض النظر عما ستؤدي اليه. فعلينا ان نكشف عن كل تفصيل وان نتعلم كل درس من 11 أيلول".
2- ان هذه الهيئة ستساعد الرئيس الحالي ورؤساء أميركا في المستقبل "على فهم أساليب أعداء أميركا وطبيعة الأخطار التي نواجهها".
3- مراجعة اجراءات حماية الطيران المدني والحدود البرية والمرافئ بالاضافة الى نشاط أجهزة الاستخبارات المختلفة.
4- الاهتمام المسؤول بالمعلومات الحساسة التي تسمح بالانتصار على الارهاب وحماية أمن الولايات المتحدة.
5- تبيان الحاجة الى اجراء اصلاحات ضرورية في الأجهزة.
6- تقديم توصيات للادارة للعمل بها فوراً.
انها اذن مراجعة شاملة لواقع الولايات المتحدة أمنياً وسياسياً وعسكرياً واستراتيجياً، سواء في الداخل ام ازاء الخارج، خصوصاً ازاء تحديات عالم اليوم في صراعاته الجديدة، وان مهمة بمثل هذه الشمولية بحاجة الى رجل مثل كيسنجر "رجل المهمات الصعبة".
ثانياً: لماذا هنري كيسنجر؟
منذ ما يزيد على ثلث قرن، وهنري كيسنجر رجل الفكر السياسي الأبرز، ليس فقط في الولايات المتحدة، وإنما في العالم أجمع. ومع وجود تباين كبير في النظرة الى ممارساته السياسية يوم كان مسؤولاً في الادارة الأميركية في السبعينات ومنها دعوات لمحاكمته أمام محاكم دولية الا ان هناك اجماعاً على اعتباره "ثاني أقوى رجل في العالم" و"أستاذ رئيس الولايات المتحدة" بل هو "من أكثر الساسة الأميركيين قوة ونجاحاً ما بعد الحرب العالمية الثانية" كما وصفه وليام كوانت. وهو كما قيل عنه يجمع في شخصه ثلاثة أمور: الاشراقية الدينية اليهودية والعمق العلمي والفلسفي الألماني من أصول ألمانية والبراغماتية الأميركية.
ومع ان الرئيس بوش كان متردداً في البداية حول مبدأ انشاء هيئة التحقيق بهجمات 11 أيلول كي لا تحرج الادارة الحالية وسابقاتها بالكشف عن أخطاء استخباراتية وادارية وزمنية وسياسية داخل أميركا، فإنه لم يتردد أبداً في اختيار كيسنجر رئيساً لهذه الهيئة. ويعود هذا الاختيار الى اعتبارات شخصية - ثقافية ووطنية وايديولوجية وسياسية - استراتيجية.
معنى التاريخ
يُعدّ كيسنجر من أكثر سياسيي العالم ثقافة في النصف الثاني من القرن العشرين. وظهر ذلك في كتاباته ومؤلفاته، لا سيما مذكراته. وأشار الرئيس بوش الى هذه الناحية مشدداً على مميزات كيسنجر الثقافية "ككاتب متميز وأكاديمي" ورجل "صاحب خبرة واسعة، وتفكير واضح، وتقويم دقيق". ولعل أهم شيء في توجهه الثقافي هو اهتمامه بمسار التاريخ، ليس من حيث كتابة التاريخ بل من حيث فهم معنى التاريخ. وقليلون هم الذين يعرفون ان أطروحة كيسنجر للحصول على اجازة الليسانس في جامعة هارفرد كانت بعنوان: "معنى التاريخ: تأملات حول اشبنغلر، توينبي وكانط". وهو بذلك يسبق صموئيل هنتنغتون الى درس التاريخ على ضوء صراع الحضارات. وكان هاجسه الدائم: علامَ يبنى الاستقرار في العالم؟ لذا جعل أطروحته للدكتوراه حول السلام الأوروبي 1814 - 1914 ودور مترنيخ فيه: انه "عالم مُرمّم"!
