سؤال أساسي يطرحه المحلّلون السياسيون في بقاع العالم كافة، وهو هل انتخاب أوباما رئيساً للولايات المتحدة الأميركية فرصة تاريخية لتغيير توجهات السياسة الأميركية التي أدت إلى مزيد من الكراهية للقطب الأوحد، الذي مارس هيمنته طليقاً من كل قيد، منذ أحداث 11 أيلول سبتمبر على وجه الخصوص؟ هناك إجابتان مختلفتان: الأولى تنكر إمكانية تغيير السياسة الأميركية رغم تغيّر شخصية الرئيس، وتصريحات أوباما في فترة ترشيحه وفي خطابه الرئاسي الأول في حفلة التنصيب، والتي عبرت عن اعتراضه على كثير من سياسات الرئيس الراحل جورج بوش. وتقوم هذه الإجابة على أساس التحليل الدقيق لمواقع القوة والسلطة في الولاياتالمتحدة الأميركية، والتي استطاع زعماؤها فرض توجهاتهم الأيديولوجية واتجاهاتهم السياسية على كل الرؤساء الأميركيين، رغم تغير أنماط شخصياتهم. أما الإجابة الثانية فتذهب إلى أن الرئيس وخصوصاً إذا كان قوي الشخصية وله توجهات سياسية محددة وبصيرة تاريخية، قادر على تغيير توجهات نسق القوة والنفوذ ولو بشكل نسبي. وهذه التغييرات النسبية يمكن أن تؤدي عبر الزمن إلى تراكمات تاريخية، تفضي في النهاية إلى تغير بنية ووظيفة نسق القوة والنفوذ في المجتمع، وبالتالي فإن تغيير اتجاهات السياسة الخارجية الأميركية وارد في ظل إدارة جديدة يرأسها أوباما. ويرى بعض المفكرين الأميركيين البارزين مثل ريتشارد هاس في كتابه المهم"الفرصة: لحظة أميركا لتغيير مجرى التاريخ"الصادر عام 2005 راجع ترجمته العربية بقلم إسحق كامل إلياس من نشر"دار العبيكان"عام 2007، أن أميركا لديها فرصة لتغيير التاريخ. وبعد إشارته المهمة إلى الفشل الأميركي في كل من العراق وأفغانستان والذي أثار احتجاجات واسعة داخل أميركا وخارجها، على أساس الخسائر الجسيمة التي وقعت في الأرواح الأميركية، بالإضافة إلى العبء المالي المهول، أو بسبب مخالفة هذه الحروب للشرعية الدولية، فإنه يصوغ فكرة مهمة. وهذه الفكرة تتمثل في رأيه في أن الزمن يمثل فرصة نادرة متاحة للولايات المتحدة الأميركية للعمل مع حكومات القوى العظمى الأخرى على تكييف مجرى القرن الواحد والعشرين، والوصول إلى عالم يتميز بالسلام والازدهار لمعظم بلدان العالم وشعوبه. غير أن هذه الفرصة هي مع ذلك مجرد إمكانية، قد تستثمر في اتجاه إيجابي يخلص الولاياتالمتحدة الأميركية من سلبيات محاولة هيمنتها على العالم، أو تستمر الولاياتالمتحدة في الاتجاهات نفسها، التي سبق للمحافظين الجدد أن صاغوا سياساتهم العدوانية - في عصر الرئيس الراحل جورج بوش - في ضوئها. وفي حال العجز عن التجديد السياسي فقد تتحول هذه الحقبة المقبلة - كما يؤكد هاس - إلى"حقبة من التعفّن التدريجي فتكتسب صفة العصور المظلمة الحديثة، نتيجة فقدان الولاياتالمتحدة والقوى الأخرى القدرة على السيطرة، وبالتالي تتّسم هذه الحقبة بانتشار أسلحة الدمار الشامل والدول العاجزة وتزايد الإرهاب وعدم الاستقرار". وبعيداً عن الأوهام التي عبّر عنها بعض المتفائلين العرب والتي تتمثل في كون أوباما أسود وله أصول إسلامية مما قد ينعكس إيجابياً على سياساته، فإن تصريحاته الأولى هو وهيلاري كلينتون وزيرة خارجيته، تشي بأن الموقف الأميركي المنحاز انحيازاً مطلقاً لإسرائيل لم يتغير. لأن أوباما صرّح - مثله في ذلك مثل هيلاري كلينتون - أن الحفاظ على أمن إسرائيل له الأولوية بالنسبة الى الولاياتالمتحدة الأميركية، والتي هي حليف قوي للدولة العبرية. ولم تصدر أي تصريحات من قبل هذه الإدارة الأميركية الجديدة لإدانة حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في غزة. كما أن هناك بعثة إسرائيلية الآن تزور الولاياتالمتحدة الأميركية لعقد صفقة سلاح جديدة، تعوّض إسرائيل عما فقدته في حرب إبادة الشعب الفلسطيني. ورغم أن أوباما صرح بأنه يطمح إلى إقامة علاقات عادية تقوم على الاحترام ومراعاة المصالح المشتركة مع العالم الإسلامي، إلا أنه يبقى أن ننتظر خطابه الجامع الموجه للشعوب الإسلامية، والذي قرر أن يلقيه في إحدى العواصم الإسلامية. وبعيداً عن التحليلات السياسية السابقة يمكن القول إن السؤال الخاص بنهاية عصر الهيمنة الأميركية وبدء عصر الحوار الذي وعد به أوباما، يتوقف على رسم خريطة معرفية لشبكة المصالح الأميركية المعقدة. وأول مصلحة قومية للولايات المتحدة الأميركية - وخصوصاً بعد نهاية النظام الثنائي القطبية وزوال الحرب