منذ وصوله الى السلطة بداية العام 2001، وبعد أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001، وحرب أفغانستان، والحرب المعلنة على الارهاب، وعشية احتمال ضربة عسكرية أميركية للعراق، يتساءل المحللون عن العقيدة، بل الاستراتيجية السياسية - العسكرية التي توجه قرارات ومواقف الرئيس الأميركي جورج بوش الابن ازاء ما يجري في العالم. وهناك من يختصر هذه العقيدة بالقول: ان الولاياتالمتحدة، باعتبارها سوبر - قوة عالمية وحيدة، فهي تعمل على تحقيق وتثبيت استراتيجية التفوق والهيمنة في العلاقات الدولية. ما هي مبررات ومكونات هذه الاستراتيجية؟ وكيف نفسر تجلياتها ازاء القوى الدولية، وآخرها العراق؟ مع انهيار الاتحاد السوفياتي وقيادة الولاياتالمتحدة التحالف الدولي في حرب الخليج الثانية 1991 عادت الى اليمين الأميركي أحلام الامبراطورية. كتب سيناتور يقول: "نحن مركز العالم ويجب ان نبقى كذلك. وعلى الولاياتالمتحدة ان تقود العالم وهي تحمل الشعلة الأخلاقية والسياسية والعسكرية للحق وللقوة وأن تكون النموذج لكل الشعوب". يميني آخر قال: "منذ قيام روما بتدمير قرطاجة. لم تصل أية قوة عظمى إلى الذروة التي نحن فيها". وفي نظرة الى المستقبل قيل: "القرن الثامن عشر كان فرنسياً والقرن التاسع عشر كان انكليزياً والقرن العشرون والقرن المقبل سيكون أميركيين". إذا نظرنا الى موقع الولاياتالمتحدة في العالم المعاصر لوجدناها تحقق التفوق على الأصعدة الثلاثة: على الصعيد الاستراتيجي ليس لديها خصم حقيقي في المدى المنظور يمكنه المنافسة او تغيير المعادلة الاستراتيجية. أكثر من ذلك فإن القوتين الاقتصاديتين العالميتين ألمانيا واليابان هما حليفتان لها. وعلى الصعيد السياسي فإن نفوذها يقوى ويزداد اتساعاً ليشمل مناطق جديدة في العالم آسيا الوسطى، وينعكس بشكل مباشر على منظمة الأممالمتحدة بالذات. وعلى الصعيد الاقتصادي فهي التي تحدد أسس ومعايير النظام الاقتصادي الدولي وتتحكم به عبر المؤسسات المالية الدولية لا سيما البنك الدولي. إن البقاء في هذا الموقع المريح، الموقع الامبراطوري المتفوق هو هدف السياسة الأميركية! وفي حين كان الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون الديموقراطي يستغل هذا الموقع ليحقق تفوقاً اقتصادياً، وقد انعكس ذلك على الاقتصاد الأميركي في عهده، جاء الرئيس بوش مع طاقم عمله الجمهوري اليميني المتطرف ليعطي الأولوية للتفوق السياسي العسكري بتأثير الثنائي الأميركي المعروف: المؤسسة العسكرية وشركات انتاج الأسلحة. يضاف اليها بالطبع الشركات البترولية، وانعكس هذا التوجه في الموقف من الصين وإعادة النظر في معاهدة الأسلحة لعام 1972 والشروع في نظام الدرع الواقية، ورفض التوقيع على اتفاقات دولية يمكن أن تمنع أميركا من العمل على هواها بروتوكول كيوتو حول البيئة، اتفاق الأسلحة البيولوجية... وحتى رفض مبدأ محكمة الجزاء الدولية لمحاكمة جرائم الحرب. كل هذه التوجهات تعني شيئاً واحداً، هو ان الولاياتالمتحدة ترفض ان تكون أيديها مقيدة بأية معاهدات ثنائية او جماعية او بالقانون الدولي، حتى ان مسؤولين أميركيين يقولون ان بلادهم تتصرف وكأن القانون الدولي غير موجود! إن الولاياتالمتحدة، في وضعيتها الحالية، كانت موضوعة فعلاً أمام ثلاثة خيارات استراتيجية: - اما التعاون مع القوى الدولية ضمن مفهوم التعددية القطبية. - واما اعتماد سياسة كلاسيكية قائمة على توازن القوى. - واما اعتماد استراتيجية القطب الأوحد على قاعدة التفوق والهيمنة. ان تبني