للمرة الأولى دخلت مزارع شبعا الاستحقاقات الاقليمية من بابها العريض لتشكل سبباً لنزاع اسرائيلي - سوري على الأراضي اللبنانية من غير ان تؤدي حكماً الى نزاع شامل في المنطقة بين سورية واسرائيل، ومن غير ان تؤدي خصوصاً الى فرصة جديدة للتسوية السلمية. وبسبب هذه المزارع التي يواجه فيها لبنان ضغوطاً عسكرية وديبلوماسية متفاقمة، فإن سورية باتت، بعد الغارة الاسرائيلية على موقع رادار لجيشها في ضهر البيدر على الطريق الرئيسي بين بيروتودمشق، هدفاً مباشراً لرد فعل اسرائيل محتمل بعد كل هجوم يمكن ان ينفذه "حزب الله" ضد الجنود الاسرائيليين في مزارع شبعا، اذا صح ان هذا هو مضمون رسالة الدولة العبرية الى القيادة السورية قبل ان تكون موجهة الى لبنان او الى تنظيم "حزب الله". والواقع ان ثمة سجالاً داخلياً يجري في لبنان منذ انتهاء الاحتلال الاسرائيلي للجنوب في 24 أيار مايو الفائت، يتعلق بدوافع الدولة اللبنانية للمضي في خيار المقاومة العسكرية لاستعادة مزارع شبعا المحتلة منذ أكثر من ثلاثة عقود. ويتسع هذا السجال تحت وطأة تشعب الاعتراض وتنوع القوى السياسية التي تنتقد خيار تركيز المقاومة حول مزارع تجاهلتها الدولة اللبنانية طيلة تلك السنوات... ولم تطلق المقاومة فيها، عبر "حزب الله"، الا بعد تحرير الجنوب. ويذهب أصحاب هذه الانتقادات الى ربط التمسك بالمقاومة في المزارع، بتلازم المسارين اللبناني والسوري في مفاوضات التسوية، بعدما بدا ان الغاية من خروج الجيش الاسرائيلي من الجنوب فك هذا التلازم بغية احراج سورية، بسبب عدم اقتران الانسحاب الاسرائيلي بالتسوية السلمية تبعاً للشروط التي تنادي بها سورية. ولذا يعتقد هؤلاء، من غير تجاهل حق لبنان في استعادة أراضيه المحتلة، بانتقال النزاع الاسرائيلي - السوري على التسوية، من أرض الجنوب الى أرض المزارع، ليطرحوا السؤال الآتي: هل تستحق المزارع كل هذا التوتر الاقليمي الخطير الذي تحدثه في المنطقة، وبلغ ذروته بالغارة الاسرائيلية على موقع الجيش السوري على النحو الذي يهدد بنزاع اسرائيلي - سوري؟ بل يذهبون في طرح مقاربة مختلفة: هل أضحت مزارع شبعا في حال ما كانت عليه منطقتا الالزاس واللورين بالنسبة الى فرنسا والمانيا؟ تنافس الالمان والفرنسيون على هاتين المقاطعتين عقوداً طويلة: العام 1870 سيطر عليهما الالمان، وضموهما الى اراضيهم في حربهم ضد الفرنسيين حتى العام 1914. في هذه الأثناء كانت الحياة السياسية الفرنسية تدور حول استعادة المقاطعتين الى السيادة الفرنسية. على ان الفرنسيين سرعان ما استعادوهما في نهاية الحرب العالمية الأولى العام 1918 ضد ألمانيا والدولة العثمانية، على اثر انتصار الحلفاء، ثم ضمّهما ادولف هتلر مجدداً الى ألمانيا بعد وصوله الى السلطة واحتلاله فرنسا في بداية الحرب العالمية الثانية. ومع انتهاء هذه الحرب استعادت فرنسا مقاطعتي الالزاس واللورين، العام 1945، وضمّتهما الى اراضيها نهائياً. كانت هاتان المقاطعتان تستأهلان بالنسبة الى الألمان والفرنسيين نزاعاً طويلاً على منطقة هي جغرافياً داخل الأراضي الفرنسية على رغم ان غالبية سكانها ألمان يتكلمون لغتي الدولتين المتجاورتين بفعل الاختلاط بينهما، لكن هويتها ظلت في كل حال فرنسية. على نحو مماثل لما حصل للالزاس واللورين يكمن التساؤل عن مزارع شبعا على حافة النزاع الاسرائيلي - السوري فيما لبنان يقول بملكيتها. والواضح ان ما يحدث في هذه المزارع التي لا يرى المعارضون لخيار تحريرها انها تقع في منزلة المقاطعتين الفرنسيتين، ان ثمة مشكلة اساسية تتصل بهويتها: فاسرائيل تقول انها سورية احتلتها العام 1967، وتالياً فإن اي حل لها يخضع للقرار 242 الذي يسري على الأراضي السورية المحتلة عامذاك... وتبعاً لذلك فإن لبنان غير معني بها، فيما الوضع القانوني الذي يرعى هذه المزارع هو وجود قوات فض الاشتباك الدولية في الجولان المعروفة ب "اندوف". في المقابل تقول سورية إن المزارع لبنانية، وكتبت بهذا الشأن الى الأمين العام للأمم المتحدة