لا يتحدث المحللون الروس في هذه الأيام إلا عن احتمال نشوب حرب في منطقة بحر قزوين بسبب المخاوف الشديدة من عواقب الخلاف على تقسيم الثروات البترولية الوافرة وغير المسبوقة. وبلغ بهم القول ان الحرب العالمية الثالثة ستندلع، إذا قدّر لها ان تندلع، في هذه المنطقة بالذات. ويعيدنا ذلك الى قول سابق ان فتيل الحرب الثالثة سيشتعل في العراق، وقالوا في البلقان... مما الى ذلك. إلا أن الجزم باستحالة الحرب في قزوين مبالغة معكوسة بالطبع. فاللقمة دسمة، والذهنية القديمة الطائفية ناشطة، والمصالح الغربية متجذرة، وروسيا متحفزة متوترة. وذلك كله وراء التهويل بعد كل تحليق لطائرة أو كل تحرك لسفينة في مياه قزوين وأجوائه. أفردت أحكام السياسة البحرية الروسية التي أقرها الرئيس فلاديمير بوتين في أواخر شهر تموز يوليو الماضي للفترة حتى العام 2020 فصلاً لاتجاهات هذه السياسة في منطقة قزوين "التي تمتلك موارد معدنية وبيولوجية فريدة من حيث الحجم والنوعية". ومن بين مهمات روسيا الطويلة الأجل في المنطقة تحقيق ما يعود عليها بالنفع من مكانة بحر قزوين الحقوقية ومن احتياط الأسماك وحقول النفط والغاز فيه. وتشدد الأحكام على "تهيئة الظروف لمرابطة واستخدام جميع عناصر القوة البحرية الروسية والحيلولة دون إزاحة الأسطول الروسي من سوق خدمات النقل البحري وتأمين منفذ غير مباشر الى حوضي البحر الأبيض المتوسط وبحر البلطيق". جغرافياً يعتبر قزوين بحر الخزر أعظم بحيرة مالحة مغلقة على وجه البسيطة، طولها 1200 كيلومتر وعرضها زهاء 300 كيلومتر، تنبسط من الشمال الى الجنوب عند الحدود بين أوروبا وآسيا على مستوى أكثر انخفاضاً من مستوى المحيط العالمي ب28 متراً. وخلافاً للبحار الأخرى فإن مياه قزوين مشبعة بالكبريتات وغنية بالأسماك الثمينة السلمون وبيوضه الكافيار. ومساحة البحر تتقلص باستمرار بسبب التبخر وانخفاض منسوب الأنهار التي تصب فيه وأكبرها نهر الفولغا. ففي أقل من نصف قرن انخفض مستوى مياهه مترين وتقلصت مساحته من 424300 الى 371000 كيلومتر مربع. ومتوسط عمقه 184 متراً، وأعمق نقطة فيه 980 متراً، وكمية مياهه 76 ألف كيلومتر مكعب على وجه التقريب. واجمالي امتداد الساحل مع الجزر 7000 كيلومتر. وهو موزع بين روسيا الشمال الغربي وايران الجنوب والجنوب الغربي وكازاخستان الشمال الشرقي وتركمانستان الشرق. أما أذربيجان فلها أصغر حصة من الساحل محصورة بين روسياوايران غرباً. في عهد الاتحاد السوفياتي كانت مشكلة قزوين مقتصرة على موسكووطهران فقط، والقول الفصل فيها للأولى نظراً الى قوتها، اما الآن فالمشكلة تعقدت خمس مرات. والصراع يشتد عموماً بسبب تشابك المصالح الاقتصادية بين الدول القزوينية الخمس. إلا أنه بات في الآونة الأخيرة على أشده في القطاعين الايرانيوالأذربيجاني بخاصة. وتداخلت فيه عوامل أخرى سياسية ودينية. وفي مقدمها الادعاءات الاقليمية وإحياء الفكرة القديمة في شأن عائدية أذربيجان الى ايران، والرد عليها بعائدية شمال ايران الى أذربيجان. وكان الموقف في قزوين تأزم عندما اتهمت طهران باكو بخرق الحدود البحرية وأرغمت سفينة أذربيجانية بقوة السلاح على مغادرة منطقة حقول "آلوف". ويومها لمحت طهران الى أن الرئيس الاذربيجاني حيدر علييف يجب أن يقود بلاده بشكل لا يعطي للشعب الايراني حجة كي يطالب بإعادة