ما هي العلاقة بين ما جرى بالأمس بين اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، خلال الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982، وما يجري اليوم على أرض فلسطين بين اسرائيل وانتفاضة الشعب الفلسطيني؟ وهل ساهم الاحتلال في العام 1982 في تسريع وتحقيق التحرير في العام 2000؟ وما الذي تغير بالنسبة الى الرجلين اللذين كانا ولا يزالان في الواجهة والمواجهة: ارييل شارون وياسر عرفات؟ في نظرة تاريخية الى حرب اسرائيل في لبنان 1982، قال يوسي أولمرت رئيس دائرة سورية ولبنان في مركز ديان في جامعة تل أبيب "ان حرب لبنان بالتحديد وليست حرب يوم الغرفان 1973 هي التي سيعتبرها مؤرخ المستقبل مفترق طرق مصيرياً في تاريخ دولة اسرائيل". وهي لهذا السبب "قد تقود اسرائيل الى اتجاهات غير مستحبة". كلام أولمرت هذا يعكس جدلاً قام في اسرائيل منذ تأسيسها ولا يزال يشغل الأوساط السياسية والعسكرية في الدولة العبرية وهو يدور حول مشروعية شن الحرب من جانب اسرائيل. وينظر الاسرائيليون الى هذه المشروعية في اتجاهين: الأول يسمونه "حرب الخيار" ومعناه ان اسرائيل تشن حربها عن سابق تصور وتصميم، ومن دون ان يكون وجودها مهدداً، وذلك بغية تحقيق اهداف سياسية. وفي هذا تكون اسرائيل في موقف الهجوم لا في موقف الدفاع. من هذا القبيل حرب لبنان التي وصفت خطأ ب "حرب سلامة الجليل". ومثل هذه الحرب لا يكون عليها اجماع عادة وفي رأي الاستراتيجيين الاسرائيليين ان حرب لبنان كانت ثاني "حرب خيار" تشنها اسرائيل بعد حرب السويس 1956. من هنا وصفها ب "الحرب المفترق". الثاني يسمونه "حرب اللاخيار" ومعناه ان اسرائيل موضوعة امام مصيرها ووجودها كدولة ولم يترك لها الآخرون خياراً بل وضعوها امام الأمر الواقع اي امام اللاخيار بحيث انها مضطرة لمواجهة حرب لا إرادة لها فيها بل فرضت عليها: انها "حرب اللاخيار". وواضح بالتأكيد ان الرأي العام الاسرائيلي، بمختلف اتجاهاته، يؤيد "حرب اللاخيار" لأنه يعتبرها حرب وجود تطرح مشروعية الدولة، فهي "كلية" وليست حرباً سياسية تعمل فيها السلطة على تحقيق أهداف حددتها السياسة فهي "جزئية". إضافة الى هذين النوعين من الحروب بدأت اسرائيل تواجه نوعاً ثالثاً هو "حرب الاستنزاف". فهي ليست حرب تهديد لوجود الدولة، وهي ليست حرباً ارادية شاءتها اسرائيل، بل هي في منزلة بين المنزلتين. - انها تهدد مفهوم اسرائيل لأمن الدولة من خلال حدودها النهائية كحيّز جغرافي الصراع على الحدود النهائية والمقدسات لاسرائيل ولفلسطين. - انها تضع اسرائيل في شبه حرب غير معلنة امام قوى المقاومة والعنف كما حصل في جنوبلبنان وكما يحصل في الضفة والقطاع. أصول اللعبة هذه الحرب الثالثة تزعج اسرائيل لأنها ليست حرباً نظامية بين الجيوش وليست لها اليد والامكانية لاستعمال قدرتها العسكرية في حرب الشوارع والمواقع. لهذا تعمل اسرائيل خصوصاً مع شارون على نقل هذه الحرب من صراع مع "المقاومين" الى صراع مع الدول التي تقف وراءهم، بحسب نظرية موشه ارينز. وهذا هو معنى تهديد اسرائيل