من غير ان تبرز صكوكاً عقارية وخرائط ترسيم حدود تؤكد ملكية لبنان لها. وهذا ما يصر عليه لبنان ايضاً. اما الأممالمتحدة - ومعها الأميركيون - فلا يعترفون بلبنانية مزارع شبعا، ويعتبرونها سورية للأسباب نفسها التي تتسلح بها اسرائيل لترفض انهاء احتلالها. إلا انها - حتى اشعار آخر - وتبعاً لهذه المعطيات المؤيدة لوجهة نظر الدولة العبرية، تعتبر اي هجوم على المزارع ينفذه "حزب الله" عملاً استفزازياً، واعتداء على اسرائيل بعدما أخلت هذه - وفقاً لرأي الأممالمتحدة - جنوبلبنان وأنهت احتلالها له وطبقت القرار 425، ورسمت حدود هذا الانسحاب وتطبيق القرار الدولي عبر ما بات يعرف الآن ب "الخط الأزرق" الوهمي بين الأراضي اللبنانية والاسرائيلية. في خضم هذه المواجهة الديبلوماسية تعارض المنظمة الدولية والأميركيون هجمات "حزب الله" على مزارع شبعا بسبب ما يبدو التباساً على هويتها. على انه من جهة اخرى ليس موقف الحكومة اللبنانية. والواقع ان الذين تسنى لهم الاطلاع على رد فعل رئيس الجمهورية اميل لحود على الغارة الاسرائيلية على موقع الجيش السوري، لمسوا منه تجاوزه للتهديدات التي نقلها اليه السفير الاميركي في بيروت ديفيد ساترفيلد، واصراره على المضي في خيار المقاومة لتحرير المزارع. ومع ان تلك الغارة بعثت القلق في نفوس المسؤولين اللبنانيين لاستهدافها الجيش السوري بالذات، وللمرة الأولى منذ أزمة الصواريخ في رحلة في سهل البقاع اللبناني في نيسان ابريل 1981، وتالياً تحميل مسؤولية أي أزمة ناشئة من هجوم على الجنود الاسرائيليين على المزارع الى سورية وجيشها في لبنان، فإن رئيس الجمهورية أكد ان لا خيار للبنان سوى المقاومة. لكنه في الوقت نفسه يعيد الى الأذهان ان هذا الخيار قد نجح بتحرير الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي. بيد ان لحود في كل حال يؤكد تجاهله ردود الفعل الداخلية على الاستمرار في خيار المقاومة العسكرية، متسلحاً بدعم سورية. على ان ما أكسب الغارة الاسرائيلية بعداً اضافياً لم يقلل المسؤولون اللبنانيون من أهميته من غير ان يتلقفوه كتهديد مباشر لهم، هو الموقف المتصلب الذي نقله السفير الأميركي الى رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء رفيق الحريري بما بدا تضامناً أميركياً صريحاً مع التصرف الاسرائيلي عبر قوله انه يأمل في ان تكون "الرسالة" - أي الغارة الاسرائيلية على موقع الجيش السوري - "مفهومة" لوقف ما اعتبره أعمالاً استفزازية ل "حزب الله" في مزارع شبعا. وهي المرة الأولى التي يبدي فيها السفير الاميركي اهتماماً بتوجيه هذا التحذير الى السوريين من خلال الدولة اللبنانية، معبراً عن خشيته من تصاعد النزاع في تلك المنطقة. إلا انها المرة الأولى التي يحرص فيها الاميركيون على تطوير موقفهم مما هو جار في المزارع بعدما كانوا أبدوا سابقاً ليونة حيال موضوع ارسال الجيش اللبناني الى الجنوب، فتخلوا جزئياً عن اصرارهم على ضرورة ارسال الجيش الى الحدود الدولية مع اسرائيل، الا انهم قرنوا هذه المرونة بالطلب الى السلطة اللبنانية بسط سيادة الدولة اللبنانية في المنطقة الحدودية مع اسرائيل من غير ربط هذا الشرط بالضرورة بإرسال الجيش اللبناني. اذ ان ما يتمسك به الأميركيون على طرف نقيض من وجهة نظر المسؤولين اللبنانيين هو وقف هجمات "حزب الله" في مزارع شبعا وتقييد نفوذه في جنوبلبنان عبر اجراءات تحمّل السلطة اللبنانية تبعة التزامها تطبيق القرار 425 من جانبها - أي بسط السيادة الوطنية - بعدما خرجت اسرائيل من الجنوب. وماذا بعد كل ذلك؟ الواضح ان الغارة الاسرائيلية على الردار السوري دفعت بالسجال السياسي اللبناني من ملف الى آخر، من الكلام على وجود الجيش السوري في لبنان وعدم احترام سورية تطبيق بند إعادة الانتشار في اتفاق الطائف الى الكلام عن التضامن مع سورية بعد تلك الغارة ومواجهة أي رد فعل اسرائيلي محتمل. ولعل أفضل معبر عن هذا الانتقال هو البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير الذي يقود حملة المطالبة بإعادة نشر الجنود السوريين في لبنان، بأن كان السبّاق الى اعلان تضامنه مع سورية، في خطوة تركت ارتياحاً لافتاً لدى رئيس الجمهورية، اذ أشعره موقف البطريرك، استناداً الى ما لمسه بعض زوار الرئيس بعد ساعات على الغارة، تفهمه لما دار بينهما في الخلوة التي عقداها في بكركي، واطلع لحود خلالها صفير على معطيات خطيرة توضع في اتجاه ضرورة عدم استعجال اثارة موضوع وجود الجيش السوري في لبنان في هذا الوقت بالذات وطبقاً لمنحى عدائي. مع ذلك ثمة جدار في السجال الداخلي حيال خيار المقاومة في مزارع شبعا يفصل بين رأيين متعارضين لم يكن في وسع السلطة اللبنانية حتى الآن احراز نجاح اساسي في اشاعة موقف وطني عام يجمع على تأييد هذا الخيار. بل الأصح، وخلافاً لحال الاحتلال الاسرائيلي لجنوبلبنان وخيار مقاومته العسكرية، فإن مقاومة الجنود الاسرائيليين في المزارع لا تزال تفتقر الى اجماع وطني يدعم الحكم اللبناني، خصوصاً رئيس الجمهورية، في المثابرة عليها. ولذا تنامى هذا الخلاف من غير ان يطغى اخيراً، بعد الغارة الاسرائيلية على ضهر البيدر، على موقف التضامن مع سورية وجيشها في لبنان واستنكار استهدافها. إلا أن موقف التضامن هذا لم يقلص من هوة التناقض بين مؤيدي المقاومة في مزارع شبعا ومعارضيها. وهو تناقض لم يظهر حتى الآن تأثيره على قرار رئيس الجمهورية بالمقاومة المسلحة، ولا ألقى بثقله لجهة اضعاف موقف الحكومة اللبنانية الذي يلقى تأييداً سورياً مطلقاً. ولعل مبعث هذا التناقض هو طرح فريق المعارضين لخيار المقاومة بضعة أسباب ابرزها اثنان على الأقل: - عدم تسليم سورية حتى الآن الأممالمتحدة الوثائق والخرائط التي تطالب بها لتأكيد لبنانية مزارع شبعا بما يتجاوز الرسالة التي سبق ان ارسلتها دمشق، ويساعد في انتزاع اعتراف دولي يكسب المزارع الشرعية القانونية التي تعوزها تبريراً لخوض لبنان آنذاك معركة تحريرها بخيار المقاومة على نحو ما حصل في الجنوب. ولهذا تكمن مشكلة تحرير هذه المزارع او عدم تحريرها في كون المزارع هي أسيرة التباس هويتها: لبنانية أم سورية؟ لكنها في كل حال ليست اسرائيلية. - تحول خيار المقاومة الى عقبة أمام المشروع الاقتصادي لرئيس الوزراء رفيق الحريري الذي لم يتردد قبل ساعات من الغارة الاسرائيلية في توجيه انتقاد قاس، عبر جريدة "المستقبل" التي يملكها، الى "حزب الله" سائلاً عن مدى ملاءمة الهجوم الذي نفذه على المزارع مع المصلحة الوطنية. ومع ان الحريري لم يتردد مرة في تأكيد دعمه المقاومة وخيار التحرير، إلا انه اصطدم في محادثاته في الاشهر الاخيرة مع المؤسسات المالية العالمية بربط قرار دعمها لبنان بتحقيق الاستقرار فيه الذي عنى تكراراً بالنسبة اليها ما عناه دائماً موقف الأممالمتحدة والأميركيين وهو ارسال الجيش اللبناني الى الجنوب ووقف هجمات المقاومة في مزارع شبعا بالتلازم مع بسط سيادة الدولة اللبنانية. والواقع ان الحريري لمح في انتقاده الأخير الى الأولوية التي تتطلبها حكومته وهي انتشال الاقتصاد اللبناني ضمن صيغة تفاهم مع "حزب الله" لا تلغي المقاومة ما دامت قراراً سورياً أولاً وأخيراً، إلا انها تخضع هجماتها لمقتضيات ضرورة اخراج لبنان من ضائقته الاقتصادية والمالية. مثل هذا الموقف يلتقي فيه مع الحريري رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط ووزراء ونواب مستقلون. كما يلتقي واياهم على ضرورة اعتماد الوسائل الديبلوماسية في استعادة المزارع البطريرك الماروني. ان مشكلة المزارع تبقى، قبل الغارة الاسرائيلية على موقع الجيش السوري وبعدها، وسواء دخل السوريون في خيار المواجهة مع اسرائيل اذا اصروا على دعم هجمات "حزب الله" ام عزموا على تجميدها لبعض الوقت، وهي: اي هوية للمزارع؟ والى اي حد تستأهل النزاع الاقليمي الاسرائيلي - السوري على غرار السنوات الطويلة من الحروب الألمانية - الفرنسية على الالزاس واللورين؟ والواقع ان شكوكاً كهذه لا يبدو حتى الآن انها تدخل في حسابات السلطة اللبنانية.