أذربيجان الى حظيرة ايران! ويجد المحللون في هذا التلميح شبهاً بالسيناريو العراقي في ما يخص غزو الكويت. لا سيما أن باكو عمدت أخيراً الى "تخويف طهران" من خلال أنقرة. فالأتراك أكدوا انهم في حال نشوب نزاع مسلح بين باكو وطهران سيهبون لنجدة أذربيجان. ويذكر أن عشر مقاتلات تركية اف - 15 وصلت الى أذربيحان وشاركت في استعراض سرب "نجوم تركيا" في 24 و25 آب اغسطس الماضي. وفي الواقع فإن القيادة الأذربيجانية عمدت مراراً الى استفزاز طهران في شأن إمكان الاتحاد مع "الأشقاء المقيمين في أذربيجان الجنوبية" أي مع الأذربيجانيين المقيمين في شمال ايرانالأذربيجانيون، حسب بعض المصادر، يشكلون 20 في المئة من سكان ايران. ومعروف ان الايرانيين لا يطيقون أي كلام يهدد حرمة أراضيهم، خصوصاً بعد حرب الثماني سنوات مع العراق. الى ذلك تدهورت العلاقات بين ايرانوأذربيجان بسبب ميول الأخيرة نحو الغرب والولاياتالمتحدة بخاصة، وكذلك "صلاتها الخصوصية" مع تركيا. فجذور الخلافات الايرانية - التركية تغوص في أعماق التاريخ، ولا يروق لايران بالطبع ظهور دولة جديدة في خاصرتها موالية للأتراك. ثم ان مسألة قره باخ تركت بصماتها على العلاقات بين الايرانيينوالأذربيجانيين. فطوال فترة النزاع هناك لم تمارس الدولة الاسلامية الكبرى ايران أي ضغط محسوس لإقناع أرمينيا المسيحية بقبول مطالب أذربيجان المسلمة، على خلاف أنقرة التي ترفض حتى اليوم اقامة علاقات ديبلوماسية مع يريفان. وكانت واشنطنوأنقرة استنكرتا بشدة التطاولات الايرانية الجوية على أذربيجان، حتى ان تركيا هددت ايران وحذرتها، على لسان جريدة "الحرية"، من مغبة الاساءة الى الأذربيجانيين ووعدت "بتقديم النجدة الى أذربيجان عند الاقتضاء في أي مجال كان". وتجاهلت طهران التهديدات التركية مؤكدة ان شيئاً لم يحدث طالما ان الطائرات الايرانية تحلق في الأجواء الايرانية، ولذا لا مبرر لاعتبارها تهديداً للدول المجاورة. كما قالت طهران ان الولاياتالمتحدة بتأييدها أذربيجان انما تتدخل في شؤون الغير وتؤجج التوتر وتستفز الآخرين. وبعد هذه المناوشات الكلامية اتضح للأطراف التي تنوي اقتسام قالب الحلوى القزويني ان طهران تعتبر حقول النفط التي تدعي اذربيجان عائديتها ملكاً لإيران وان الأخيرة لا تنوي بحث هذا الموضوع اطلاقاً. وفي رأي موسكو ان الخلافات على ثروات قاع بحر قزوين يجب أن تحل بالسبل السلمية وان الأحداث الأخيرة بين باكو وطهران تسوق الدليل على ضرورة الاسراع في تحديد المكانة الحقوقية للبحر. وفيما تدعو موسكو الى قمة خماسية لبحث الموضوع أعلنت باكو أنها لن تجلس مع طهران رأساً ودعت الى عقد قمة رباعية روسيا، كازاخستان، أذربيجان، تركمانستان في بادئ الأمر، ثم قمة خماسية تشارك فيها ايران. وثمة مخاطر كثيرة تحيق بأذربيجان من جهات عدة. فهناك أرمينيا التي تحتل اقليم قره باخ في قلب الأراضي الأذربيجانية، وهناك المعارضة الداخلية التي انتعشت بقيادة أنصار الرئيس السابق أبي الفضل التشيبي، وهناك اشكالات خلافة الرئيس الكهل علييف بواسطة ابنه الهام. وأخيراً قامت انتفاضة الآفاريين في شمال أذربيجان، ما دعا باكو الى ارسال الدبابات وقوات المهمات الخاصة ل"تأديب" منطقة "زكاة علي" المتاخمة للحدود الروسية. على هذه الخلفية لا يستبعد المحللون، وقد نسوا كلاماً قالوه قبل ستة أشهر