تؤكد المؤشرات عودة أسعار المواد الأولية إلى واجهة الاقتصاد العالمي. فبعد حوالي عشر سنوات كان الاهتمام الاول للمؤسسات المالية والاقتصادية موجهاً نحو "قياس النجاح النقدي" والهيكلي لاقتصاديات الدول، عبر تسليط الأضواء على مستوى العجز والمديونية أو مؤشر النمو، أو التشديد على مستوى التوفير وقيمة حساب العملات الصعبة الممكن احتسابها في موازنات الدول، عادت مراكز القرار الاقتصادي الى الالتفات إلى اتجاهات أسعار المواد الأولية. ولقد كان هذا العامل خلال "حقبة الأوراق النقدية والبورصة" يعتبر فرعاً من فروع العوامل التي تشكل مؤشرات البورصة، لا أكثر ولا أقل. حتى أن التكتلات الكبرى، مرّت في مرحلة كانت تضع في موازناتها أسعاراً للمواد الأولية المستهلكة في مصانعها، تناسب توجهات ومرامي الأهداف المالية التي تسعى إلى تحقيقها من خلال انتاجها. معتبرة أنه يمكن عبر الضغوط في بورصات العالم الوصول إلى الأسعار المستهدفة في خططها الانتاجية! وهكذا كانت أسعار بعض المواد الأولية ترتفع وتهبط على خلاف قانون العرض والطلب ما ترك العديد من المضاربين في بورصات المواد الأولية مندهشين أمام تقلبات أسعار تتجه خلافاً لطبيعة ما يمكن أن يتوقعه أي مستهلك اقتصادي راشد. وقد توجت هذه الحقبة بحقبة هيمنة البورصة على الطبيعة الاقتصادية. وكانت خلالها متطلبات صناديق الاستثمار والمستثمرين في البورصة تطالب مديري التكتلات الصناعية ومجالس إدارتها والشركات الكبرى المتداولة أوراقها في البورصات العالمية بنتائج أولاً وأخيراً، أي بأرباح. ومن المعروف أن خبر تراجع أسعار المواد الأولية يؤثر مباشرة وبصورة إيجابية وبشكل فوري على أسعار الأسهم المالية للشركات التي تستعمل هذه المواد. وعلى رغم أن ما كانت تلجأ إليه هذه الشركات لا يعتبر تجاوزاً لنص القوانين الجارية لكنه، كما يؤكده العديد من الخبراء، يعتبر انتهاكاً لروحية القوانين الموضوعة. ويكفي الالتفات إلى ممارسات التكتلات الكبرى للتأكد من أن هذه السياسة وإن كانت لا تخالف القوانين فهي تخالف العديد من المبادئ الأخلاقية، اضافة لمخالفتها مبادئ لعبة السوق وسياسة العرض والطلب. ومن المعروف أن معظم الشركات الصناعية "يغطي" مخاطر خسائره من جراء تموينه بالمواد الأولية التي تدخل في صناعتها عبر "الشراء المؤجل" لتلك المواد في بورصات العالم خصوصاً بورصة لندن للمواد النفطية، وشيكاغو للمواد التموينية وبورصة نيويورك للعديد من المواد الأخرى، أو للمضاربة على العقود الموقعة في بورصات أخرى. ويقضي مبدأ الشراء المؤجل بشراء مواد على أن يتم تسليمها في تواريخ لاحقة، وعادة ما تتم عملية الشراء عندما تكون الأسعار المعلنة في البورصات ملائمة للمشتري. ومن الطبيعي أن تكون الأسعار مرتبطة مباشرة بعمليات العرض والطلب وأن ترتفع في حال ارتفاع الطلب وتنخفض في الحالة المعاكسة أي تراجع الطلب على مادة أولية معينة. ولكن بعدما مرّت عمليات الاندماج والاستقطابات على عالم الصناعة وتوسعت أفق العولمة وتشكلت تكتلات صناعية كبرى، تراجعت حمى المنافسة في العقدين الماضيين على المواد الأولية