لسورية برد مدمر لاحتواء "حزب الله" وتهديد مصر بسحب الخبراء الأميركيين من سيناء لاحتواء ياسر عرفات، وهذا هو المعنى الصحيح "لتغيير أصول اللعبة"! ان تسمية حرب لبنان "حرب سلامة الجليل" هي تسمية غير ملائمة، لأنها توحي وكأنها "حرب لا خيار" في حين انها "حرب خيار" لها أهدافها المعلنة والمضمرة. بل اكثر من ذلك، انها اول حرب تعلن فيها اسرائيل اهدافها بشكل مسبق، وهي اربعة كما حددها وزير الدفاع الاسرائيلي آنذاك ارييل شارون وعُرفت بالخطة الكبيرة. 1- تدمير بنية منظمة التحرير الفلسطينية وتطهير منطقة بعمق 40 كيلومتراً شمال الحدود الاسرائيلية - اللبنانية. 2- تحقيق مغادرة كل القوى الاجنبية لبنان بما فيها سورية واسرائيل. 3- طرد منظمة التحرير من بيروت. 4- عقد معاهدة سلام مع لبنان. بالاستناد الى كتاب "اسرائيل وتجربة حرب لبنان" عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية 1984. ومع ذلك، بل بسبب ذلك فإن حرب الخيار هذه لم تلق اجماعاً في اسرائيل، من ذلك مثلاً ارتباط احد هذه الأهداف بمفهوم "حلف الأقليات" في الشرق الأوسط وتحديداً: التحالف مع المسيحيين اللبنانيين. فمنذ العام 1978 كان هنري كيسنجر قد شكك بصدقية هذا المفهوم ودعا الاسرائيليين الى التفاهم والتحالف مع الأكثرية - العربية - السنّية مجسداً هذا التوجه بمعاهدة كامب ديفيد بين مصر واسرائيل. ولكن شارون ظل يراهن على حلف الأقليات متأثراً بثقافته الليكودية! حرب "يهودا والسامرة"! لقد أطلق بعض المؤرخين الاسرائيليين على هذه الحرب اسماً آخر هو: "حرب يهودا والسامرة" اي ان موقع الحرب الجغرافي هو لبنان ولكن موقع هدفها السياسي هو الضفة والقطاع. فالليكود يتمسك بأرض اسرائيل الكاملة، خصوصاً في الضفة الغربية وهو اذ يضرب منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان فليسهل امكانية احتواء الضفة والتخلص من المشكلة الديموغرافية فيها. لهذا قال قادة الليكود تصريحاً او تلميحاً "ان حرب 1982 هي حرب من اجل يهودا والسامرة" في الدرجة الاولى. ان رأس منظمة التحرير موجود في بيروت لكن جسمها موجود في الضفة الغربية. وخوفاً من تحرك هذا الجسم فلا بد من قطع رأسه في لبنان من جسمه في فلسطين. وفي دراسة عن معهد جافي للدراسات الاستراتيجية في جامعة تل أبيب 1984 انه "عندما شن وزير الدفاع الاسرائيلي حربه على لبنان، كان في ذهنه ما هو أبعد من لبنان، كان هدفه النهائي ايجاد ظروف تتيح لاسرائيل سيطرة لا متناهية على الضفة الغربية. كان في ذهن شارون هدفان غير الاهداف المعلنة وهما: تسهيل انشاء ادارة ذاتية في الضفة وقطاع غزة كما تخيلها رئيس الحكومة مناحيم بيغن، واعادة رسم خريطة الشرق الاوسط السياسية من خلال المبادأة بعملية تؤدي الى اطاحة الملك حسين وانشاء دولة فلسطينية في الأردن. وكان شارون يأمل بأن يخفف هذا الأمر الضغط الذي يمارس على اسرائيل كي تسمح بانشاء مثل هذه الدولة في الضفة الغربية". أربع ميزات باختصار، حرب لبنان، كانت ستعطي لاسرائيل أربع ميزات في الضفة: * اضعاف نشاط منظمة التحرير