الرئيس بوش الخيار الثالث كعقيدة سياسية - استراتيجية لعهده مرتبط بخياراته الفكرية كجمهوري يميني متصلب من جهة، وبثقافته كحامل اجازة في التاريخ من جهة ثانية، وكرجل حازم وافق على اعدام 42 شخصاً عندما كان حاكماً لولاية تكساس من جهة ثالثة، وبنوعية الأشخاص الذين يحيطون به ويشاركونه القرار والرؤية من جهة رابعة. ويشرح بول وولفوفيتز نائب وزير الدفاع وأحد العقائديين النافذين في ادارة الرئيس بوش أهداف هذه الاستراتيجية بالقول: "ينبغي منع أية قوة معادية من السيطرة على مناطق يمكن لثرواتها ان تجعل من هذه القوة، قوة عظمى. كما ينبغي تثبيط عزيمة الدول الصناعية المتقدمة ازاء أية محاولة منها لتحدي زعامتنا او لقلب النظام السياسي والاقتصادي القائم. كما علينا التنبه والتوقع لأي بروز محتمل لمنافس لنا على مستوى العالم". من جانبه، أضاف وزير الدفاع في حرب الخليج ديك تشيني نائب الرئيس حالياً إلى هذه التوصيات واحدة من وحي "عاصفة الصحراء"، وقال: "علينا ان نشكل سياساتنا وقوانا العسكرية بحيث تكون قادرة على الردع أو السحق السريع لأية تهديدات اقليمية في المستقبل". وبدوره شدد وزير الدفاع دونالد رامسفيلد بقوة على ضرورة عسكرة الفضاء مستعيداً فكرة حرب النجوم من زمن الرئيس رونالد ريغان. فهو قبل ان يصبح وزيراً للدفاع كان رئيساً للجنة وضعت تقريراً حول خيارات أميركا الاستراتيجية. وتحدث هذا التقرير عن العطوبية Vulnerabilitژ المتزايدة للولايات المتحدة ازاء وقوع بيرل هاربر ثانية "وبالتالي على الرئيس الأميركي ان تكون لديه امكانية نشر أسلحة في الفضاء الخارجي لردع أية تهديدات محتملة والدفاع عن المصالح الأميركية اذا اقتضى الأمر ذلك". أما رئيس لجنة التخطيط في وزارة الدفاع الأميركية ورجل النفوذ الكبير في واشنطن ريتشارد بيرل فيذهب الى القول ان على أميركا، بعد 11 أيلول ان تنتقل الى المرحلة الثانية وخلاصتها: "لا ينبغي التفريق أبداً بين الارهابيين وبين الدول التي تساند الارهاب"، وهو مسرور لأن الرئيس بوش وإدارته توصلا إلى هذه القناعة، وهو ما لم تصل اليه أية ادارة أميركية سابقة. وعنده ان ذلك "سيكون سياسة بوش بكل وضوح بل سيُرفع الى مستوى العقيدة، عقيدة الرئيس بوش" على حد تعبيره! وبالتالي لا بد في المرحلة التالية، من تدمير أنظمة تساند الارهاب. ولئن كان هناك نقاش داخل الادارة الأميركية حول التوقيت والطريقة... فليس هناك أي نقاش حول المبدأ. وإذ يختار بيرل البدء بالنظام العراقي، تطبيقاً لعقيدة بوش فلجملة أسباب يوردها هكذا: "لأنه يكره الولاياتالمتحدة، ويكره عائلة بوش وحاول اغتيال الرئيس بوش الأب في الكويت عام 1999، ولديه أسلحة دمار شامل ويسعى بكل نشاط للحصول على أسلحة نووية، وأخيراً لديه صلات مع منظمات ارهابية". وتشمل لائحة المستهدفين دولاً عدة في الشرق الأوسط. ويذهب الى حد القول: "علينا التعاطي مع "حماس" و"حزب الله" تماماً كما تعاطينا مع "القاعدة". فهي منظمات تشكل مجتمعة، "فيديرالية" ارهابية". منظّر آخر في ادارة بوش هو جون بولتون مساعد وزير الخارجية لشؤون مراقبة التسلح والأمن الدولي، وضع ملحقاً تحدث فيه عن "الرابط القوي بين الارهاب وأسلحة الدمار الشامل" وأضاف دولاً جديدة الى لائحة الحصول على هذه الأسلحة من بينها سورية وليبيا وكوبا. لقد تجاوز الأميركيون أسامة بن لادن الى عدو جديد هو "أسلحة الدمار الشامل" التي يمكن ان تقع في أيدي الدول المارقة أو "محور الشر"، كما أسماها الرئيس بوش. بين هذه الأصوات الراديكالية التي تشكّل الأوركسترا لسيمفونية القوة الامبراطورية الأميركية، أين هو موقع وزير الخارجية كولن باول. وهل هو على الهامش أم لديه رأي وتأثير في بلورة عقيدة بوش، وبالتالي في القرارات المتخذة؟ على عكس ما يظن بعضهم، فإن عقيدة باول كان لها تأثيرها على عقيدة بوش من حيث المقاربة الاستراتيجية للأحداث اذا لم تكن من حيث المبادئ العامة واختيار الأولويات، فلقد قامت نظرة باول على ثلاثة أسس: أولها: ان لا تتدخل أميركا في أية بقعة من العالم الا اذا كانت المصالح الحيوية الأميركية مهددة. وهنا يفتح باب الاجتهاد امام الراديكاليين. ثانيها: عندما تقرر الولاياتالمتحدة التدخل، عليها ان تستعمل كل القوى المتاحة لديها وفي شكل حاسم لتحقيق نصر سريع من دون ان يكون جنودها معرضين للخطر. ثالثها: ان تكون للولايات المتحدة رؤية واضحة لما بعد التدخل. أي الخروج من الأزمة وتحقيق الأهداف التي خيضت الحرب من أجلها. وإذا كانت "عقيدة بوش" الابن هي خلاصة كل هذه المبادئ والتوجهات التي يمكن اختزالها بتعبير "القطبية الأحادية واستراتيجية التفوق"، فهي تعني بالتأكيد تجاوزاً للمؤسسات الدولية، وفي مقدمها مجلس الأمن والأممالمتحدة، وهي تسمح لنفسها ليس فقط بتجاوز القانون الدولي، بل بتجديد هذا القانون. ومثل هذا الأمر يؤثر حكماً على علاقات أميركا بأوروبا وبالعالم. ولعل الموقف من التدخل في العراق هو النموذج حول هذه الاشكالية. وفي هذه النقطة يدور نقاش داخل أميركا بالذات حول علاقة جدلية بين ضرب العراق والموقف الأميركي من أمن اسرائيل وبالتالي من الصراع العربي - الاسرائيلي. وفي رأي سياسيين محترمين جيمي كارتر وجيمس بيكر وحتى بريجنسكي انه من الأفضل تأمين سياسة متوازنة في النزاع العربي - الاسرائيلي قبل توجيه ضربة الى العراق، وإلا ستكون هذه الضربة وبالاً على عدد من الأنظمة العربية المتعاونة مع أميركا وقد تخلق حالة بلبلة في المنطقة كلها. ومع ذلك، يصر الرئيس بوش، من موقع ايديولوجي على ان مهمة بلاده، بل رسالتها شبه "المقدسة" ان تنشر الديموقراطية في العالم حيثما يخدم ذلك مصالحها، وبالتالي فإن استعمال آلتها الحربية في خدمة هذه المهمة أمر طبيعي ومنطقي. وبعد أحداث 11 أيلول أصبح "النضال ضد الارهاب" هو العنوان الكبير لسياسة أميركا الخارجية، وهذا يعطي حظوظاً لأميركا كي تسعى لتوسيع وتعميم الديموقراطية الليبرالية في هذا الجزء من العالم الذي يفتقر الى الحس الديموقراطي. يتبين من كل ما تقدم ان "عقيدة بوش" هي مزيج من خلفيات ايديولوجية دينية وعقائدية قومية أميركية يمينية ومصالح اقتصادية صناعية ونفطية، وهو يأتي مع جهازه الحاكم ليكون النقيض لكلينتون الذي رفض ان يكون أسيراً لمنظّري البنتاغون وبالتالي للصناعات الحربية. وليس من باب الصدف ان تكون الزوبعة التي أطلقت في وجه كلينتون وعلاقته بمونيكا لوينسكي جاءت من موظفة مدنية في وزارة الدفاع اسمها ليندا تريب. ومهما يكن، فنحن مع ادارة بوش امام مدرسة يسميها بعضهم "المدرسة النيو - امبريالية الأميركية". لقد قلب بوش الأولويات فأعاد البنتاغون الى الصدارة وشكّل ما أسماه بعشهم "حكومة للحرب الباردة من دون حرب باردة". ووجد مشروع بوش المبني على عقيدته بإعادة العسكرة صدى له بعد أحداث الحادي 11 أيلول، لكن مصيره سيبقى معلقاً حول الأداء الاقتصادي الذي سيصيب الأميركيين عاجلاً أم آجلاً. إن الصدمة النفسية التي أصابت الشعب الأميركي بعد أحداث أيلول قد تساعد بوش على تحقيق أهدافه! وعندها سيكون الكابوس في خدمة الحلم. الحلم... بالامبراطورية الأميركية