بين صناعيين باتوا شبه موحدين تحت رايات تكتلات كبرى تسيطر على الانتاج وتحتكره. وباتت هذه التكتلات "تفرض" بشكل غير مباشر أسعاراً على المواد الأولية في غياب التنافسية التي تفرضها لعبة العرض والطلب. وقد شكلت دول كثيرة دوائر لمحاربة الاحتكار ومنعه وتنشيط التنافس، ولكن عمل هذه الدوائر انصب على القسم الأخير من عملية انتاج السلع أي انطلاقاً من المصنع حتى المستهلك وكان موجهاً لحماية هذه الأخير وإفساح مجال المنافسة في عرض المنتجات وترك حرية الاختيار للمستهلك. ولكن لم يشمل عمل منع الاحتكار القسم الأول من عملية الانتاج والتصنيع أي بدءاً من شراء المواد الأولية وحتى مرحلة التصنيع. وبقي موردو المواد الأولية في مواجهة صعبة وغير متكافئة مع مشترين قلّ عددهم وزادت إمكاناتهم، وباتت المواد الأولية أسيرة قرارات مجالس إدارة التكتلات الكبرى. ومن المعروف أن هذا التوجه زاد كثيراً من الصعوبات التي تواجهها الدول الفقيرة ودول العالم الثالث، التي لا تملك في معظم الأحيان إلا مواد أولية للتصدير. ودخلت بلدان كثيرة في دوامة تراجع في النمو وشهدت انزلاقاً خطيراً نحو حافات الفقر الذي كانت تندد به المؤسسات المالية العالمية وتطالب بعلاجه من دون الإشارة إلى الأسباب الهيكلية الكامنة وراء هذا التراجع في إمكانات هذه الدول، ذلك أن فلسفة الاقتصاد الليبرالية السائدة كانت تمنع التطرق إلى كل ما يمس من قريب أو بعيد مبدأ حرية الأسعار التي تقررها الأسواق العالمية. وقد انعكست هذه السياسة ارتفاعاً ملحوظاً في اسعار أسهم العديد من الشركات الصناعية، وكانت احد عوامل ارتفاع مؤشرات البورصات العالمية في العقد المنصرم. غير أنه صادف تدفق الأرباح المالية النقدية على المستثمرين وصناديق الاستثمار، مع تألق "الاقتصاد الإلكتروني"، وتوجهت نسبة كبيرة من الاستثمارات نحو الاقتصاد الجديد ونجمة بورصاته "ناسداك"، وانكفأت الاستثمارات عن البورصة التقليدية لتصب أغلبها في الشركات الجديدة التي رفعت شعار الأنترنيت والتكنولوجيا الحديثة. وساهم هذا الانكفاء بإعطاء بالون أوكسيجين لموردي المواد الأولية، بعدما تراجعت الضغوط على عقود الشراء المؤجل لتوجه الكتل النقدية نحو استثمارات البورصة الجديدة التي ارتفعت بشكل جنوني. وعادت أسعار المواد الأولية للارتفاع المتناسب مع حقيقة العرض والطلب بغياب المضاربة المالية على العقود، ذلك أنه بخلاف الاقتصاد الجديد "الافتراضي" فإن المواد الأولية واستعمالاتها التطبيقية "الحقيقية" تفرض الحصول عليها ودفع ثمنها للدخول في حلقة التصنيع ومن ثم لخلق مربحية وهي عمليات متواصلة لا تتوقف... حتى ولو توقفت المضاربات. وبعدما هدأت عاصفة المضاربات بالاقتصاد الافتراضي الذي أثبت عدم قدرته على مواجهة تحديات تغير الاوضاع الاقتصادية وانحسار الكتل النقدية، يتساءل الخبراء هل تعود المضاربات على اسعار المواد الأولية؟ لا شك في ان هناك كثيرين يحاولون استباق رد فعل أسواق المواد الأولية في حال عودة ذئاب البورصات إلى مرابط المواد الأولية لما فيها من أرباح ثابتة ورنانة. لكن على رغم فهم جميع الاقتصاديين لعقم فكرة فك الارتباط بين واقع اقتصاد الدول الفقيرة التي تطالب المؤسسات المالية بمساعدتها، وبين أسعار المواد الأولية التي تصدرها هذه الدول، فإن كل خبر يشير إلى تراجع أسعار أي مادة أولية تستقبله الأسواق والبورصات بالترحاب والتهليل، "ويُعرض" على المستهلك بأنه خبر سعيد يمكنه أن يزيد من قوته الشرائية. غير أن التجربة أثبتت، ولا تزال، أن تراجع أسعار المواد الأولية لا ينعكس البتة على أسعار السلع ولا يستفيد منها المستهلك بأي شكل من الأشكال. ويشكل النفط والمواد النفطية أفضل مثال على ذلك، فالتغييرات التي شهدتها أسعار النفط في السنوات العشر الماضية لم تؤثر لا على سعر ليتر الوقود للمستهلك ولا على أسعار السلع على رغم أن كافة الصناعات العالمية تستعمل النفط ومواده في انتاجاتها. وعلى رغم التصريح الشهير بأن "تراجع عشرة دولارات لسعر البرميل يوفر 100 مليار دولار للمستهلك الأميركي" الذي يصفه أحد الخبراء بأنه أكبر خدعة يتعرض لها المستهلك الأميركي "المسكين الذي لا يرى دولاراً واحداً من هذه المليارات" بل تذهب كلها إلى صناديق شركات التوزيع الكبرى إضافة إلى أن الولاياتالمتحدة هي أصلاً من أكبر منتجي النفط في العالم. أما بالنسبة الى اسعار المواد الأولية المعدنية فإن التوقعات متشائمة للسنة المقبلة. فارتفاع ثمن القصدير مرتبط بارتفاع مستوى انتاج السيارات والطائرات، وهو مستبعد في ظل الأزمة الحالية. أما بالنسبة الى الألومينيوم فإن الانتاج المكدس في الدول الصناعية يكفي للشهور الستة المقبلة ما يمنع أسعارها من الارتفاع في الأجل القريب. وكذلك هو الأمر بالنسبة الى المواد الزراعية الصناعية مثل القطن الذي كان يتوقع ان ترتفع اسعاره تدريجاً في السنوات الخمس المقبلة بسبب ارتفاع نسبة النمو في العالم وانفتاح الأسواق. غير أن وصول مصدرين جدد إلى تلك السوق تركيا والبرازيل والصين غيّر من هذه التوقعات. ولقد ساهم انهيار الاقتصاد التركي في رمي كميات هائلة من عقود شراء مؤجلة للقطن التركي في بورصات العالم سعياً للحصول على سيولة نقدية، بثبات أسعار القطن وتراجعها في بعض الأحيان. وفي المقابل يمكن لأسعار الكاوتشوك أن ترتفع بعد اتفاق أندونيسيا وماليزيا وتايلاندا 80 في المئة من الانتاج العالمي على خفض انتاجها من هذه المادة . كما من المتوقع تراجع أسعار البن الذي يشهد تراجعاً "تاريخياً" منذ ثلاث سنوات 21 في المئة عام 1999 و25 في المئة عام 2000 و30 في المئة العام الماضي مما لا يبشر بالخير بالنسبة الى الدول الأفريقية المصدرة للبن والدول المحيطة بها. ولكن في المقابل فإن ارتفاع أسعار القمح والشعير والذرة متوقع بسبب ارتفاع الطلب عليها من جميع أرجاء العالم على ضوء ارتفاع الاستهلاك العالمي لهذه المواد وانفتاح العادات الغذائية بفعل العولمة. غير أن الأحوال الجوية، والعقود الموقعة بين الدول لتأمين الأمن الغذائي فيما بينها يمنع السوق من أن تلعب دورها، إضافة إلى تراجع الانتاج الأوروبي والأميركي، مما سينعكس ارتفاعاً في الأسعار العالمية... ومزيداً من الضغط على الدول الفقيرة.