"حاولت ألا أكتب سيرتي الذاتية. وذلك لسبب بسيط، إذ لا يوجد في حياتي شيء يمكن كتابته"، هكذا يعلّق حسن الشيخ على انتقاله من القصّة إلى الرواية، كنوع من "المجازفة في اكتشاف الذات"، منتقداً بصورة غير مباشرة العديد من أقرانه ممن أسرفوا في كتابة سيرتهم الذاتيّة، مختبئين خلف تسمية الرواية. والقاص السعودي الذي يعتبر أن للأديب علاقة خاصة بالزمن هي محصلة تماهيه مع جغرافية المكان، غرف من ذاكرة قريته وناسه، واستفاد من الذاكرة الشعبيّة، لكنّه يصرّ على انه كاتب معاصر، يعتمد على تقنيّات وجماليّات وأساليب لا علاقة لها بالفنّ التقليدي والشفوي، وهو بهذا المعنى يؤكّد أهميّة البعد الرمزي في الأدب الخليجي، قبل أن يستدرك: "الإغراق في الرمزية، يهدم الشكل الفني". ويشير صاحب "ولادة فارس قبيلة المطاريد" إلى أنّه يستند إلى "ذاكرة مستفزة، قلقة... بلا ضوابط"، ويتفادى الواقعيّة المجرّدة، ولا يميل إلى اعطاء تفسيرات رسميّة للعمل الإبداعي. ويرى أن "هناك فورة روائية على إمتداد المشهد الثقافي العربي، من المنامة إلى طنجة... ولا شك في أن الرواية السعوديّة ستترك أخاديداً واضحة في مسيرة الفرد، كما لعبت نظيرتها الغربية يوماً دوراً أساسياً في بلورة علامات مهمّة في مسيرة الفرد الغربي". العمل الروائي، كما ينظر إليه حسن الشيخ، حالة إبداعية معقّدة، تحكمها اعتبارات تقنيّة وفنية ونفسية متشابكة. لكنها أيضاً بالنسبة إلى هذا القاص السعودي الشاب مجازفة في اكتشاف الذات، وحين كتب روايته "الفوارس"، كان يرغب في الرجوع إلى الماضي، وإعادة تركيبه وتفسير الأحداث من زاوية رؤية اجتماعية أوسع، وتشريع الأبواب على مصاريعها وكسر شرنقة القصة للخروج إلى مدارات روائية أرحب. وهو بذلك لم يكتب سيرته الذاتية كما فعل الروائيون الجدد في السعودية. وهؤلاء، برأي حسن الشيخ، توقفوا بعد أن اكتملت السيرة الذاتية ولم يعد لديهم ما يضيفونه! والقاص حسن الشيخ طاقة إبداعية، تتلمّس الخطى نحو مستقبل اكثر عمقاً وفاعلية في رصد مناخات المكان والزمان، واقتناص خصوبة الأشياء، بما فيها التراث البكر في بيئة هذا الأديب. وفي هذه الحوار رصد لتجربته وتطلعاته ومستقبله في مجال القصة والرواية. دعنا في البداية نتحدث عن أوليات التشكيل المعرفي لديك. كيف تشكّلت شخصيّتك الابداعيّة ككاتب قصة؟ ما المراجع والمناخات والتجارب التأسيسية في مسيرتك الصحافيّة والقصصيّة في آن؟ - لا ادري على وجه الدقة متى بدأت صلتي بالقراءة و كيف ! إلا إنها وثيقة قطعاً، وموغلة في القدم. ككل الصبية كنت أحاول اكتشاف ذاتي والآخر والمحيط، ووجدت في الكلمات عالماً سحرياً يدخلني في فضاءات اشد إثارة و صخباً. ولم استطع منذ ذلك العهد الانفكاك عنها. كانت هناك الكتب المدرسية في البداية، ثم المجلات والكتب التراثية التي تزدحم بها رفوف مكتبة والدي، وقد فتحت لي عالما عجيباً. تعرفت بعدها على كتب المنفلوطي ونجيب محفوظ والعقاد وطه حسين وغيرهم. بعيون هؤلاء رأيت العالم للمرة الأولى. ومع كل كتاب اشعر بأن نافذة في جدار الزمن قد انفتحت