داء الجمرة مرض جرثومي حاد سببه عصيات هوائية دقيقة تنمو بسرعة وسهولة في معظم البيئات المغذية، وعند وجودها في بيئة غنية بالسكر والبروتين كالدم مثلاً، فإنها تنمو وتتكاثر بسرعة البرق وتنفث سماً زعافاً قاتلاً للخلايا. في المقابل، إذا كان الجو المحيط بالجرثومة فقيراً بالعناصر الغذائية، فإنها تنام متقوقعة على نفسها لتشكل ما يعرف بالفص ب"الأبواغ" أي الكرات الصغيرة، وهذه الأخيرة يمكنها أن تظل حية ترزق سنوات طويلة متحدية الظروف الجوية المحيطة بها، من برد وحرارة ورطوبة وجفاف، ويمكن خزن هذه "الأبواغ" ونقلها حتى في أبسط الأشياء كعلب الكبريت والمظاريف. وتمتاز جراثيم الجمرة بأنها خطيرة وعنيفة وقوية، ولهذا اهتم العسكريون بها وعملوا على "تجييشها" لاستعمالها كسلاح بيولوجي في الحروب. والمرة الأولى التي استعمل فيها سلاح الجمرة كانت في الحرب العالمية الأولى. وتكمن خطورة جراثيم الجمرة في سهولة حفظها وانتشارها وسرعة فتكها بالمصابين بها. ففي العام 1993 نشر مكتب التقييم البيولوجي التابع للكونغرس الأميركي ما مفاده أن نثر كيلوغرام واحد من بودرة الجمرة فوق مدينة نيويورك يمكن أن يقود إلى هلاك أكثر من 130 ألف شخص! الحيوانات أولاً الحيوانات آكلة النباتات كالبقر والخيل والماعز والخراف، هي الضحية الأولى لجراثيم الجمرة، لأنها تأكل الأعشاب الملوثة بها. والاصابات الحيوانية منتشرة في افريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية وروسيا وأوروبا الشرقية، في حين تراجعت الاصابات في الدول المتقدمة نتيجة تطبيق سياسة الذبح الجماعي واستعمال اللقاحات. كيف يصاب البشر بالجمرة؟ يصاب الإنسان بداء الجمرة الخبيثة نتيجة احتكاكه المباشر مع الحيوانات المصابة أو جلودها وأشعارها وأوبارها، أو نتيجة استنشاقه الجراثيم أو بعد أكله أطعمة ملوثة بها. وهناك ثلاثة أنواع من الجمرة: الجمرة الجلدية، وتشكل 95 في المئة من الاصابات بالجمرة، وهي تحدث نتيجة التماس مباشر مع مصدر العدوى، فتتغلغل الجرثومة عبر الجلد من خلال جرح بسيط، محدثة ما يشبه اللسعة غير المؤلمة لكنها تترافق مع حكاك وتورم، وخلال يوم أو يومين تتطور إلى حويصلة وسطها ارجواني مائل للسواد، وبعدها تتقرح لتخلف وراءها ما يشبه الفحمة المتنخرة، وتترافق هذه العلامات مع تضخم في العقد اللمفاوية وحمى متوسطة الشدة مع صداع وفتور عام. وتنتهي 20 في المئة من اصابات الجمرة الجلدية بالموت إذا لم يتم العلاج في اللحظة المناسبة. الجمرة الرئوية، وتعتبر من أسوأ أنواع الجمرة وأخطرها. وتتم العدوى بها بالاستنشاق المباشر للجراثيم الممرضة، فتحط رحالها في الرئتين، وبعد 24 ساعة على دخولها يعاني المريض في البداية من لوحة سريرية مشابهة لداء الرشح، ومن ثم لا تلبث أن تظهر الجمرة المعممة التي تتصف بصعوبة التنفس والزراق والتهاب المنصف ونفث الدم. وسرعان ما تحدث الصدمة القاتلة التي تقضي على حياة المريض بسرعة. وأولى الاصابات التي سجلت أخيراً في فلوريدا كانت من النوع الرئوي، وتوفي صاحبها بعد