الكتاب: بضعة أشياء المؤلف: بسام حجّار الناشر: منشورات الجمل - كولونيا 1997 "أعدكِ أن أنام لكنّي، حين أنام، افتقدُ هذا الصمت". حكاية يوسف وهذا شعر يخرج من قلب الصمت، شعر ينبني على تأملات روحية تسرد رؤاها في وحدتها، وتكتب انسجامها مع داخلها، كأنما تبني سداً مع العالم وفي مواجهته لتعود إلى اشيائها الأولى: أشياء الصمت. في "بضعة أشياء" المجموعة الصادرة حديثاً للشاعر اللبناني بسام حجار، يحاول الشاعر الآخر عبر حواره مع نفسه، أي أنه يبتكر ذلك المحاور، يكاتبه ويجالسه، ويقصّ عليه الانهيارات المتتابعة للروح وهي تسعى نحو خلاصها من الشرك الكبير الحياة لتكون في الوقت نفسه في قلب هذه الحياة، ولكن عبر ارتقاءات الروح وهروبها إلى أمكنتها الأكثر أماناً. "عملتُ خادماً لروحي التي أنفقتها في التجوال بين السهو واليقظة أضحكني ما لا يُضحكْ وأبكاني ما لا يُبكي وأهملتُ الوقتَ ينسرب كالرمل بين أصابعي وأحببتُ وأرخيتُ ظلّي الماصل على الأرصفة والطرقات". حكاية يوسف هذا المقطع الشعري من قصيدة "حكاية يوسف" وهي القصيدة الأولى ضمن المجموعة، وتتضمن خاصية شعر بسام حجار في صوغه للمفردات واستعماله لها، كما تتضمن تلك الغنائية الشفيفة، غنائية الروح التي تكتب أشياء الذات ببوح ممتنع محبب، يُماثل فيرسم عبر الصورة والكلمة ذلك الفضاء الغنائي الذي تُنشد الروح معه، وإلى جانب ذلك تتصاعد في وتيرة هندسية مبنية بإحكامٍ يجعلنا نشعر بأن سقوط أي سطر شعري سيؤدي بالقصيدة إلى النقصان وهذا ما لا يحدث عادة مع الكثير مما يُنتج من شعر. وتشكل القصيدة افقاً يمكن من خلاله الولوج إلى عالم وأدوات بسام حجّار في شعره. من هنا، رأيت، ان تناول هذه القصيدة بشكل رئيسي قد يضيء من وجهة نظري على المجموعة، لما يفرضه هذا الترابط النغمي بين قصائد "بضعة أشياء". تتحرك القصيدة ضمن ثلاث شخصيات: "الراوي"، وهذا نلحظ وجوده في جلّ شعر بسام حجّار، ذلك الذي يروي، فنقرأ أفعال روايته في معظم ما كتب الشاعر، ربما لأنه ينبعث في كتابة شعره من "الحكاية" ومن "روايتها"، أو ربما ليطيل من عمر الشاعر فيه عبر "الروي" كما أطالت شهرزاد من عمرها. وقد نلحظ ان الشاعر نفسه يختار أحياناً في عناوين مجموعاته الشعرية ما يدلّ على هذا، مثل "لأروي كمن يخاف أن يرى" أو "حكاية الرجل الذي أحب الكناري"، أو كما في هذه القصيدة من اشارات مثل "وأنه مات لأن الموت حكاية/ والحكايةُ هي ما يبقى/ أو ما يزول/ أو ما يُروى". أما الشخصية الثانية فهي المخاطب، ذلك الذي تبدو ملامحه غائمة غالباً، لكنه المستمع الذي نقرأ نحن من خلال القصيدة، أي بمعنى آخر هو ذلك الجسر الذي يعبر الشاعر بقصيدته من خلاله إلينا. أما الشخصية الثالثة فهي "القرين" أو ذلك الشخص الذي يتلبّس الشاعر لحظة كتابته للقصيدة فيكتب من خلال تماهيه معه، أو تداخل لحظتيهما، وهو هنا "يوسف". "لم يحدِّثني لكنه اعطاني قميصه ولم يمسك يدي لكنه قال إمسح الغبشَ عن عينيّ لأني إن رأيتُ نجوتُ والنجاة أمنيةُ الموتى .......... مُتُّ ولم أنج"! هنا يتخالط الحلم، وتتعدد شخصية الشاعر بين تلبسها للقرين وبين محاكاتها له، أو محاورتهما، يرسم بسام حجّار صوراً متتابعة لتلك العلاقة/ اللحظة بين ما هو حلم وما هو واقع يُغالب الحلم ليخرج إلينا بمقولة: ان الرؤية