الرغبة الإيرانية - الأميركية المتبادلة في قيام حوار مباشر بين الطرفين لم تفرضها التحولات التي تشهدها الجمهورية الإسلامية منذ وصول السيد محمد خاتمي إلى سدة الرئاسة فحسب، بقدر ما فرضها فشل تجربة طويلة من "الحرب الباردة" بين الطرفين، وبقدر ما فرضتها عوامل إقليمية كثيرة، من آسيا الوسطى إلى الشرق الأوسط مروراً بالخليج. فالمناخ السياسي السائد في إيران اليوم يكاد يشبه المناخ الذي سادها يوم خلف هاشمي رفسنجاني المرشد الحالي للثورة علي خامنئي في رئاسة الجمهورية. كانت الحال تنبئ بما يمكن تسميته إنقلاباً في السياسة الخارجية دولياً وإقليمياً، لكن الانقلاب لم تكن ظروفه اختمرت بعد. وعلى رغم أن الولاياتالمتحدة لا تزال ترفع الشروط نفسها لإطلاق هذا الحوار المؤجل، ومثلها تفعل إيران، فأن القطيعة بين الطرفين والمواجهات التي خاضاها طوال عقدين انتهت إلى حقائق وثوابت لا يمكن أحدهما تجاهلها: أثبتت الولاياتالمتحدة أنها لا يمكن أن تسمح لأي طرف دولي أو إقليمي بمحاولة السيطرة على ممرات النفط، وتعاملت مع أي محاولة، خلال حربي الخليج، على أساس أنها اعتداء على مصالحها الحيوية. لكن تجربة الترتيبات الأمنية التي أقامتها خصوصاً بعد تحرير الكويت، من اتفاقات دفاعية مع بعض دول المنطقة إلى الوجود العسكري والقواعد البرية والبحرية، لم ترسخ الأمن والاستقرار ولم تلغِ التهديدات لا من جانب إيران ولا من جانب العراق. لذلك لا مفر من نظام أمني شامل تشارك فيه كل دول المنطقة. ولم تنظر الولاياتالمتحدة بجدية، منذ تحرير الكويت وإطلاق مسيرة التسوية في الشرق الأوسط، إلى أن الأمن في المنطقة كلها وحدة لا تتجزأ، أي أن السلام العربي - الإسرائيلي جزء من مصالحها الحيوية في الخليج. وتوهمت أن في مقدور تركيا وحدها إدارة الأزمة في كردستان العراق. وأن في مقدور باكستان إدارة الصراع والحل في أفغانستان، وأن في مقدور دول آسيا الوسطى أن تدير شؤون نفطها من دون أي دور لطهران. وظنت أنها تستطيع جر أوروبا إلى تطبيق قوانين "أميركية" تنص على مقاطعة اقتصادية لإيران، متجاهلة أن ممارسة مزيد من الضغط على هذا البلد في منطقة محمومة بالصراعات قد يعرضه للإنفجار أو يدفعه إلى ممارسة العنف والعدوان للرد على ما يتعرض له. في حين أن وحدته هدف مثلما وحدة العراق هدف مماثل. ولم يكن مصير "الاحتواء المزدوج" أفضل حالاً حتى الآن من مصير "قانون داماتو". وتجاهلت الولاياتالمتحدة أن السياسة المدمرة للحكومة الإسرائيلية وما تلاها من محاولات لعزل سورية وتطويقها بتحالف مع تركيا، ومحاولة اختراق دول الخليج بتطبيع مجاني، أثارت مخاوف العرب، مثلما أثارهم تشدد واشنطن واستقواؤها على بعض الدول العربية. ودفعتهم إلى البحث عن حد أدنى من التضامن في ما بينهم وإلى حد أدنى من التفاهم مع جيرانهم. وبقدر ما كان المؤتمر الاقتصادي في الدوحة نكسة للإدارة الأميركية كانت القمة الإسلامية في طهران مكسباً لحكومتها الجديدة ولكثير من الدول العربية. ولم يكن مصير السياسات الإيرانية السابقة أفضل حالاً من التجارب الأميركية، فالجمهورية الإسلامية لم تفلح في سعيها إلى إرضاء نزوة تاريخية للسيطرة ومد النفوذ، تارة تحت شعار "تصدير الثورة" وتارة تحت شعار "نصرة المستضعفين" في لبنان وفلسطين وغيرهما. وبدأ ميدان هذه "اللعبة" يضيق وإن تحققت اختراقات هنا وهناك. وتنحو حكومتها الحالية منحى آخر في بناء علاقات مع الدول والحكومات وليس مع الحركات والأحزاب. وهي عندما تعلن تفهمها للمبررات التي تجعل أهل الخليج يستعينون بالقوى الأجنبية للحفاظ على إمدادات النفط، تعترف صراحة بأن لا مجال لنظام أمني إقليمي يتجاهل المصالح الحيوية للغرب والولاياتالمتحدة ودورهما في المنطقة، وأن لا بد من تضييق شقة التناقض بين منظورها ومنظور جيرانها لهذا النظام. وأدركت الجمهورية الإسلامية أيضاً أن كسبها أوروبا في المواجهة مع "الاستكبار" لا يحقق طموحها وطموح غيرها إلى رؤية الاتحاد الأوروبي عامل توازن مع الولاياتالمتحدة. مثلما أدركت أن التلويح لجيرانها بالقوة وباعتماد خطة واسعة للتسلح لم يقربهم منها بقدر ما جعلهم أكثر تمسكاً بالأمن الوافد ودفعهم إلى مجاراتها في خطط التسلح. وما لم تعترف بأن المشاكل في المنطقة لها بعدها الإقليمي بين أهل المنطقة قبل أن تكون لها عواملها الدولية لن يقوم تطبيع سليم بينها وبين الخليجيين والعرب الآخرين. إن تحريك عملية السلام في الشرق الأوسط، وبناء استقرار حقيقي في الخليج ووقف الصراع في أفغانستان وتداعياته المؤجلة في آسيا الوسطى، لا تحلها سياسات ضيقة الأفق ولا سباق تسلح مدمر. وأمن النفط في الخليج وحل قضية العراق وترتيب أوضاع آسيا الوسطى لا توفرها نظم أمنية أحادية الطرف... يبقى أن نجاح الحوار المطلوب بين أميركا وإيران ليس رهن الاعتراف بهذه الحقائق وحدها. إنه رهن النتيجة النهائية للتحولات الداخلية في الجمهورية الإسلامية، مثلما هو رهن عناصر أقليمية أخرى ليست إسرائيل أولها ولا تركيا آخرها.