الباردة، وبروز النظام الأحادي القطبية - هي أن تظهر للعالم باعتبارها القطب الأعظم والأوحد، والذي لا يمكن تحديه عسكرياً أو سياسياً. وتشهد على ذلك قراءة الوثائق الاستراتيجية الأميركية التي صدرت في عهد الرئيس السابق جورج بوش، وخصوصاً وثيقة الأمن القومي والتي ذكرت بوضوح وصراحة نهاية عصر الاحتواء والردع، الذي ساد طوال حقبة الحرب الباردة، وأعلنت بداية عصر جديد هو عصر الضربات الاستباقية التي من حق الولاياتالمتحدة الأميركية المطلق توجيهها لأي دولة"تشتمّ"منها نيّة العدوان على أمنها القومي! أي أن الضربات الاستباقية الأميركية ستقوم على تقدير القيادة السياسية الأميركية لنيّة الدول! وإذا تأملنا - من ناحية أخرى - العقيدة الاستراتيجية الأميركية التي نشرتها مؤسسة"راند"في بحث كتبه عشرة من المفكرين الاستراتيجيين، فإنها تشير إلى أن أهم واجبات وزارة الدفاع الأميركية هي أن تضمن أن الهيمنة الأميركية على العالم ستبقى إلى الأبد، ولذلك ينبغي أن تكون لديها خطط جاهزة لإجهاض أي دولة تحاول منافسة القوة الأعظم على مركز الانفراد بإدارة شؤون العالم، بما في ذلك الخطط العسكرية، بمعنى شن الحرب ضد هذه الدول الطامعة! والإشارة الضمنية هنا لا تخفى إزاء الصين، التي صعدت في السنوات الأخيرة إلى مستوى الدول العظمى. وليست ممارسة الهيمنة المطلقة هي المصلحة القومية العليا التي استقرت في إدراك النخبة السياسية الحاكمة الأميركية، ولكن بالإضافة إلى ذلك هناك مصلحة كبرى تتمثل في ضمان استمرار تدفق النفط إلى أميركا. ونحن نعرف جميعاً أن الحضارة الصناعية المتقدمة للغاية في المجتمع الأميركي، تتطلب كميات لا نهائية من النفط، الذي يستورد أساساً من بلاد الشرق الأوسط. ولذلك أجمع كثير من المحللين السياسيين على أن الهدف الأساسي من الغزو العسكري للعراق لم يكن - كما ذهبت المزاعم الأميركية - لتجريده من أسلحة الدمار الشامل، ولكن لحراسة أنابيب النفط العراقية، ضماناً لتدفقها المستمر إلى آخر قطرة! وبالإضافة إلى ذلك خلق مجال حيوي للولايات المتحدة الأميركية، تستطيع من خلاله محاصرة الاتحاد السوفياتي السابق من جانب، وإظهار قوتها العسكرية الفائقة من جانب آخر، بالنسبة الى روسياوالصين معاً. وقد جددت الولاياتالمتحدة الأميركية نظرية المجال الحيوي وأرادت أن تنشئ لنفسها مجالا حيوياً على حدود روسيا نفسها، من خلال نشر شبكات صواريخها في بولندا، وعقد معاهدات أمنية واقتصادية مع الدول التي كانت أجزاء من الاتحاد السوفياتي قبل ذلك واستقلت مثل جورجيا. وبالإضافة إلى كل ذلك فإن الدوائر السياسية الحاكمة في الولاياتالمتحدة الأميركية تزعم أن نشر الديموقراطية في العالم عموماً، وفي الشرق الأوسط خصوصاً، يمثل مصلحة قومية عليا. وبناء على ذلك صاغت عدداً من الأفكار المثيرة للجدل مثل"الفوضى الخلاقة"، وصاغت مشاريع استراتيجية مثل"الشرق الأوسط الكبير"لم تلق نجاحاً يذكر. غير أنه تبيّن من التطبيق أن الولاياتالمتحدة الأميركية - بانتهازية صريحة - حين وجدت أن فرض الديموقراطية بالقوة على بعض الدول العربية قد يعرض مصالحها للخطر، سرعان ما تنازلت عن سياسة فرض الديموقراطية بالقوة. ونأتي بعد ذلك الى المصلحة القومية الأميركية في الدفاع المطلق عن إسرائيل باعتبارها حليفة لأميركا. والواقع أنه لا يمكن فهم المواقف السياسية الأميركية العدائية إزاء إيران إلا في ضوء التزامها بأمن إسرائيل، والتي ترى أن المسار النووي الإيراني يعد خطراً داهماً عليها. والواقع أن شعار"من ليس معنا فهو ضدنا"والذي رفعته الولاياتالمتحدة الأميركية عقب أحداث 11 أيلول كان إعلاناً واضحاً بقيام الإمبراطورية الأميركية وفاتحة عهد تقنين الهيمنة، بمعنى أن الولاياتالمتحدة الأميركية لم تعد تكتفي باستعراض قوتها الاقتصادية أو العسكرية أو الثقافية، ولكنها انتقلت إلى مجال إصدار الأوامر للدول المختلفة، والتي عليها أن تنفذ فوراً، لا فرق في ذلك بين حلفائها الأقربين وبين أي دولة اخرى في العالم. كان ذلك قبل الأزمة الاقتصادية والمالية الكبرى التي ضربت الرأسمالية الأميركية في الصميم. فهل ستؤدي هذه الكارثة إلى تغيير حقيقي في توجهات السياسة الأميركية؟ هكذا يمكن القول إن التساؤل عن نهاية حقبة الهيمنة، وبداية عصر الحوار في عهد الرئيس أوباما قد يكون في الواقع سابقاً لأوانه! * كاتب مصري نشر في العدد: 16739 ت.م: 01-02-2009 ص: 15 ط: الرياض