لقد ورث كيسنجر عن أصوله الألمانية الفكر الفلسفي الشمولي. فهو رجل رؤية شمولية للتاريخ وهي رؤية مهما كان الموقف منها عزّزت خياراته السياسية والاستراتيجية وجعلت منه أحد صانعي التاريخ المعاصر كونه "أستاذ رؤساء أميركا". فلكونه مهندس انتصار أميركا والغرب في الصراع الايديولوجي بين الليبرالية والماركسية فليكن، كما يريد البيت الابيض، مهندس انتصار أميركا في ما بعد الحرب الباردة: في الحرب ضد الارهاب!
رجل الوطنية الأميركية: تغيير العالم!
لقد شدد الرئيس بوش على "وطنية هنري كيسنجر" فهو "ابن نيويورك التي يقيم فيها منذ سنوات طويلة ويشعر بعمق بمدى خسارة هذه المدينة" وهو "من أكثر الشخصيات العامة في البلاد التي تحظى بالاحترام" اذ تبوأ منصبين بارزين أيام الرئيس نيكسون وفورد هما مستشار للأمن القومي ووزير للخارجية. فخدم جندياً في الجيش الأميركي وحصل على جائزة نوبل للسلام 1973.
والأهم من كل ذلك ما حققه كيسنجر من انجازات في السياسة الأميركية:
- معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية "سالت 1" مع الاتحاد السوفياتي.
- وسياسة الانفتاح على الصين 1972.
- الانسحاب الأميركي من فيتنام 1973.
- فصل القوات في الشرق الأوسط 1974 ووضع أسس لسلام عربي - اسرائيلي.
لقد جعل كيسنجر أميركا حاضرة ومؤثرة وناجحة في مختلف أنحاء العالم وأخرجها من موقع الدفاع الى موقع الهجوم وهو الهجوم الذي انتهى بانتصار الخيار الاجتماعي الليبرالي على الخيار الاجتماعي الاشتراكي وتأكد بانهيار الاتحاد السوفياتي وجعل أميركا القوة الوحيدة المهيمنة في العالم. لذا قيل ان كيسنجر هو بحق مهندس تغيير العالم.
رجل الاستراتيجية الشمولية: الديبلوماسية والقوة!
خرج كيسنجر، كمفكر استراتيجي أميركي عن المدرستين اللتين طبعتا الحياة السياسية الأميركية وهما: مدرسة الحرب الباردة، ومدرسة الاقليميين، ليضع الأسس لمدرسة ثالثة تقوم على المآلفة Synthڈse بين دعاة الحرب الباردة ودعاة الوفاق الدولي في آن. وكان غرضه في ذلك كسب الوقت الذي هو في مصلحة الغرب على الاتحاد السوفياتي. وقامت استراتيجيته انطلاقاً من دراساته الجامعية وتأثره بمترنيخ الذي ساهم في ارساء مئة عام من الاستقرار في أوروبا 1815 - 1914 على القاعدة القائلة: لا بد من صياغة نظام عالمي مستقر يحقق السلام لأن السلام لا ينشأ الا من الاستقرار. والاستقرار لا يولد الا في ظل شرعية دولية مقبولة ومثل هذه الشرعية تولد من حوار المصالح المتعارضة التي تؤمنها الديبلوماسية المسنودة الى القوة المسلحة. "فالاستقرار الدولي، كما يقول كيسنجر، لا يمكن تحقيقه والحفاظ عليه الا باستخدام مركب يتكون من الديبلوماسية والقوة، فاستخدام القوة من دون ديبلوماسية هو تهوّر، والديبلوماسية التي لا ترتبط باستخدام القوة هي ديبلوماسية عقيمة"... وهكذا لا بد من دمج الديبلوماسية والقوة لتحقيق هزيمة كاسحة للقوى المعادية.
