عائلة حمدالله واحدة من ألوف العائلات الفلسطينية التي تعيش هذه الايام موسم قطاف الزيتون. عندما كانت الاحوال هنا هادئة، ولا نقول طبيعية لأنها لم تكن في يوم من الايام طبيعية، كانوا يسمونه "عرس الزيتون". لكن كلمة "العرس" لم تعد ذات استعمال حقيقي منذ ان داسها الاحتلال الاسرائيلي. فأعراس الشبان والصبايا لم تعد أعراساً احتفالية، فكيف يكون "عرس الزيتون" عرساً! ومع ذلك، خرجت عائلة حمدالله من بيتها في قرية عقربة، قضاء نابلس، الى كروم الزيتون التي رعتها ببؤبؤ العين متحدية أوامر منع التجول ومصممة على قطف ما تبقى من ثمار هذه النبتة المباركة لعلها تعينها على قوت اطفالها. فهي اليوم مصدر الرزق الوحيد. اذ لا مجال للخروج الى العمل. وليس لها اي دخل مالي ثابت منذ سنتين. وأمضت الاشهر الاخيرة سجينة البيت، مثل مئات الوف العائلات الفلسطينية الخاضعة لنظام حظر التجول. فأي خروج من البيت يكلف صاحبه الضرب او الاعتقال بل ربما الموت برصاص جندي "متيقظ". لكنهم هذه المرة قرروا بشكل جماعي الخروج من البيوت والتوجه الى الكروم. لا أحد يتحدث عن بطولة في هذا التصرف، لأن الخوف ظاهر على محيا كل منهم. والخوف ليس فقط من الجنود ودباباتهم، بل بالاساس من المستوطنين اليهود، فقد شاء قدرهم ان تقام الى جانبهم مستوطنة تدعى "ايتمار"، تضم يهوداً من خريجي حقول الابقار الاميركية كاوبوي عرفوا ليس فقط بالكراهية الشديدة للعرب والحقد الاعمى عليهم بل ايضاً بشراستهم العدوانية. وتفاقمت هذه الشراسة بشكل خاص في الاشهر الاخيرة من خلال سلسة متواصلة من الاعتداءات الدموية على الفلسطينيين. فهم الذين يسمونهم "النواة الصلبة" أو "حبة الجوز التي يصعب كسرها"، وهو اللقب الذي يحملونه بمتعة وزهو، هم وأمثالهم من مستوطني الخليل ومجموعات اخرى من المتطرفين. واطلق عليهم هذا الاسم لأنهم كانوا يقتحمون القرى الفلسطينية واحياء الخليل، ويحطمون زجاج السيارات وشبابيك البيوت ويشتمون العرب باقذع الشتائم العنصرية ويعتدون على المواطنين، ويحرقون الحوانيت. وبسبب هذه الممارسات أفرغت قرى فلسطينية من سكانها، وأغلق اكثر من نصف الحوانيت في حي القصبة في الخليل. ومن مستنقع هذه المجموعة نبتت عصابات الارهاب اليهودي التي نفذت او خططت لعشرات العمليات الارهابية ضد الفلسطينيين. واختار القدر عائلة حمدالله، لتدفع ثمن هذا الارهاب. فقد خرجت من بيتها في عقربة، الواقعة على سفح تلة تحتل قمتها مستعمرة ايتمار، وتوجهت الى كروم الزيتون. وشارك في هذه الرحلة المأسوية كل من العم وديع وابن شقيقه هاني حمدلله والنساء، وكان بينهم طفل صغير لم يتجاوز العامين. بعد فترة قصيرة وصلت مجموعة من المستوطنين وكان افراد العائلة قد افترشوا الارض بحاجياتهم وباشروا قطاف الزيتون. فانهال المستوطنون عليهم بالضرب واصابوا احدهم، عندها لاحظ احد سكان عقربة ما حصل فاستدعى الشرطة، وكما قال لنا وديع فإن الشرطة