في معظم ما يكتبه، يبدو بسام حجار مثل شخص يعيش داخل نصه. يحدث هذا في القصائد حيث يكشف عن ذلك بإخفاء أثره قدر الامكان، وإظهار الألم الذي يتركه هذا الأثر. ويحدث كذلك في النصوص المفتوحة على الشعر، والمكتوبة بنبرته المسترسلة. وهذا يعني ان مساحة المعنى في النص قد لا تزيد على المساحة التي يتحرك فيها الشاعر في الحياة. انها ليست سيرة ذاتية لشخص واحد، بل تكاد تكون سيرة لكل ما يلمسه هذا الشخص، لكل ما يؤلمه، لكل ما يبقيه على قيد الحياة، وان كان قليلاً. انها كذلك سيرة لعائلة، هي أكثر ما يمثل المدى الواقعي الذي يمكن ان تذهب اليه الكتابة. ألم نشر الى ضآلة مساحة هذه الكتابة كحيّز حياتي ووجودي؟ أليس الأب والأخت والزوجة والابنة مفردات أساسية فيها؟ ألا يمكن ان نجد عند هؤلاء، الاقامة اللامرئية للشاعر؟ أليس رثاء الأب والأخت أكثر من مرة جزءاً من عرى هذه الاقامة التي لا تنفصم. إن أكثر ما نجده في شعر بسام حجار هو هذا الانتقال الخفيف، إنّما المؤلم، بين عوالم قريبة وداخلية ومغلقة، وهذا ما يفسر، ربما، كثرة المقاطع التي تحدث في المنزل والغرفة والرواق والمطبخ والنافذة... ويفسر، كذلك، بطء العيش بل صعوبته فيها. كل ذلك يبرز العزلة الكثيفة التي ينشئ الشاعر داخلها قصيدته وحياته. العزلة التي يمكنها ان تعيدنا الى حقيقة ان بسام حجار يحيا داخل نصه، وقد يكون ما سوف يحيا من بعده هو النص لنفسه، خصوصاً اذا كان مجبولاً بكل ما يجعل الكائن موجوداً... أي وحيداً ومتألماً ومقبلاً، بلا شهية، على حياة قليلة. العزلة والحب والألم الأرجح ان بسام حجار، حين يعيد نشر ثلاث مجموعات سابقة له ومختارات من مجموعات سابقة، يمنحنا فرصة ان نرى جزءاً واسعاً من عالمه المتوحد الذي سبق لنا ان رأيناه متفرقاً كتاباً تلو كتاب. كأنه يجعلنا نلمس حساسيته ومعجمه ومادته الشعرية، جنباً الى جنب، بحيث نرى المزيج النادر لعبارته ونبرته، والتدرجات التي بالكاد نلحظها في هذه النبرة والانتقالات الاسلوبية المتناهية في الصغر. ذلك لأن ما يكتبه حجار يبدو، أحياناً، كجملة واحدة او كتاب واحد. صحيح ان القارئ يجد تنوعاً ما في الموضوعات، لكن احتلالاً واضحاً وشاسعاً لموضوعات كالعزلة والحب والألم، واستبعاد ضجيج الجموع وهدير الحياة العامة، احتلال كهذا يكاد يطغى على أي مشهد آخر. انه شعر داخلي وجواني، وقلّما نعثر فيه على ما هو مباشر وفوري. ثمة جهد خفي مبذول لجعل مادة القصيدة مصنوعة من الحواس والتجريد والنبرة الايحائيّة، وليس من حمولة اللغة فقط. وهذه ميزة حاسمة في شعر ترقى لغته الى فصاحة وبلاغة قوية. لكن حجار يعرف كيف يجوّف هذه الفصاحة، ويعرف كيف يبقي من البلاغة ظلالها الباردة واستعاراتها الشفيفة. ولا بد أنه يفعل ذلك بالطريقة نفسها التي يحذف فيها الألم من النص ومن الحياة، محتفظاً بمكانه الخفي وأثره المحفور والموجع: "ما لا يقال الا همساً / لا الألم / بل مكانه بعد ان يزول / مكانه الذي له / يبقى موجعاً لشدة ما يزول". ومع ذلك فإن هذه الكتابة، المكتوبة للذات، ولقراء قليلين مفتونين بعزلة تشبه عزلاتهم، وبكلام يقل فيه الحوار مع الآخرين، ليست مستغرقة... بل انها بسيطة وغير مقنّعة، وفيها مقدار لا يستهان به من العدوى رغم ذاتيتها الشديدة والمتقنة. الشغف بعالم واحد ومن النادر ان نجد اضطرابات عنيفة، او تغيرات كبيرة، في نصوص بسام حجار. غالباً ما نجد الشغف بعالم واحد، يروح يتنامى ويتكامل من داخل، ومن نواته وليس من اضافات خارجية. قد نجد ترجيعاً لمادة او موضوع، وتكراراً لإحساس معين كما هو الحال في رثاء الأب الذي يذكر في أكثر من قصيدة... الى درجة تكرار مفردات بعينها ك: غريب، رمل، حكاية، ظل، ألم... الخ. وهي كلمات جعلت الشاعر "كاتباً بمفردات قليلة" كما يقول في المقدمة. وإذا وسّعنا الصورة لسميناه كاتباً لعالم قليل. فالشاعر في إلحاحه على صور ومعان أثيرة لديه، وفي تكراره لمفردات تفتنه وتعذبه، وفي مصاحبته لأمكنة حميمة يبدو كمن يقيم ويحفر في الموضع نفسه. انه لا ينشر نصه، ولا يمدّد عبارته لكي يحافظ على كثافة القصيدة، وعلى الحضور المشعّ للكلمات: "الفضة السائلة/ والضوء ثنية على السرير/ تتجمع في التجويف الدافئ بعد/ لجسد غادر منذ لحظة/ والقطرات تتناثر/ بين طرف الخزانة الداخلي/ وفتحة الباب/ لأن النائم الذي يُعتم رأسُه/ ويخليه العابرون والقاطرات/ خرج الآن/ ولم تجف خطواته على البلاط". في كتابه الاستعادي المركز الثقافي العربي - بيروت، يتيح بسام حجار للقارئ ان يتفحص من جديد نمو تجربته وتشعباتها... مع تركيز على مجموعته الثانية "لأروي كمن يخاف ان يرى". هذه المجموعة التي كرسته بعد باكورته "مشاغل رجل هادئ جداً" واحداً من أهم شعراء حقبة السبعينات، على الرغم من انه غالباً ما كتب ووجد نفسه خارج هذه التصنيفات الزمنية. ولم تتدخل السجالات التي حدثت في تلك الفترة وما تلاها، في تعديل شيء أساسي في تجربته، وفي نظرته الى الشعر والكتابة والنقد عموماً. وإضافة الى ذلك، فنحن لا نجد تحولات دراماتيكية حين ننتقل من مجموعة الى اخرى. كأن بسام حجار، ومنذ بداياته، مهّد الطريق لعالمه الشعري، ثم راح يوسّعه بالتدريج، بدلاً من ان يتركه الى عوالم أخرى مغايرة. وربما يكمن في هذا، جزء من سلوكه الشعري القائم على بحث دائم، ويائس، عن الطمأنينة والدعة بين الكلمات