من ضمن هذه القاعدة تميّز كيسنجر عن الاستراتيجيتين الأميركيتين كونه قلّل من دور الايديولوجية وزاد من كمية البراغماتية في مواقفه السياسية والديبلوماسية الى الحد الذي اتهمه فيه بعضهم بأنه انتهازي فرد عليهم بكلامه الشهير: "نعم ان مترنيخ كان انتهازياً... وكل سياسي يريد ان يوجه الأحداث لا بد له من قسط من الانتهازية. لكن المعيار الحقيقي للحكم هو ان نفرّق بين الذين يطوّعون أهدافهم للأمر الواقع والذين يريدون تطويع الأمر الواقع لأهدافهم"! وعليه يمكن القول ان كيسنجر ليس من مدرسة "الخير والشر في السياسة" كما يطرحها بوش. لقد أغفل المثالية ولم يطلّقها فلم يطلب الكمال بل طلب الاستقرار. فالاستقرار وليس الأخلاق هو الشكل الأرقى "للأخلاقية السياسية الدولية" لديه! على ان الوصول اليه يستدعي براعة فائقة للتفاوض في قضايا معقدة. وهذه البراعة تستدعي حكماً ثقافة واسعة: تاريخية - دينية اجتماعية - اقتصادية كي تُعرف من خلالها استراتيجية الخصم ووضعه ونوعية قيادته السياسية ونقاط قوته وضعفه وتحديد أهدافه الحقيقية.
كيسنجر وصراع الحضارات
عندما أصدر صموئيل هنتنغتون كتابه الشهير "صدام الحضارات" الذي نقل الصراعات من خطوطها الايديولوجية والاقتصادية الى خطوطها الجديدة: الخطوط الثقافية، كتب كيسنجر يقول: "إن هذا الكتاب هو أهم كتاب صدر بعد نهاية الحرب الباردة". ولئن كان من الصعب بل المستحيل عرض الطروحات الفكرية والفلسفية المتصلة بموقف كيسنجر من أطروحة صراع الحضارات، بل صدام الحضارات، ومن علاقات الغرب بالعالمين العربي والاسلامي على ضوء العلاقات الدولية، فإنه من الضروري الاشارة الى بعض التوجهات العامة المتصلة بقضايا العالم الاسلامي لا سيما القضية المركزية فيها وهي قضية النزاع العربي - الاسرائيلي ومدى تأثير "تجربة" كيسنجر السابقة على آرائه في محاربة الارهاب بعد 11 أيلول.
ينبغي التذكير، في المنطلق، بأن كيسنجر هو من أصول يهودية ألمانية هربت عائلته الى أميركا قبل ثلاثة أشهر فقط من مجزرة اليهود أيام النازية في تشرين الثاني نوفمبر 1938 وقتل العديد من أقربائه فيها 13 فرداً، وظلّ ذلك مؤثراً في نفسيته. وجاءت وصية أبيه راجع مقطعاً منها في الصفحة السابقة لتزيد من التزامه تجاه "الجماعة اليهودية" والعديد من تلامذته في هارفرد حكموا اسرائيل من بعد ديان وآلون وبيريز ورابين. وبالتالي فهو ملتزم نحو دولة اسرائيل وضمان أمنها ومستقبلها. ومن دون الدخول في الشروحات السياسية والجيو - استراتيجية، فإن كيسنجر كان، ولا يزال متمسكاً بثلاثة أمور بالنسبة الى اسرائيل وعلاقتها بمحيطها العربي - الاسلامي.
الأول: ان تقيم سلاماً مع الأكثرية العربية - السنية وليس مع الأقليات، فهذا أكثر ضماناً لها على المدى البعيد. وهو ما أقنع به قادة اسرائيل بعد طول تردد!
الثاني: ان الاعتراف بشرعية وجود اسرائيل هو بداية وليس نهاية.
الثالث: لا يمكن اعادة اسرائيل الى حدود 1967 لأسباب جيو - استراتيجية. فهي حدود لا يمكن الدفاع عنها. "انها حدود انتحارية وهشّة".
أما أسلوبه فهو معروف ومشهور بسياسة الخطوة - خطوة وهذا يتناسب وفلسفته السياسية لأن على الجانبين العربي والاسرائيلي تجرّع السلام جرعة جرعة وعلى مدى طويل كي يمتحن كل جانب الآخر في اخلاصه وصحة نياته. لأن الزمن قادر على كشف هذه النيات لدى الجانبين لذا اشتهر كيسنجر بقوله: "بديل شعار الأرض في مقابل السلام هناك شعار الأرض في مقابل الزمن"!