لم تفعل أي شيء مع المستوطنين، مع انها علمت ان شخصاً اصيب وأنهم حاولوا الاذى بأكثر منه، وكل ما فعلته انها أمرت المستوطنين بمغادرة المكان ثم عادت ادراجها. بعد فترة قصيرة من مغادرة الشرطة كرم الزيتون توجه المستوطنون نحو تلة قريبة من عائلة حمدلله، واطلق أحدهم رصاصة واحدة استهدفت هاني، فاخترقت صدره وأردته قتيلا. مع مقتل هاني حمدلله وصل عدد الفلسطينيين الذين قتلوا في الفترة الاخيرة على ايدي المستوطنين الى 11 فلسطينياً، معظمهم قتل وهو في طريقه الى ارضه للعمل او في طريق عودته الى البيت. لكن خلال الشهر الاخير ارتفعت حالات الاعتداءات على الفلسطينيين بسبب توجه المئات منهم الى كروم الزيتون، الامر الذي يستغله المستوطنون الذين لا يكتفون بالاعتداء والتنكيل ويقتلعون الاشجار ويحولون الارض الى خراب لا تصلح ليس فقط لقطاف الزيتون وانما لزرع الارض للموسم المقبل. وديع، عم محمد، يقول ان الفلسطينيين باتوا اليوم يترددون في الوصول الى اراضيهم للعمل، خوفا من تعرضهم لاعتداءات المستوطنين ويضيف: "نلاحظ اليوم بعدما قامت حركات سلام اسرائيلية بطرح الموضوع والسعي لفك مستوطنات عدة اقيمت على اراضينا استشرس المستوطنون اكثر من دون اي رادع. فالجيش الاسرائيلي يصل الى المستوطنات لحراسة المستوطنين ويعطيهم السلاح بحجة الدفاع عن انفسهم من الفلسطينيين وفي المقابل نتعرض نحن، ليس لاعتداءات المستوطنين فحسب، انما للتفتيش والمضايقات من قبل الجيش، واذا ما ضبط مع احدنا أي شيء للدفاع عن انفسنا، عصا او سكين، فهو بات مخرباً، فيعتقل ويحاكم، وهكذا بتنا نعيش وضعا لا يمكننا تحمله". عاطف بني جابر 40 عاماً أب لسبعة اطفال كان ضحية اعتداءات المستوطنين قبل مقتل هاني، قال لنا: "في الصباح خرجت مع عائلتي وكنا خمسة رجال وأربع نساء وطفل، ووصلنا الى كرم الزيتون وبشكل مفاجئ وصلت الينا مجموعة من المستوطنين من اتيمار وأحاطت بنا، ثم شهر أفرادها سلاحهم، فشعرنا اننا حتما سنموت، لأن الكراهية والحقد ورغبتهم في الاعتداء علينا بانت على وجوههم. حاولت ان أتحدث اليهم وأشرح لهم ان ما يفعلونه غير مقبول، لكنني لم أتمكن من النطق بكلمة واحدة، فإذ بهم يصرخون بوجهي ويأمرونني: "اجلس واسكت". لم أعد أدري ما يجري فقد انهال علي احدهم بالضرب المبرح بسلاحه وآخرون انهالوا علي وضربوني في كل انحاء جسمي حتى أغمي علي. في ظل هذه التطورات الخطيرة، باتت كروم زيتون الفلسطينيين فارغة ولم يعد احد مستعدا للمخاطرة بحياته وحياة عائلته، "انهم يأتون ليذبحونا" قال عاطف، "ولا احد يتحرك لفعل اي شيء. هناك تخطيط خطير يستهدف مستقبلنا هنا". لكن مشكلة المستوطنين لا تقتصر على ملاحقة الفلسطينيين في كروم الزيتون وأراضيهم، فقد تجاوزت هذه الحدود ووصلت الى حد تشكيل عصابات من المستوطنين تهدف الى قتل اكبر عدد من الفلسطينيين. ويتركز عمل هذه العصابات أساساً في الخليل. وكانت عملية قتل عائلة