على رغم الاجماع الدولي حول اعتبار انفجارات نيويوركوواشنطن في 11 أيلول سبتمبر الماضي أعمالاً إرهابية، فقد فشلت الولاياتالمتحدة في تحويل هذا الاجماع باتجاه تعريفها الخاص بالإرهاب، وبالتالي المصادقة على اللوائح السنوية التي تصدرها وكالة الاستخبارات المركزية حول منظمات ودول تصفها بالإرهابية. وأخذ المعنيون في هذه الدول والمنظمات على واشنطن نيتها المتعمدة في الخلط بين المقاومة ضد الاحتلال الأجنبي والإرهاب، أو بين الأعمال التي تقوم بها جماعات معينة ضد دول "عنصرية والأعمال الإرهابية". وطالب بعض الذين تتهمهم واشنطن باعتماد الإرهاب لتحقيق غايات سياسية، بتعريف دولي لهذه الظاهرة والعمل على مكافحتها من خلال الأممالمتحدة أو المؤسسات الدولية الأخرى، غير أن أميركا المنشغلة في حرب أفغانستان لم تصغ إلى هذه المطالب، معتبرة أن نقاشاً من هذا النوع ربما يقيد مبادرتها، ويحد من هامش المناورة التي تتمتع بها في الحرب الراهنة، ناهيك عن أن التفجيرات المذكورة والرعب الذي بثته لم تترك حيزاً كبيراً لمثل هذا النقاش. والخلاف على الإرهاب وتعريفه لا ينحصر بين واشنطن وهذه الدول وحدها، وإنما يمتد أيضاً إلى بعض حلفاء الولاياتالمتحدة، خصوصاً الاتحاد الأوروبي الذي لا يُصدر لوائح على غرار اللوائح الأميركية الدورية ولا يقاطع الدول أو كل المنظمات التي ترد في التصنيف الأميركي. والثابت أن الأممالمتحدة حاولت في وقت مبكر التصدي لهذه المشكلة في دورتها رقم 320 التي التأمت في 11 كانون الأول ديسمبر عام 1950، أي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بأربع سنوات. وتبنت في هذه الدورة مشروع قانون يدين "الجرائم ضد السلام والإنسانية" التي ارتكبتها النازية في المانيا والعالم وبصورة خاصة الاحتلال والحروب التخريبية ومختلف أشكال المذابح التي ارتكبها نظام أدولف هتلر. واستند المشروع المذكور إلى أنظمة محكمة نورمبرغ وأحكامها القضائية، وبالتالي صارت الجرائم ضد السلام والإنسانية تقاس على جرائم النازية، وهذا القياس لا يغطي كل ظواهر العنف والحروب التي شهدها النصف الثاني من القرن العشرين، والتي كانت الأممالمتحدة تعالج كلاً منها على حدة. ولعل الطرف الوحيد الذي اعتمد تعريفاً مبسطاً للإرهاب هو "وكالة الاستخبارات المركزية" سي آي اي، ويقول إن العمل الإرهابي هو العمل الذي يعتمده شخص أو مجموعة أشخاص أو دولة، ويستخدم فيه العنف للترويع ونشر الذعر والخوف في بلد آخر أو ضد شخص أو أشخاص أجانب في هذا البلد. ويستثني التعريف الذي ورد في موسوعة "يونفيرساليس" الأعمال التي ارتكبها مواطنو بلد معين في بلدهم أو ضد مواطنيهم والتي يمكن أن تحصر في إطار الجرائم الجنائية العادية، ما يعني أن أميركا تحصر الإرهاب في الأعمال العابرة للأوطان والحدود والدول. سوى أن الاستخبارات المركزية الأميركية لا تلتزم دائماً بهذه القاعدة، فهي توسع أحياناً دائرة التصنيف، إذا ما كان الأمر يتعلق بمصالح أصدقاء وحلفاء لها، كما حصل أخيراً عندما ضمت اللوائح الأميركية حول الإرهاب الحركة الإسلامية الأوزبكية المناهضة للرئيس الأوزبكي إسلام كريموف، ونزولاً عند رغبته، علماً بأن هذه الحركة المغمورة لم يسبق لها أن تعرضت لأجانب كما هي الحال بالنسبة إلى مجموعة أبو سياف الفيليبينية. في