لكن كيسنجر يعترف بأن العالم الاسلامي هو منطقة الوسط على خريطة الجيوبوليتيكا العالمية والانتصار فيه هو انتصار في العالم كله. وأهمية العالم الاسلامي لا تعود الى موقعه الجغرافي الحيّز الوسط بل الى ما يختزنه من مصادر الطاقة لا سيما النفط. فهو الذي أرسى نظام الخطوط الحمر في لبنان عام 1976، ولا يزال قائماً كما يقول في مذكراته الأخيرة، وهو الذي دعّم قيام "صيغة اقليمية عربية تتشكل من ائتلاف يضم مصر وسورية والمملكة العربية السعودية ويكون صديقاً لأميركا" على حد تعبير وليام كوانت. من الواضح ان لدى كيسنجر ربما أكثر من أي مفكر سياسي أميركي، القدرة على تحليل أسباب الكراهية لأميركا لدى اطراف وجهات كثيرة وهي كراهية بلغت حد العنف. ولئن كان من المستحيل عليه، وعلى غيره، اتهام الاسلام بالمطلق كدين، بما يحصل، فمن السهل الاستنتاج ان من يقومون به هم مسلمون ولهم مبرراتهم السياسو - دينية التي يختلف او يتفق عليها كثيرون.
في خلاصة أولية، ان اختيار كيسنجر لرئاسة الهيئة المستقلة ليس قراراً اعتباطياً. فهو يأخذ في الاعتبار أموراً كثيرة فكرية وايديولوجية جمهورية ورؤية معينة للتاريخ: تاريخ أميركا والعالم. فالتاريخ لم ينته يوم 11 أيلول وربما يكون ابتدأ آنذاك. وهذا الرجل ليس سياسياً عادياً، بل ينبغي الاعتراف بأنه مفكر سياسي غير عادي. من هنا أهمية ما سيقوم به وما سيحلله حلالاً او حراماً وما سيدعو اليه، وما سيعتبره واجباً يقوم به تجاه "أمه، وعائلته، واليهود، وأميركا والعالم" كما أوصاه أبوه. ولعل أخطر ما سيقترحه كيسنجر ليس التخويف بجلبة الحرب كما يفعل الرئيس بوش الآن، بل بما اشتهر به وهو خلق الفتن داخل الجماعات المناهضة لأميركا قبل الاجهاز عليها بالقوة الأميركية. وإن العالمين العربي والاسلامي سيكونان على المحك الصعب، ربما للمرة الاولى عندما سيواجهان توصيات كيسنجر عبر الهيئة المستقلة. فعندما يكون الانسان بمستوى ثقافة هذا الرجل وعمقه وشموليته فإنه يصبح، من دون شك انساناً خطراً
وصية الاب الى الابن
في نهاية الجزء الأخير من مذكراته بعنوان "سنوات التجدد" تعمد هنري كيسنجر ان يورد في نهاية الكتاب، بعد الخاتمة، الوصية التي كان والده الفرد قد كتبها له ولأخيه حين دخل المستشفى وهو في حال الخطر. وشاء كيسنجر في هذا النص القول ان ما كتبه والده هو دستور حياته الذي التزم به وحاول ان يحققه. وجاء في الوصية:
"كان جدكم فولك يقول: على الانسان ان يقوم بواجبه. فلتكن هذه الكلمات البسيطة المبدأ الذي يوجه حياتكم. تمموا دائماً واجبكم نحو أمكم أولاً، ثم العائلة، ثم الجماعة اليهودية، ثم هذا البلد الكبير أميركا ونحو أنفسكم.
... أنا على يقين أنكم تتبعون دائماً الصراط المستقيم. وأنا فخور بكم ومتيقن ان وجودكم يبرر مثل هذا الفخر.
تذكّروا دائماً ان الانسان لا يحصل على الغبطة الا عندما يخدم الآخرين. اجتهدوا دائماً ان تكونوا طيبين وأمينين وخدومين ومترفعين وجديرين بثقة الآخرين.
لطالما أحببت وتمنيت ان أراكم تكبرون لأسهم في نجاحاتكم وسعادتكم.
ليبارككم الله".
ملاحظة: يعلق كيسنجر على وصية أبيه بالقول: "لقد استعاد أبي عافيته وعاش حتى العام 1982. وكان إذن الشاهد على كل الأحداث التي أوردتها في هذه المذكرات".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.