الطميزي الخليلية أولى العمليات التي قام بها المستوطنون وقتل فيها أربعة وأصيب ثمانية من العائلة. ومن هناك بدأت نشاطاتهم تتوسع، إذ أقيمت تنظيمات احدها طلق عليه اسم "لجنة الأمن على الطرق" واخرى باسم "كتائب جلعاد شلهيفت"، وهناك تنظيم آخر يعمل بالسر بعدما اعتبرت السلطات الاسرائيلية أن تنظيم "كاخ" غير شرعي وهؤلاء هم من اليمين المتطرف ويرون ان رئيس الحكومة، ارييل شارون، لم يفعل اي شيء ولم يتعامل مع الفلسطينيين بيد من حديد للحفاظ على حياة اليهود "كما يقولون ويؤكدون" ان الحل هو في أخذ زمام الأمور بأيدينا. وظهرت هذه التنظيمات اليمينية المتطرفة منذ الثمانينات فخططت لقتل الفلسطينيين وتفجير المساجد بما في ذلك الحرم القدسي الشريف. وكان من أبرز الناشطين فيها، بوعز هنمان، الذي حكم عليه بالسجن ثلاث سنوات، وهو يسكن اليوم في مستوطنة بالقرب من رام الله ويقول ان كل ما يحدث كان متوقعاً: "العنوان كان مكتوباً على الحائط، هذه هي البداية فقط. شارون قال انه سيأتي لنا بالأمن لكنه في الواقع لم يفعل اي شيء، اذن علينا نحن العمل لتوفير الامن". ويبرر اليمين الاسرائيلي هذه التصرفات بأنها رد على عمليات قتل المستوطنين التي تنفذها تنظيمات فلسطينية. أحد نشطاء اليمين الذي يشرع عمليات القتل التي ينفذها المستوطنون، يقول: "يجب ان تتحول عملية قتل الفلسطينيين الى ظاهرة واذا ارادت حكومة شارون عكس ذلك فعليها ان تعمل لضمان أمن كل المستوطنين" الشرطة تتفرج "بتسيلم"، مركز المعلومات عن حقوق الفلسطيني، يعمل خلال الفترة الاخيرة بشكل مكثف في محاولة لوضع حد لممارسات المستوطنين. وكما يقول السيد نجيب ابو رقية، احد العاملين في إدارة المركز: "المشكلة الاساسية ان الجيش الاسرائيلي لا يفعل اي شيء لعلاج هذه الظاهرة، فهو يدعي ان الاعتداءات التي تتم لا تندرج ضمن المهام العسكرية، ويقول انه يتواجد في المستوطنات ضمن مهام عسكرية محض، والشرطة هي التي تتحمل المسؤولية. اما الشرطة الاسرائيلية فهي تغض الطرف عن تصرفات المستوطنين. لقد سبق وقدمت شكاوى لكن شيئا لم يسفر عنها والحقيقة التي علمناها ان الشرطة تخاف من مواجهة المستوطنين وبعض افرادها يقولون صراحة انهم باتوا يخافون على أرواحهم. اذ ان المستوطنين بمعظمهم خدموا في الجيش ويحملون السلاح ويجيدون القتال والقتل. فمن يقبل ان يعرض حياته للخطر دفاعاً عن الفلسطينيين، وهكذا يقع الفلسطيني ضحية أكثر من مرة". ويضيف ابو رقية: "الشرطة التي وصلت اكثر من مرة عند وقوع الحوادث، لا تفعل اي شيء، وباستثناء توجيه طلب للمستوطنين بمغادرة المكان لا تقدم على اي اجراء عقابي او رادع، فلا اعتقال ولا عقاب ولا فتح ملف وكل هذا يشجع المستوطنين على التمادي في اعتداءاتهم". والأدهى كما يقول ابو رقية، ان "الشرطة تتحجج بأن شيء يثبت ان المستوطنين هم الذين قتلوا، بل انها تلمح الى أن القتل نفذ بسلاح فلسطيني وهكذا تنهي القضية".