دخوله إلى المستشفى بأيام قليلة. الجمرة الهضمية، وتحدث إثر تناول لحم ملوث غير مطبوخ، ولكي تحصل العدوى لا بد من دخول كمية كبيرة من الجراثيم. ويتصف هذا النوع بوقوع التهاب معوي حاد يترافق مع فقدان الشهية والتقيؤ والغثيان والحمى والآلام البطنية والاسهالات، ويمكن أن تعبر جراثيم الجمرة الأمعاء إلى الدم، مسببة الصدمة الانتانية التي تنتهي بالموت في 25 إلى 60 في المئة من الحالات. يتم تشخيص داء الجمرة بالتحري عن الجرثومة في المرض الجلدي أو في المفرزات التنفسية أو في الدم، أو بمعايرة مضادات الأجسام في الناس المشتبه بإصابتهم. ما هو العلاج؟ تعتبر المضادات الحيوية العلاج الوحيد للجمرة بأنواعها الثلاثة، والمضادات التي تؤثر على جرثومة الجمرة، لحسن الحظ، كثيرة ومتنوعة، نذكر منها البنسلين والستروبتومايسين وسيبروفلوكساسين وغيرها. والمشكلة الرئيسية في العلاج هي أنها طويلة، إذ تحتاج إلى 60 يوماً. وحسب السلطات الأميركية، فإن لديها مخزوناً من المضادات الحيوية يكفي لعلاج مليوني مصاب وعلى مدى شهرين كاملين، لكن السؤال المطروح هو: ماذا لا قدر الله يحصل لو اصيب أكثر من مليوني شخص بالجمرة؟! إن المضادات الحيوية تفعل فعلها عندما تكون السلالات الجرثومية المسببة للجمرة طبيعية. لكن ماذا إذا كانت هناك سلالات مقاومة لا تستجيب للعلاج إطلاقاً؟ لقد عمل العلماء الروس خلال الحرب الباردة على تطوير سلالات جرثومية عنيدة على كل أنواع العقاقير، فتصوروا مدى الكارثة إذا حصل إرهاب بواسطة هذا النوع من الجراثيم التي لا ينفع فيها أي دواء ولا حتى أي... رجاء! هل يوجد لقاح ضد الجمرة؟ نعم، لقد هُيئت لقاحات من أنواع مختلفة من الجراثيم، وكانت نتائج استعمالها على الحيوان جيدة. أما لدى البشر، فاللقاح يقلل من حدوث العدوى بين الأشخاص المعرضين، واستعمل هذا اللقاح على نطاق واسع لتحصين الجنود الأميركيين في حرب تحرير الكويت، ومن العلماء من يشكك بفوائد اللقاح الإنساني لأن فعاليته لا ترتكز إلا على بعض الدراسات التي تمت على القردة. عدا هذا، فاللقاح يتطلب حقنات كثيرة، ومدة وقايته غير معروفة بالضبط، ومنهم من يقول إنها تمتد من سنة إلى سنتين لا أكثر، لذلك فإن التلقيح لم يؤخذ به على نطاق واسع. "سيبرو" ينعش شركة "باير" قبل مدة تعرضت شركة "باير" الألمانية إلى صفعة كبيرة نتيجة سحبها من الأسواق أحد أدويتها الخافض للكوليسترول والذي تحرك وراءه عشرات الضحايا. أما الآن، فالشركة تتنفس الصعداء، بسبب عقار "سيبرو" المستعمل لعلاج داء الجمرة الخبيثة. فقد توافد الأميركيون زرافات ووحدانا على الصيدليات للحصول على هذا العقار، وكانت النتيجة تحقيق قفزة نوعية في زيادة المبيعات التي ارتفعت بنسبة 27 في المئة، وبناء على ذلك ستقوم الشركة بزيادة انتاجها من الدواء بنسبة 25 في المئة بدءاً من الشهر المقبل. ويجدر بالذكر هنا ان العقار المذكور كان حصل في شهر آب اغسطس من العام الماضي على شهادة منظمة الأغذية والأدوية الأميركية التي اعتمدته كعلاج فموي وحيد لداء الجمرة.