هي النجاة، وينفي نجاة روحه بموتها، وبالتالي، بعدم القدرة على الرؤية والاستبصار. لكنه في الوقت نفسه يذهب بنا إلى "انه مات لأن الموت حكاية/ والحكايةُ هي ما يبقى/ أو ما يزول/ أو ما يُرى". في هذه القصيدة/ الحكاية، يرسم لنا الشاعر صورة تماثله مع القرين، في الوقت نفسه الذي يلعب لعبة مواراة هذا التماثل من خلال تقويل القرين مثل "لكنه قال"، "قال لا تصِّدق"، "وكان قليل الكلام/ صامتاً كالبئر"، "وكتب سيرتي/ ويريد أن أقول له وداعاً/ وينتظرني". أي أن الشاعر هنا يضع نفسه في مرآتين: مرآة المجالس للقرين، ومن ثم مرآة التماهي في هذا القرين وإحلاله فيه من خلال تعبيرات كثيرة مثل: "وانه دخّن ستين سيكارة في اليوم ولم/ يكتب حرفاً"، أو كما جاء في مستهل القصيدة "اعدُكِ أن أنام" ثم "عرفتُ رجلاً اسمه يوسف/ لا يحبّ النوم". هنا يتلاعب الشاعر بالمرآة فيعكسها عبر تجليات متعددة، تذهب بالراوي إلى مواقع شتى، فنقرأ من خلال التماهي والتحاور لعبة الظلال، ظلال الشخص وقرينه أو ظلال الحلول في هذا القرين. وكما يتلاعب بسام حجّار في انعكاسات الصور، يتلاعب بالمفردات عبر ايقاع نغمي مدروس ومصّفى، ايقاع يبدو وكأن الشاعر شذّب فيه كثيراً، كما شذَّب في روحه وهي تنسحب من الحياة لتحلَّ فيها "فأنا مُتعبٌ وقد خدمتُ روحي ما استطعتُ". وتنبني العمارة الايقاعية للشاعر على معطيين: المفردات في صيغها وفي اختياراتها الرهيفة، والصور في تراتبية حركتها التصاعدية وهي تروي. في اختياراته للمفردات يتعامل بسام حجّار مع تلك الكلمات الأكثر رقة في لغتنا، لا يلجأ إلى مفردات التفخيم الصوتية ولا يكتب برطانة تُستدعى من خارج اللعبة، بل يأخذ من المعجم شفافيته بحيث تصبح القصيدة نسيجاً رقيقاً يشفّ عن الروح التي تأبى الاندراج تحت وطأة التغريب، يوائم بين الكلمة وما تستدعيه من حواس لالتقاطها وهي تتموضع داخل كلمات تُشابهها في بساطتها وشفافيتها، منطلقاً من البسيط والعادي، ومن أسئلة الروح لا من أسئلة ما يحيط بها لدرجة أنه يمكننا أن نقرأ في هذا الشعر ذلك التواطؤ الخفي بين الذات وعزلتها، التواطؤ الذي ينزع بهذه الذات نحو ذلك القرين الصامت: "كان ضامرَ الجسم صامتاً/ كان يحبني/ ويحبّ النزهة في الرواق". في بنائه لنصه، نجد أن بسام حجّار يعتمد على التشكيل البصري بحيث أن القصيدة تبدو كقوام هندسي مدروس، لكنه في الوقت نفسه فالت من صرامة الهندسة. وإلى جانب الهندسة البصرية نتلمس ذلك البناء التصاعدي للمشهد/ الصورة، عبر استعادات لتيمات معينة، أو تراتبية الحدث. شعر يخاطب الداخل في عزلته، كأنما يقول إن الحقيقة الوحيدة هي الوجود المفرد للروح عندما تضيء في عزلتها بعيداً عن صخب الخارج ودماره، حيث تكفي اللمسة لاستدراك وجودنا في هذا العالم "لا أريدُ أن أكون محباً/ ورقيقاً/ فقط أضع يدي على جبينكِ./ ... باردٌ أو/ فاترٌ أو/ محموم ... لا أحبك حباً لا يضاهي/ ولا أشقى لغيابك/ ولا أموتْ .../ فقط أضع يدي على جبينكِ/ لا أعرفَ/ ما الذي فيّ/ ما زال حيّاً". قصيدة "خطأ". بسام حجّار في "بضعة أشياء" كما في مجموعات سبقتها يشتغل في أناة ودونما ضجيج على قصيدة تهرب من النوم "النوم نسيانٌ أعمقُ/ من الموت/ والموت نسيانُ". يشتغل في صمت يشابه صمت القصيدة وهي تتسلل خفية إلى قارئها فتسكنه.