المقابل، يستند معارضو التنصيف الأوروبي والأميركي للإرهاب، خصوصاً في العالم العربي، إلى مقولة حق الشعوب في تقرير مصيرها ومقاومة الاحتلال بكل الوسائل المشروعة، وهي مقولة مدرجة في وثائق الأممالمتحدة، فالمقاوم الفلسطيني الذي ينتقل من لبنان أو الأردن أو مصر إلى الأراضي المحتلة للنضال ضد الاحتلال، تعتبره أميركا إرهابياً، لأنه أجنبي يمارس العنف في بلد أجنبي، في حين يعتبره العرب مناضلاً صادرت الصهيونية أرضه ويريد استعادتها. وعندما تدرج الولاياتالمتحدة "حزب الله" في خانة المنظمات الإرهابية، فإنها تستند إلى أعمال طالت أميركيين وأجانب خلال الحرب الأهلية في لبنان، وتفترض أن "حزب الله" مسؤول عنها، فيما يعتبر اللبنانيون "حزب الله" حركة مقاومة للاحتلال الإسرائيلي انتزعت اعترافاً عربياً ودولياً بمشروعية نشاطه. وينطبق الأمر نفسه على منظمات "حماس" و"الجهاد الإسلامي" وتنظيم "فتح" في الضفة الغربية و"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، وكلها منظمات لا يناقش أحد في العالم العربي والإسلامي في شرعية نضالها ضد الاحتلال الإسرائيلي، فيما تعتبرها واشنطن إرهابية. وإذا كانت تفجيرات 11 أيلول الماضي، وقبلها قضية الشرق الأوسط، قد وجهت الأنظار نحو العالم العربي أكثر من غيره من المناطق، فإن العديد من المحللين في الغرب ذهبوا بعيداً في تصوير العرب والمسلمين وكأنهم الطرف الذي اخترع الإرهاب، وبدأ هؤلاء في نبش التاريخ وتوصل بعضهم إلى أن "الاغتيال" أو "القتل" لأسباب سياسية قد بدأ مع فرقة "الحشاشين" المنشقة عن الاسماعيلية في القرن الحادي عشر، واعتمدوا تفسيراً تبسيطياً يقول إن اللغات الأوروبية تتضمن صفة Assassin لوصف القاتل، وان هذا الوصف، أي "الحشاش"، هو عضو الفرقة المذكورة. وإذا كان صحيحاً أن فرقة "الحشاشين" نشرت الذعر والخوف في صفوف الصليبيين وقتلت عدداً من قادتهم اغتيالاً، وإذا كان صحيحاً أيضاً أن الصليبيين تأثروا بهذه الفرقة إلى حد اعتماد اسمها في اللغات الأوروبية، فالصحيح أيضاً أن الإرهاب، خصوصاً في العصر الحديث، ليس قاصراً على المسلمين والعرب، لا بل ان منظرّيه الأوروبيين هم الذين نقلوه إلى العالم العربي والإسلامي مع المعارف السياسية التي انتشرت خلال الفترة الكولونيالية وما بعدها. ناهيك عن أن الاغتيال السياسي والديني قديم قدم البشرية وتشترك فيه كل الحضارات. ولعل العودة إلى الأصل المشترك لهذه الظاهرة ربما يسمح بحصر مسؤولية الأطراف المعنيين بها وبالتالي ازالة الخلط والغموض الذي يرمي إلى حصرها بطرف دون آخر. وانطلاقاً من ذلك، يمكن النظر إلى جمعية "اتحاد الموت" أو "الكف الأسود" التي ظهرت عشية الحرب العالمية الأولى والتي ارسلت أحد أعضائها إلى ساراييفو لاغتيال ولي عهد النمسا فرانسوا فرديناند وزوجته صوفي، ومن ثم اندلاع الحرب العالمية الأولى، ويمكن النظر إلى هذه الفرقة بوصفها جزءاً من التيار القومي السلافي الذي كان يسعى إلى التحرر من الاضطهاد التركي والنمسوي ويلقى دعماً من فرنسا وانكلترا المعادية للامبراطوريات الألمانية والروسية والنمسوية الهنغارية التي خسرت الحرب، ما يعني أن الإرهاب السلافي كان يشكل رأس حربة في استراتيجية مرسومة ومخططة وفق مصالح دولية. وفي السياق نفسه يمكن النظر