يخطئ من يتصور أن احتمال اشتراك اسامة بن لادن في تفجيرات واشنطنونيويورك يوم 11 ايلول سبتمبر هو الدافع الرئيسي للبدء بأفغانستان في الحملة الاميركية الممتدة ضد الدول المارقة أو المشاغبة ومنظمات الإرهاب الدولي، فالأمر يرتبط أساساً باستراتيجية الأمن القومي الاميركي، وتطبيق مفاهيم العولمة الأمنية العسكرية في مناطق المصالح الحيوية للولايات المتحدة في أيلول 1996 على عدد من المصالح الأمنية الأساسية تتدرج في أولوياتها بما يخدم الأمن القومي الاميركي حتى سنة 2015، بدايةً ببقاء الولاياتالمتحدة كقوة عظمى وحيدة في العالم تملك حرية قرارها وتواصل تفوقها التكنولوجي والاقتصادي والثقافي، وتحفظ هيبتها الدولية. أما المصلحة الأمنية الثانية فهي احتواء كل من روسياوالصين، والقوى الاقليمية المارقة وهي كوريا الشمالية وإىران والعراق وكوبا، والدول التي ترعى التطرف مثل سورية وليبيا والسودان، والحرص الكامل على منع قيام تحالف بين الصين الكونفوشوسية وبين الدول الإسلامية ذات القدرة النووية مثل باكستان أو الطاقة النووية الكامنة مثل إيران، أو مع بعض الدول الرئيسية في النظام الاقليمي العربي، وفي مقدمها مصر والسعودية. والمصلحة الأمنية الثالثة هي دعم الأساس الأمني لحلف شمال الأطلسي مع توسيع قاعدته السياسية بضم دول شرق أوروبا، وامتداد مسارح عملياته الى الشرق الأوسط وآسيا الوسطى والقوقاز من خلال علاقات التحالف والتعاون الاستراتيجي العسكري. ويأتي في المرتبة الرابعة أمن المحيط الهادي وشرق آسيا المرتبط جذرياً بأمن جنوب آسيا والمحيط الهندي. والمصلحة الخامسة هي إبرام تسويات سلمية في الشرق الأوسط تستقر مع إعادة رسم الخريطة السياسية للمنطقة، التي تشتعل بالصراعات الاقليمية والدولية وفقاً للتخطيط الاميركي، بينما تتحدد المصلحة الأمنية السادسة بتأمين تدفق البترول من الخليج العربي وبحر قزوين إلى الغرب بالمعدلات والأسعار الملائمة له، وتأمين خطوط المواصلات البحرية العالمية بما يخدم حرية التجارة الدولية بلا قيود، وتدفق الصادرات الاميركية والأوروبية وفي مقدمها السلاح، الى الدول العربية، ودول جنوب آسيا. ومن بين الاستراتيجيات المباشرة لتحقيق هذه المصالح الأمنية الحفاظ على الدور الرئيسي في توجيه التجارة الدولية، والنمو الصناعي، والسيطرة على مصادر الطاقة، واستمرار التفوق التكنولوجي، ثم الوجود البحري المستمر في بحار العالم، وكسب المزيد من القواعد والتسهيلات الجوية والبحرية والبرية ومناطق الارتكاز قرب مناطق المصالح الحيوية للولايات المتحدة. ومنذ بدأ التحول إلى نظام دولي جديد في أواخر ثمانينات القرن الماضي، توسعت الولاياتالمتحدة في تكوين التحالفات متعددة الجنسية تحت قيادتها من دون التزام العمل تحت راية الأممالمتحدة، وفي إبرام الاتفاقات العسكرية للأمن الجماعي أو الدفاع الاقليمي أو الثنائي، وخصوصاً مع الدول الحاكمة أو المحورية Pivot States في العالم الثالث. الأمر إذاً يتلخص في ذلك التصميم الاميركي الحالي على "استراتيجية الحلف" الذي يجمع بين الدول ذات المصالح الأمنية المشتركة، بحيث تقوم كل دولة منها بدور محدد سياسياً واقتصادياً وعسكرياً طبقاً لقدراتها الشاملة والمؤثرة، ولموقعها وقربها أو بعدها من بؤر الأزمات، خصوصاً الساخنة منها. فإذا تدبرنا هذه الأبعاد الاستراتيجية والسياسية أمكننا أن نفهم انتهاز الولاياتالمتحدة الفرصة الرائعة التي تهيأت لبناء وجود عسكري اميركي فعال في شبه القارة الهندية وآسيا الوسطى الإسلامية، ولتعزيز وجودها في الخليج العربي، والتخطيط للامتداد الفعلي في جنوب شرقي آسيا. ويمكن أن ىُوظف هذا