عن محور موسكو - باكو - طهران، أن تتعرض أذربيجان لهزة أشد من ناحية الجنوب، من ايران هذه المرة. وعندها يشتد الشبه مع السيناريو العراقي - الكويتي 1990 - 1991، حيث تضطر دول أخرى، في مقدمها تركيا، ومن ثم حلف شمال الأطلسي، وربما روسيا الى التدخل لتحرير أذربيجان. وعندما حلقت الطائرات الحربية الايرانية مراراً فوق حقول آلوف - شرق اراز الغنية بالنفط هددت أذربيجان باسقاطها، فيما أعلن عبدالأحد غزائي سفير ايران لدى باكو ان حكومته أنذرت الأذربيجانيين مراراً في شأن عدم جواز استثمار الحقول المذكورة الى أن يتم تحديد وضع بحر قزوين حقوقياً. وقال غزائي ان الاتفاقات الايرانية - السوفياتية في 1920 و1921 و1940 منحت الدولتين حقاً متساوياً بالملاحة في قزوين ولم تتناول مسألة قاع البحر. ولذا لا بد لدوله الخمس من الاتفاق في هذا الشأن. ويذكر أن روسيا اقترحت بقاء سطح البحر مشتركاً بين الدول الخمس وتقسيم القاع فقط وفقاً لخط معدل في المنتصف. ووافقت كازاخستان وأذربيجان على الاقتراح من حيث المبدأ، فيما أصرت ايران على أحد أمرين: اما بقاء قزوين كله بسطحه وقاعه مشتركاً للجميع أو تقسيمه الى خمسة قطاعات متساوية. وكانت تركمانستان حتى الآونة الأخيرة تؤيد رأي ايران. ثم ان موسكووطهران أكدتا في آذار مارس 2001 ان لا وجود للحدود في قزوين حتى الآن. ويبدو أن ايران اتخذت من هذا التصريح ذريعة لاستعراض العضلات في الجزء الجنوبي من بحر قزوين للمرة الأولى منذ سقوط الاتحاد السوفياتي. وعلى رغم ان طلعات سلاح الجو الايراني المتكررة لم تتعد استعراض العضلات، إلا أن اصطفاف القوى وتوزيع القوات البحرية في قزوين لا يوحيان بالاطمئنان، ذلك أن الدول القزوينية ماضية في توسيع قواتها المسلحة هناك. وإذا استمرت أذربيجان في استثمار الحقول المتنازع عليها فإن الخبراء العسكريين لا يستبعدون نشوب الحرب، علماً أن تركمانستان ستدخلها في هذه الحال إلى صف ايران. فهي أيضاً تدعي أن أذربيجان استولت على آبار عائدة لها. وكانت عشق آباد اعلنت أخيراً بعد فشل المحادثات مع باكو في هذا الشأن انها ستدافع عن مواقعها بكل السبل الممكنة. واللافت ان تركمانستان رسمياً لا تمتلك قوات بحرية. فهي تخلت لمصلحة روسيا عن حصتها 25 في المئة من الأسطول السوفياتي في بحر قزوين بعد تقسيمه. وكانت حتى العام 1999 تحمي حدودها المائية بالتعاون مع الروس. إلا أنها اشترت أخيراً 20 سفينة سريعة من أوكرانيا، عشر منها بحمولة 40 طناً ومزودة برشاشات من عيار ثقيل. الى ذلك ظلت في تركمانستان بعد سقوط الاتحاد السوفياتي اكبر مجموعة جوية في آسيا الوسطى. اما كازاخستان فقد اكد رئيسها نور سلطان نزاربايف ان الاتجاه الاستراتيجي القزويني يشغل الى جانب الاتجاه الجنوبي مرتبة الاولوية بالنسبة الى القوات المسلحة الكازاخية. ولدى اذربيجان ايضاً قوة بحرية معينة. ففي باكو تواجد حتى العام 1992 مقر اركان الاسطول السوفياتي القزويني. وبعد تقسيم هذا الاسطول حصلت اذربيحان على حوالي 25 في المئة من السفن الحربية فرقاطة واحدة و9 قوارب خفارة و5 كاسحات الغام و4 سفن بوسائد هوائية و3 سفن اسناد بالاضافة الى جزء كبير من من البنية الاساسية للاسطول. ولا تزال باكو، الى جانب استراخان في ثغر نهر الفولغا تعتبر اكبر قاعدة بحرية في قزوين. ولروسيا بالطبع اضخم اسطول في