سياسياً وعسكرياً وبالتالي تقوية المعتدلين من الفلسطينيين ودفعهم للتفاوض مع اسرائيل "بالادارة الذاتية". * اتاحة حرية حركة اكبر لاسرائيل في زيادة اعمال الاستيطان. * اعطاء المبادرة للتخلص من اكبر عدد ممكن من الفلسطينيين بالتهجير تلافياً للخطر الديموغرافي. * اقامة دولة فلسطينية بديلة في الأردن. لكن حساب الحقل لم ينطبق على حساب البيدر في مجالين أساسيين: الأول: ان اسرائيل شاءت ان تتخلص مما تدعوه "الارهاب الفلسطيني" فإذا بها تساهم في بروز ما تسميه "الارهاب الشيعي" الى الحد الذي جعل ليفي هيروشليمي من مجلس الصحافة في اسرائيل يقول: "لقد أردنا القضاء على ارهاب منظمة التحرير الفلسطينية، واذا بإرهاب شيعي ينشأ وهو اكثر خطورة من ارهاب منظمة التحرير الفلسطينية بدرجة لا تقاس" وهذا يعني "نقل خطر الخمينية الايرانية الى حدود اسرائيل... ولست واثقاً من ان الشيعة سيتوقفون عند الحدود الدولية". وبحسب "دافار" جرى استفزاز النزعة الوطنية الشيعية او اليقظة الشيعية المعادية لاسرائيل". ولقد تأكدت هذه التوقعات بنشوء "حزب الله" والمقاومة الاسلامية في جنوبلبنان ودورها في انسحاب اسرائيل من لبنان أيار / مايو 2000. الثاني: ان الرأس الذي ظنت اسرائيل انها قطعته في لبنان والى الأبد عاد ليفرخ في الضفة والقطاع. فعرفات الذي جرى اخراجه من بيروت ومن طرابلس الى تونس، عاد لينشئ دولته في الضفة، ومن ثم ليجد نفسه مرة جديدة وجهاً لوجه امام شارون. دورة التاريخ لكن التاريخ دار دورته لمدة عشرين عاماً وتغيرت أمور كثيرة في هذه المواجهة: - بعد أوسلو ومدريد اصبحت الدولة الفلسطينية امراً واقعاً وبقي تعيين حدودها. - ان القوى الفلسطينية اتجهت نحو مزيد من الراديكالية، من مفهوم الكفاح المسلح الى مفهوم الشعب المسلح، ومن منظمة التحرير الى "ثأر الله". - هناك تفهم دولي وإقرار بمطالب الفلسطينيين المشروعة. - ولعل الأهم في ذلك انقلاب الأدوار بين شارون وعرفات. وفي العام 1982 كان شارون في موقع الهجوم وعرفات في موقع الدفاع، وفي العام 2001 اصبح عرفات في موقع الهجوم وشارون في موقع الدفاع. - واذا كان من السهل مع شارون اقتلاع عرفات من أرض غير أرضه لبنان فسيكون من الصعب عليه اقتلاعه من ارضه في فلسطين. باختصار، يقف شارون وعرفات وجهاً لوجه ويحاول كل منهما ان يفرض ارادته على الآخر في مسألة مركزية هي: حدود وأمن الدولتين الاسرائيلية والفلسطينية. وهي مسألة يختلط فيها الديني بالاستراتيجي بالنفسي في واحدة من المسائل الاكثر تعقيداً في الجغرافيا السياسية على الصعيد العالمي. وفي الوقت الذي نكتب هذه الكلمات فإن كل الاحتمالات واردة في تفجير يشمل المنطقة كلها ولا يتوقف عند أبواب فلسطين بعد الاحداث الدامية التي شهدتها الضفة واسرائيل من قصف وتهجير. فشارون المغرم برسم الخرائط الجديدة قد يرى امامه الخيار الوحيد المدعوم اميركياً فيعمل ضمن حرب اقليمية لإقامة نظام اقليمي جديد يستوعب كل القوى والمشاكل في شرق المتوسط ويمتد من الموصل الى رفح. فهل هذا ما تريده أميركا... وتعمل له اسرائيل؟