إلى الأجواء الإرهابية والعنفية التي انتشرت في المانيا عشية الحرب العالمية الثانية ومهدت لسيطرة النازية. وينظر محللون ليبراليون إلى حركات ومنظمات بادر ماينهوف والألوية الحمراء الايطالية والجيش الأحمر الياباني ومنظمة العمل المباشر وغيرها، على أنها جزء لا يتجزأ من لعبة الحرب الباردة بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي، أكثر من كونها منظمات مستقلة بأهدافها ووسائلها. وفي سياق آخر يُشار إلى الاستراتيجية الصهيونية التي كانت متخفية وراء منظمة جابوتنسكي الإرهابية التي تشكلت عام 1937 وأخذت تمارس المجازر والاغتيالات ضد الفلسطينيين وأدت حصيلة أعمالها إلى طرد 600 ألف فلسطيني من أراضيهم، وهو ما كانت تطمح إليه الصهيونية وقد حققته بواسطة الإرهاب. وكل هذه الأمثلة ذات جذور أوروبية وغربية واضحة. ولا يقتصر أمر الإرهاب في أوروبا على الحركات والمنظمات الصغيرة التي تستخدم في إطار استراتيجيات كبرى، فأحياناً كان بعض الدول الأوروبية يتولى بنفسه وعبر أجهزة مخابراته القيام بأعمال إرهابية لتحقيق غايات سياسية سريعة، على غرار ما قامت به فرنسا عندما اختطفت طائرة قادة جبهة التحرير الوطني الجزائري في الأجواء المغربية أو أخيراً عندما قام كوماندوز من المخابرات الخارجية الفرنسية بتدمير باخرة غرينبيس 1985 لأنصار البيئة في نيوزيلندا رداً على معارضة هذه الحركة للتجارب النووية الفرنسية. واذا كانت الاعمال الارهابية في اوروبا قد طبعت القرن التاسع عشر بطابعها، فان النقاد الفرنسيين والاوروبيين يعتقدون ان القرن الثامن عشر شهد انطلاقة اساسية للارهاب بواسطة الثورة الفرنسية التي شهدت ما يعرف حتى اليوم بعصر الترهيب المنسوب الى اليعاقبة حيث كان مارا وهو من قادتهم يدعو الى قتل 100 ألف من انصار النظام القديم لتثبيت النظام الجمهوري الجديد ولعل الثورة نفسها قد الهمت منظرين عالميين للارهاب شأن برودون وباكونين وويتلنغ وغيرهم، وقد اكتسب هؤلاء شهرة واسعة في كل ارجاء العالم وليس في الشرق الاوسط حصراً. والراجح ان الصفات التي اضيفت للارهاب لاحقاً، كالقول بالارهاب الثوري والارهاب البورجوازي والارهاب اليميني او اليساري او المسيحي او الاسلامي انتقلت مع الارهاب نفسه الى صفوف النخب العربية والاسلامية في القرن العشرين. وعلى رغم اختلاف تياراتها فان هذه النخب ارتكزت الى التقاليد الارهابية السائدة في الغرب ولم تستند خصوصاً في جانبها الاسلامي الى مرجعية "الحشاشين" على ما يذكر هذه الايام عند الحديث عن منظمة "القاعدة". فمن المعروف ان هذه الفرقة، ينظر اليها في العالم الاسلامي كفرقة منشقة وتوصف معتقداتها باوصاف لاذعة من طرف الفقهاء السنة والشيعة الاثني عشرية، وبالتالي لا يجوز تقليدها لا في معتقداتها ولا في وسائلها بحسب الفقهاء. والثابت ان الارهاب المعاصر، وبغض النظر عن اصوله ومرجعياته ليس مرشحاً للزوال، ما لم تتفق المرجعيات الدولية على تعريف له، وتصدر وفقاً لهذا التعريف، قوانين وتشريعات لحظره وتحدد من بعد الوسائل الكفيلة بمحاربته، وهذا ما يجمع عليه العرب والمسلمون وربما شعوب ودول كثيرة في العالم وكلها تطالب بحرب دولية على الارهاب استناداً الى تعريف دولي له وبالتالي التمييز بينه وبين حركات التحرر والمقاومة المشروعة