بحر قزوين: أسراب عدة من سفن الخفارة وكاسحات الألغام وسفن المراقبة الجوية ومختلف فئات السفن الحربية والسفن المساعدة وقوارب الصواريخ والانزال ذات الوسائد الهوائية وسفن التموين وبنية الاساس اللازمة. وتعزز سلاح الجو البحري الروسي هناك بطائرات برمائية وبمروحيات كاموف 25 وكاموف 27 للخفارة ولمكافحة الغواصات. وفي العام 2000 تشكل هناك لواء مشاة البحرية، كما نقلت قبل ذلك من اسطول البلطيق اربع قوارب اضافية للصواريخ والمدفعية. وبذلك ضاعفت روسيا تقريباً قدراتها الحربية في بحر قزوين. اما ايران فقد تخصصت في تقنية بناء غواصات الديزل الصغيرة وسفن الانزال بحمولة 200 طن التي يمكن استخدامها في بحر قزوين. وتنوي البحرية الايرانية تشكيل سرب لوجستي لخوض العمليات الحربية في مناطق معينة من قزوين عند الاقتضاء. ويدل على نوايا ايران الجدية في المجال العسكري شراء غواصة "فارشافيانكا" الروسية العام 1995 ترابط حالياً في الخليج واعداد الضباط الايرانيين في قاعدة بالتيسك البحرية الروسية وتعميق التعاون في الميادين العسكرية الاخرى. وتضم القوة البحرية الايرانية 43 الف جندي منهم 25 ألف بحار بين حراس الثورة الاسلامية. ولديها 3 غواصات كبيرة و3 غواصات صغيرة جداً و3 فرقاطات بصواريخ موجهة وزورقان حربيان و20 قارباً صاروخياً واكثر من 30 قارباً طوربيدياً و13 سفينة للانزال و6 سفن بوسائد هوائية و3 كاسحات الغام و28 سفينة اسناد. كما لديها سلاح جو بحري من الفي شخص يتألف من 22 طائرة و15 هليكوبتر. وكذلك 3 الوية لمشاة البحرية تضم اكثر من 2600 شخص. ولديها ايضاً 4 ألوية للقوات الصاروخية مزودة بأكثر من 300 راجمة مضادة للسفن. صحيح ان معظم تلك القوات يرابط في منطقة الخليج. فايران اقوى دولة بحرية هناك. الا انها تستخدم قزوين للتدريب اساساً وبوسعها ان تنقل اليه ما تشاء. ولدى ايران ست قواعد بحرية خمس منها في الخليج وواحدة في قزوين. والى ذلك ثمة 8 أفواج لدرك الحدود في شمال ايران: ثلاثة في القوقاز واثنان على شواطئ قزوين وثلاثة في آسيا الوسطى. ويبلغ عدد الدرك الايرانيين 40 الف شخص. واجمالاً يبلغ تعداد الجيش الايراني اليوم 513 الف جندي تشكل القوة البرية نواتهم 325 الفاً بالاضافة الى قوة برية اخرى لحراس الثورة الاسلامية تعدادها 100 ألف. كما تضم القوة الجوية 45 الف جندي. وفي فترة التعبئة والنفير ابان الحرب ضد العراق حمل السلاح حوالي 10 ملايين ايراني. وخلال الفترة 1970 - 1995 شغلت ايران احدى المراتب الاولى من حيث استيراد السلاح فتجاوز مجموع ما استوردته 13 بليون دولار. وعلى أية حال يرى المحللون، الاميركيون هذه المرة، ان الحرب في المنطقة، حتى ان لم تندلع بسبب نفط قزوين فإنها ربما تنشب بسبب اقليم قره باخ. ذلك ان الهستيريا الدعائية الدائرة بين اذربيجانوارمينيا حالياً قد تفجّر الموقف في الاقليم بعد هدنة استمرت اكثر من سبع سنوات. وحتى لو كسبت اذربيجان هذه الحرب الصغيرة بمساعدة الاتراك فان ارمينيا قد تعمد الى ضم اقليم ناخيتشيوان العائد الى اذربيجان حسب معاهدة كارس العام 1921 لكنه واقع في الأراضي الأرمنية. وعند ذاك تتدخل تركيا بصفتها راعية للمعاهدة الى صف اذربيجان وتضطر روسيا، الراعية الثانية، للتدخل الى صف حليفتها ارمينيا. وفي هذه الحال قد تنتهز إيران الفرصة وتتحرك ضد اذربيجان