انه الخريف الباريسي الجميل. يودعك مشتاقاً الى اللقاء، الخريف المقبل، اذا ما أطال الله عمرك. تحت لذيذ المطر يودعك الخريف الختيار، فارشاً لكحل عينيك وعلى شرف قدميك سجادته الذهب كي تتمشى عليها وتتوقف عن الهرولة والتفتيش عن شغل، وتتسلى بالحبر الأزرق على الورق الأصفر أيقونات. وتقف، في الآخر، أو تجلس، كما تحب: مرتاحاً وعظيماً وحزيناً كتمثال، تحت الشجر والبرد والشوب، والانتظار، والمطر. والخريف، يخبرك، أنه ابن الصيف وأن جده الربيع. وانها حال الدنيا. وأن الشتاء، يضيف الى معلوماتك، على الأبواب. وإن الصيف بعيد كالوطن والأهل على الشبابيك. وانها، هنا، "تمطر في الشارع وفي القلب" كما تغني الأغنية الفرنسية. حتى لتكاد تمطر هنا في شهر بقدر ما تمطر على الأهل في دهر. وعليه، يصلي الغرب كي تطلع الشمس. ويصلي العرب كي ينزل المطر. وعليه، مرة ثانية، يصير معك انفصام. فتضيع ولا تعود تعرف إذا ما كنت أمسيت هنا أو غدوت هناك، تحت رذاذ المطر. تهوّنها على حالك وتردد مع الشاعر المهجري: "جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت" ولكن الانفصام الخريفي على الشتوي لا يريح لك البال أيها الضجران كتمثال. بسبب هاجس المطر. بحيث، مثلاً، يصف الفرنسويون الشعراء حزنهم بالتنهد: "مثلما المطر فوق مقبرة". ويصف، مثلاً آخر، الشاعر العربي الملقب بصريع الغواني وصيته بالبوح: "فرشوا على قبري من الماء واندبوا قتيل نساء لا قتيل حروب". أنشودة المطر إنها حال الدنيا - كنا قلنا، ولكنك لا تستطيع تصوير المطر. فقد تبتل العدسة والصورة والمجلة، كما تبتل العيون التي في طرفها حور. فتنتظر بعض الصحو كي تسرق بعض الصور، قبل ان تعود فتمطر فوق النهر والغابة والبحيرة والأرصفة والعصافير، والكلام، وفوق "أنشودة المطر". وان السياب، لو كان مهاجراً هنا، لجعل من أنشودته معلقة وأبقى على ذات مطلعها: "عيناك غابتا نخيل ساعة السحر". بعض الصحو كي تسرق بعض الصور - أو هذه الثرثرة فوق هذا "السين" يسعفك كي تكمل هذا التحقيق الهجين الضائع والكيفما كان: من الصفصاف الباكي الشاهق ذهباً الى غياب الشمس خلف نخيل السياب المهاجر، مروراً بجميل أحزان التماثيل... ... فهذه الأخيرة لها حكايتها ايضاً: إنها، في مدينة رودان الذي، خارج متحفه، له منحوتة واحدة في باريس للروائي بلزاك. وباريس كأنها مزرعة تماثيل. وفي كل موسم يفرخ موسم جديد اذا ما جاز موسم الكلام. مسلة نابوليون غير ان أشهر نصبين باريسيين، اذا ما استثنينا قوس النصر المضرج بالتماثيل، وباقي البوابات، فهما: برج ايفل الذي يذكرك شجناً بأغنية "حن الحديد على حاله وأنت ما حنيت"، والذي احتفل بعيد ميلاده المئة قبل سنوات. ومسلة الكونكورد، الفرعونية، ذات آلاف السنين، التي "استحلاها" نابوليون من الأقصر في مصر إبان حملة بونابارت المشهورة، لتزرع في قلب الساحة الباريسية الأجمل قبل نحو ثلاثة أربعة أجيال، في العام 1836. وبين هلالي النصبين الدهريين أعلاه، تكاد تغص باريس بالنُصب والتماثيل وشتى الاشكال الجمالية الحديثة التي أخذت تجتاحها منذ ما قبل عصر النهضة. بيد أن أطرف تماثيل باريس، هو الواقف تذكارياً عند أحد جسور السين، وسنبدأ حكايته من نيويورك. كيف كان ذلك؟ لقد كان ذلك في العام 1886، عندما أهدت فرنسا الحرية تمثال "الحرية لإشعاع العالم" - هذا اسمه للاميركيين، كي يقف في مطلع نيويورك والمحيط الاطلسي. هذا التمثال، الذي صممه الفرنسي أوغوست بارتولدي في ذلك الزمن، يبدو انه شاخ باكراً، ليتهدده السقوط، فما كان من الفرنسي الآخر، غوستاف ايفل، صانع البرج الذي يحمل اسمه، الا ان يقوم بانقاذ تمثال الحرية الاميركي داعماً اياه ومرمماً بجميع معرفته الهندسية والمعدنية حتى يظل شامخاً. بينما الجالية الباريسية في نيويورك التي اخذها الحنين بعد غياب وتعتعتها النوستالجيا، فما كان منها إلا ان عادت فأهدت مدينتها الأم تمثالاً طبق الأصل ومصغراً نسبياً عن تمثال الحرية، ليقف متذكراً بعد مئة عام تماماً، 1986، عند الجسر المطل على النهر المطل على الأهل. مثل زين الشباب و... من الأول، ينتهي الخريف الباريسي الجميل مودعاً شاحباً حزيناً مثلما "زين الشباب أبو فراس"، ليبدأ الشتاء ويتواصل من وصال المطر، والزمان حنون مثل كمنجة. وتحت كمنجة المطر، تتبعثر سبحة التماثيل في كل حديقة وجادة وساحة ومفرق، واينما "تلفت القلب". ولكن هذه التماثيل، وفي هم "تصويري" آخر وأصعب من تصوير المطر، معظمها عار. والرقابة الذاتية تقض مضجع العين والدمع والمخدة. تماثيل متعانقة ومدثرة بعري بعضها البعض، كما تقريباً: "وبكى بعض على بعض معي". وتماثيل أخيرة لتكريم أصحابها العظماء مبدئياً، ولكنها كأنها "مقاصصة" بالوقوف والانتظار والضجر تحت الشجر والبرد والشوب والمطر، وبقايا الحمام