بحيث يمكن النظر منها بوضوح اكثر. والدي أخذني بحرص إلى كتب التراث، وبدأت اقرأ لأبن عبد ربه والدميري والمتنبي وأبي تمام، حتى أنني في المرحلة الجامعية، استطعت إن ادرس الأدب العربي على رغم تخصصي في الصحافة بحكم حبي وشغفي بالكتب التراثية. بل وسهلت لي قراءاتي تلك عقد صداقات قوية مع أساتذة كبار تعلمت منهم الكثير مثل الدكتور حسن ظاظا رحمه الله والأستاذ الدكتور يوسف عز الدين وغيرهما. عرفناك كاتباً أكاديمياً وصحافياً ومن ثم قاصاً، فما هو السر وراء ذلك التحول ؟ وما أسباب تلك الفواصل بين نشاطاتك الأكاديمية والإبداعية ؟ - لا اعتقد إن هناك تحولاً من أي نوع، ولم أشعر يوماً بوجود فواصل بين نشاطاتي. اقصد إن كتاباتك الصحافية كانت اسبق، ومن ثم جاءت إصداراتك الأكاديمية. ولم تصدر مجموعاتك القصصية إلا في السنوات الأخيرة. - أنا اتفق معك في هذه الترتيب الزمني، إلا إن نتاجي الإبداعي يعود إلى نهاية السبعينات من القرن الماضي، حينما نشرت العديد من قصصي في بعض الصحف المحلية والمجلات الخليجية. لكن أعمالي العلمية سبقت أعمالي الإبداعية. وجدت في الكلمات عالماً سحرياً يدخلني في فضاءات اشد إثارة و صخباً. بل إنها ذاكرة مستفزة، قلقة، تكتب بعقلانية كلماتها العلمية وترسم بنزق عوالمها الإبداعية. إنها ذاكرة من دون ضوابط، ومن دون قضبان حديدية تحدد آفاقها. دعنا نتحدث عن مناخاتك القصصية... - أعتقد أن جغرافية المكان لها سطوة على نتاجي الروائي والقصصي. ذلك أن المكان ثيمة الانبعاث الإبداعي. المكان باعتباره خزّاناً متفجراً حافلاً بعوامل ثقافية وحضارية ونفسية. هناك الحي القديم، حكايات الجدات، حكايات شهرزاد التي ما زالت تبوح بأسرارها. هجر المدينة الأسطورية القديمة، قرية الاحساء، في شرق السعودية بكل خصوبتها التراثية ما زالت مليئة بالأفكار والحكايات التي لم تكتب بعد. وهذه المناخات خليط من الرموز والأساطير الجميلة، والواقع أيضا إنها الحكاية الشعبية التي يعاود أبناء شهرزاد استكشافها وصياغتها من جديد. ولكنك لا تكتب القصة التراثية بتقنياتها الفنية المعروفة ؟ - بالتأكيد لا. أنا اكتب القصة القصيرة بتقنياتها الحديثة، لست معنيا باجترار الحكايات التراثية. فما أقوم به هو نوع من المزاوجة، أو بالأصح أنا أحاول كتابة الذاكرة الشعبية، ولكن بتقنية بنائية ودلالية معاصرة. في "ولادة فارس قبيلة المطاريد"، وفي مجموعتك الأخرى "اختفاء قدوسة"، نجد ارتداداً إلى الماضي. الزمن يرصد الأحداث في شكلها التام، بينما تختفي الأزمنة المقبلة. فهل ذلك راجع لولع مفاجئ؟ أم مجرّد تركيز على نتاج الذاكرة الشعبية؟ - هذا الأمر في غاية الأهمية، وفي غاية التعقيد أيضاً. كيف يمكن لنا التوفيق بين العالم الخارجي الذي يتحكم فيه الزمان و يخضع للصيرورة والتبدل، وبين العالم الداخلي الذي يتحول فيه تيار التقلب والتغير إلى نظام ووحدات كما يقول جون غراهام؟ أعتقد أن للكاتب علاقة خاصة بالزمن، هي محصلة تماهيه مع جغرافيا المكان. هناك قاص قد يصاب بهزة عنيفة عندما يحس انه يعيش حاضره، ويجفل عندما يدرك إنه يقف على أرضيّة الراهن القابلة للانكسار! قد أكون كذلك، لا أدري. ولكنني أستطيع القول إنني أجد نفسي أحياناً مضطرّاً إلى خلق زمن قصصي خاص بي. هناك لحظات عابرة من الزمن الماضي تستولي علي، فأعاود صياغتها في صيغة المضارع، إلا أن قصصي لا تغرف جميعها من بحر الماضي، كما إنها ليست تاريخاً. ففي "سنة الرحمة" مثلاً، هناك لحظة وعي إبداعية حاولت أن تعيش واقعاً ماضوياً لم يعشه القاص. اللحظة التاريخية ليست خاصة بك وحدك إذاً؟ - بالطبع لا. التاريخ هو جزء من الذاكرة لا يمكن إلغاؤه. تجده عند عبده خال ونجيب محفوظ وعبد العزيز مشري وعبد الرحمن منيف على حد سواء. لا فرق بين مبدع وآخر في ذلك. عالمك القصصي مليء بالجنون واللامعقول، تتلاشى فيه الحدود أحياناً بين الحلم والحقيقة. إلى أي مدى استطعت توظيف الرموز التي تضج بها قصصك في تناول الواقع ؟ - لا أظنني قادراً على الإجابة بدقة. فهذا شأن النقاد وحدهم. ولكن لا أعتقد أننا يجب أن نكتب القصة بواقعية مجردة. في "فارس المطاريد" رموز، وكذلك في "اختفاء قدوسة" الذي رأى فيه بعض القرّاء والنقاد إشارة إلى قضية فلسطين، وقد تميّز بالوضوح الشديد والحضور على مساحة زمنية ممتدة. والصحيح أن كلا القصتين رمزيتان، لكنني لا أميل شخصياً إلى اعطاء تفسيرات رسميّة للعمل الإبداعي. وإذا سلمنا بهذه الفرضيّة، فإن قدوسة ليست سوى القدس، وأن فارس المطاريد هو منقذها... فالمسألة ليست اختياراً قصدياً. و إذا كان لقضية فلسطين كل هذا الوضوح، فيفترض ألا نتناولها إبداعياً بمباشرة مكررة، وإلا تحولت القصة إلى مقالة تاريخية بدلاً من أن تكون عملاً إبداعياً. الرمز مهم في العمل الإبداعي إذاً؟ - بكل تأكيد. إن الرمز، في عدد من القضايا المتناولة إبداعياً شديد الأهميّة، بل لا غنى عنه على الاطلاق. إلا إن تعمد إقحام الرمز أو الإغراق في الرمزية، يهدم الشكل الفني... ويتحوّل الابداع بذلك من عمل ذي نكهة رمزية إلى لعبة من الكلمات المتقاطعة. وهذه في نظري تقنية مرفوضة. دعنا نعود إلى الرواية السعودية، والاشكاليّات التي تواجهها وتطرحها اليوم. كثر الحديث في الثقافة السعوديّة الراهنة عمّا يسمى اليوم ب "غواية الرواية". فإلى أي مدى يمكن القول إن ما نشهده يشكّل تأسيساً حقيقياً لمشروع روائي ضخم ؟ إما اننا لم نتجاوز البدايات ؟ - طبعا هذا سؤال افتراضي. واعتقد أن التجربة الروائية في السعودية مبكرة في شكلها الكلاسيكي على يد عبد القدوس الأنصاري، وحامد دمنهوري، وبعدهما إبراهيم الناصر الحميدان. إلا إن طول المساحة الزمنية إنكفأ ألآن أمام الفورة الروائية الحالية، وقصر التجربة لا يعني عدم ثرائها. بل إن تلك التجارب الحديثة عبرت عن هاجس إبداعي متميز. ويبقى تقطع الانشغال الروائي هو اللافت والمحير على الساحة المحلية. وإذا استثنينا تجربة المشري والحميدان، سنجد حالة من التقطع لم يلامسها العديد من نقادنا. أما الروائيون الجدد، إن صح هذا التعبير، فقد توقفوا بعد الإصدار الثاني أو الثالث. و هذا يعني انهم كتبوا سيرهم الذاتية و لم يكتبو ا رواياتهم. لماذا اتجهت إلى كتابة الرواية ؟ وهل ستكون كما ذكرت سيرة ذاتية لاروائية ؟ - لا أدري. فقد كان السؤال الأكثر الحاحاً عقب صدور مجموعاتي القصصية، هو: "لماذا لا تكتب الرواية طالما إن إرهاصات المشروع الروائي موجودة في عدد من قصصك؟". لقد اكتشف الآخرون، قبلي، أدواتي الفنية الجاهزة لكتابة الرواية، وحاولت المجازفة لاكتشاف ذاتي. هكذا كتبت رواية "الفوارس"، ومسرحها الأحساء، أبطالها الناس العاديون. رغبت في الرجوع إلى الماضي. إعادة تركيب الحي القديم وتفسير الأحداث من رؤية اجتماعية أوسع... رغبت في تشريع الأبواب على مصراعيها. واعتقد إنني حققت شيئاً. لم اكتب سيرتي الذاتية. لكنني كسرت شرنقة القصة للخروج إلى مدارات روائية أرحب. القصة تتدخل فيها اللحظات المزاجية، أما العمل الروائي فهو حالة إبداعية ممتدة تحكمها تقنيات فنية ونفسية حتى النقطة النهائيّة. ولم تكن "الفوارس" سيرة ذاتية. صحيح إنني لم أستعر من الخارج كي أكتب. بل كل مفردات الرواية وأبطالها آتية من الداخل. من داخل الجسد والروح. مفردات ذائبة في تجربة الراوي. والرواية تتحرك في تلك الأجواء "الأحسائية". وبطلها يعيش مرحلة التناقض بين الماضي والعصر، والخوف من الزمن المستقبلي. ولم تكن المهمة سهلة على الإطلاق. فأنا حاولت ألا أكتب سيرتي الذاتية. وذلك لسبب بسيط، إذ لا يوجد في حياتي شيء يمكن كتابته. لا بدّ من مزج الواقع والخيال، ضمن لعبة ذاتيّة وعمليّة ابداعيّة تصويرية مركّبة ومعقدة. لم أهتمّ بتسجيل الأحداث الكبيرة، بل حاولت أن أدخل للتفاصيل الصغيرة ذات العلاقة بجغرافية المكان بين منتصف القرن التاسع عشر والعقد الثاني من القرن العشرين. كنت أحاول في رواية "الفوراس" أن أقدم صورة إنسانية مختلفة بشفافيتها وقلقها وهمومها. ولكن هل استطعت أن أجيب عن كل الاسئلة المطروقة في الرواية ؟ لا أدري. هذا الجواب متروك للقارئ. يرى نقاد أن هذا العصر هو عصر الرواية. فهل هذا صحيح على المستويين العربي والخليجي ؟ - طبعاً هناك فورة روائية على إمتداد المشهد الثقافي العربي. فالإصدارات الروائية أضحت متلاحقة من المنامة إلى طنجة. حتى الشعراء والنقّاد وأهل الصحافة طرقوا باب الرواية في السنوات الأخيرة، من أمثال سالم بن حميش والجابري وغيرهما. وهذا الأنشغال بالفن الروائي، جعل التجربة الروائية العربية أكثر ثراءً وزخماً، تجربة مكتنزة بالمغامرات الإبداعية المتنوعة. وتوحي تلك التجارب بهم إبداعي، وقلق متفرد، في إطار الإنتاج العالمي. ولقد حققت الرواية بالفعل نجاحات ملموسة في هذا الجانب لا يمكن إغفالها أو تجاهلها. وإضافة إلى الانتشار، هناك البصمة التي ربما تخلفها روايتنا العربية على الإنسان العربي ذاته. فالرواية ليست إنعكاساُ للواقع فقط. ولا شك في أن الرواية السعوديّة ستترك أخاديد واضحة في مسيرة الفرد، كما لعبت نظيرتها الغربية يوماً دوراً أساسياً في بلورة علامات مهمّة في مسيرة الفرد الغربي. وليس أدل من تجارب سارتر والبير كامو وكافكا التي لم تشخص واقع الإنسان فقط بل صاغت تطلّعاته المستقبليّة