الوجود العسكري متكاملاً مع الهيمنة الاقتصادية الاميركية لتعزيز النفوذ الاميركي في الشرق الأوسط الكبير الممتد من المغرب العربي إلى آسيا الوسطى والهند والقوقاز، وللإسراع بإنشاء نظام أمن اقليمي في الشرق الأدنى توجهه واشنطن وتنسق التعاون معه في ادارة الصراعات الدولية والاقليمية. وأتاحت تفجيرات نيويوركوواشنطن للولايات المتحدة الحركة السريعة لإعادة علاقات التحالف العسكري والسياسي مع باكستان، ومحاولة تحييد ايران مرحلياً، ومنع قيام تحالف أو تعاون استراتيجي عسكري وثيق بين الصين وباكستان وايران، وهو الذي تسعى إليه بكين بإصرار في العامين الأخيرين. كذلك اتاحت التفجيرات، واتهام تنظيم "القاعدة" بالتورط فيها ضمن متآمرين آخرين بالقطع، أن تجد الولاياتالمتحدة منافذ سريعة لها إلى عدد من دول آسيا الوسطى الإسلامية التي تريد اسقاط حكومة "طالبان" في افغانستان وتخشى امتداد التطرف إلى مجتمعاتها، مما يتيح لواشنطن أن تنافس موسكو في العلاقات الدفاعية والاقتصادية بهذه الدول. وبالدرجة نفسها من الأهمية تفاهمت واشنطن ونيودلهي على وضع القواعد العسكرية الهندية تحت تصرف الولاياتالمتحدة بغير أدنى قيود، واستفادت الهند اقتصاديا - شأن باكستان - برفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من جانب الولاياتالمتحدة منذ تفجيرات 1998 النووية التجريبية، كما أفاد الاميركان باعتراضهم العملي لمسار التقارب الدفاعي بين روسياوالهند ولو بصورة موقتة، وبمطالبة إسلام اباد ونيودلهي معاً بدور اميركي فعال في مشكلة كشمير. ولا جدال في أن الوجود العسكري والنفوذ السياسي الاميركيين في آسيا الوسطى والخليج، إلى جانب اقامة نظام حليف لواشنطن في افغانستان، تمثل ضغطاً خطيراً على جمهورية ايران الاسلامية، سينعكس على تأمين المصالح الحيوية الأمنية والاقتصادية، خصوصاً في ما يتصل بالبترول والغاز الطبيعي، وأساليب نقلهما وتصديرهما، في منطقتي الخليج العربي وبحر قزوين. ومن جهة أخرى نجحت الولاياتالمتحدة في ضغوطها على بعض الدول العربية، وعدد من دول أوروبا الغربية، لتأجيل مطالبتها الحالية بعقد المؤتمر الدولي لمكافحة الارهاب وإبرام معاهدة دولية في نطاقه تحدد صور الارهاب وكيفية القضاء على أنشطته، بحيث يطرح الأمر على دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة في سنة 2002. وضربت واشنطن عرض الحائط بتحذيرات الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان بعدم التصرف منفردة في حملتها العسكرية ضد افغانستان ودول أخرى عربية وإسلامية، وبالتوقف عن تشكيل تحالف متعدد الجنسية تقوده واشنطن من دون انتظار تشكيل ائتلاف دولي في اطار الأممالمتحدة يلتزم بميثاقها ويستند الى الشرعية الدولية، ويعمل وفق قرارات واضحة من مجلس الأمن. وتمضي الولاياتالمتحدة في تشكيل التحالف متعدد الجنسية تحت قيادتها، وتوسيع قاعدته، على رغم مخاطر تقسيم العالم الى تكتلات متصارعة، واشعال الصراع الديني في مناطق عدة في الشرق الأوسط ووسط آسيا وجنوبها، وتصر على ضم عدد من الدول العربية والاسلامية الى هذا التحالف، بل واشتراك عناصر من قواتها الخاصة في العمليات البرية المخططة ضد حكومة "طالبان" وعناصر تنظيم "القاعدة" في افغانستان، خصوصاً في اعمال قتال الإبرار الجوي والاقتحام الجوي الرأسي التي ينتظر أن تنطلق بصورة اساسية بالاستناد الى القواعد الباكستانية، وكذا العمليات السرية التي تديرها عناصر الاستخبارات الحربية والاستطلاع في عمق الأراضي الافغانية. * مستشار المركز القومي المصري لدراسات الشرق الأوسط، أستاذ زائر في أكاديمية ناصر العسكرية العليا.