"لماذا ترفض الثقافة العربية، من دون غيرها من الثقافات العالمية، التعامل مع آدابها العامية برحابة صدر وموضوعية؟ وإذا كانت جميع الأمم تستطيع التعايش مع مستويات لغوية وأدبية عدة، فلماذا يرى بعضهم اننا، نحن بالذات، عاجزون عن ذلك؟". ينطلق سعد العبدالله الصويان من هذين السؤالين الحاسمين، ليضع كتابه الجديد "الشعر النبطي، ذائقة الشعب وسلطة النص". وهذا الكتاب المرجعي الصادر عن "دار الساقي" في لندن وبيروت، يمكن اعتباره أوفى دراسة وضعت حتى الآن، بالعربية، عن هذا الشعر الذي بدأ خلال العقدين الاخيرين يتجاوز اطار محليته الضيقة في شبه الجزيرة العربية، ليصبح معروفاً على نطاق لا بأس به في انحاء عدّة من العالم العربي. والفضل في ذلك يعود الى ثلاثة عناصر أساسية: أولها انتشار الغناء المحلي الذي سهّل التقاط المحلية السعودية، بما فيها اللهجة النبطية وشعرها، وثانيها اهتمام العديد من كبار الشعراء والفنانين بهذا الشعر وكتابته، ومن بينهم أمراء وأعيان، وثالثها وأهمها انتشار الثقافة السعودية والخليجية عموماً، كفعل مفاجئ خلال السنوات الأخيرة، عن طريق انتشار الشعر والنقد والرواية والكتابات السعودية بشكل عام. وسعد العبدالله الصويان من الباحثين السعوديين الذين عرفوا في العالم العربي على نطاق واسع خلال العقدين الاخيرين، من خلال اهتمامه بالمأثور الشعبي، ومن ضمنه الشعر النبطي، وهو حاضر في ذلك المأثور، وكتب حوله ودافع عنه طويلاً. وكتابه الجديد يأتي تتويجاً لمسيرة طويلة، ويمكن اعتباره ذروة في ذلك الدفاع، وينم عن أسلوب تأريخي واع، يربط المنتج الثقافي بإطاراته التاريخية، ويميل الى اضاءة الانتاج الفردي، في ضوء الذائقة الشعبية. وفي هذا الاطار الاخير يمكن اعتبار الكتاب عملاً ريادياً حقيقياً. منذ البداية يقر الصويان بصعوبة العمل وريادته، وهو اذ يخص بالشكر الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز على "رعايته الكريمة لهذا العمل"، يوضح منذ البداية ان هذا العمل الرائد، كان - ككل عمل رائد - في حاجة الى رعاية. ولعل قراءة مدققة لمقدمة الكتاب تكفي لتفسير سبب هذه الحاجة: فالشرخ كان على الدوام قائماً بين المأثور الشعبي، وعالم الدراسة الجادة، من هنا القناعة التي سادت طويلاً، بأن كل محاولة جادة للخوض في هذا النوع الابداعي، لا مفرّ من أن تواجه مصاعب في الاحاطة بمختلف روافده وسماته، تفسيراً ونقداً وتحليلاً وتأريخاً. لكن الصويان، على عادته، قرر ان يخوض في الصعاب وان يردم الهوة، وحسناً فعل. لأن النتيجة لن تتوقف، بالتأكيد، عند الشعر النبطي، بل ستشجع باحثين جادين، ومدققين آخرين، على خوض غمار مجالات متشابهة، ما يعود بالفائدة على عالم المأثور الشعبي، وعالم الدراسة الأكاديمية والجادة. يتوقف الكتاب تاريخياً عند بداية "عصور العامية" متتبعاً بدقة وحذق فرضية تقول إن "الشعر الجاهلي والشعر النبطي هما البداية والنهاية لموروث شعري مستمر عبر التاريخ"، وينتقل إلى أبواب "المسمى والنشأة" و"اللغة" و"العروض" و"التدوين"، وصولاً الى تقديم "اقدم النماذج الشعرية - عبر دراسة بني هلال والشعر النبطي، ثم انتاج ابي حمزة العامري الذي لا نجد في قصائده ما يشير بشكل قاطع وواضح الى زمنه او يحدد موطنه او قبيلته، او يلقي اي ضوء على شخصيته التي نجهلها تماماً". لكن هذا الجهل لا يمنع الصويان من التوقف عند أبي حمزة هذا، ورواية بعض الحكايات الأسطورية المتناقلة عنه، بوصفها تخص احد مؤسسي الشعر النبطي حتى قبل مرحلة ابن خلدون. وبعد هذا التوقف، ينتقل الصويان في فصول تالية الى "الحقبة الجبرية" حيث يربط قيامها بظهور عدد من ابرز شعرائها ابن زيد، جعيثن اليزيدي وعامر السمين، ثم فطن بن فطن وبركات الشريف وفيصل الجميلي وغيرهم، وصولاً الى الحقبة الغريرية حيث يدرس شعراء أمراء آل غرير وشعراء دولتهم والنداني وأبو عنقاد وآخرين، ثم شعراء سدير وابن بسام، قبل ان يتوقف عند حميدان الشويعر. والشويعر، الذي يبدو أنه الأشهر حتى اليوم في تاريخ هذا الشعر، كانت قصائده ذات طابع تهكمي ساخر. وقد اوصل هذا النوع الى القمة، "كما طوّر أسلوب النقد السياسي والاجتماعي الذي بدأه جبرين بن سيار ...". ويلفت الصويان الى ان تهكمية حميدان لم تكن توفر احداً، حيث انّه "من المعروف ان القليل من أعيان مناطق الوشم وسدير نجوا من لسان حميدان اللاذع ونقده الجارح". ويضيق المجال هنا أمام الخوض في مختلف اضافات هذا الكتاب، وحواشيه وأخباره وتحليلاته، لكن ما ينبغي قوله هو ان قراءة هذا العرض التاريخي الأنيق الذي يقدمه الكتاب لمسار الشعر النبطي، يمكن اعتباره في الوقت نفسه، وفي ضوء أسلوب الصويان في التأريخ وهو أسلوب قريب من المنهج الذي تتبعه مدرسة "الحوليات الفرنسية"، في دراسة التفاصيل وتأثيرها في حياة الشعوب والأمم، اضاءة لجانب غير معروف تماماً من تاريخ مناطق الجزيرة التي أنجبت هذا الشعر. إن تحدر الشعر النبطي من الفصيح وتعبيره عن روح شعب وتقاليده وتقلبات حياته، يجعلان قراءة كتاب "الشعر النبطي، ذائقة الشعب وسلطة النص"، تشبه قراءة رواية تاريخية. وهنا، ربّما، تكمن واحدة من مميزاته الأساسية، إضافة طبعاً إلى ميزة أساسيّة أخرى، هي تعامل الباحث مع هذا النتاج الابداعي، بصفته رافداً طبيعيّاً وأساسيّاً من روافد الأدب المكتوب، والشعر الفصيح. بل يذهب الصويان، بعد ردّ الشعر الشعبي إلى أصوله الفصحى، إلى اعتبار النبطي منه الوريث الشرعي لتاريخ الشعر في مختلف مناطق الجزيرة. كل ذلك يجعل من كتاب الصويان عملاً رائداً، يمكن للمرء ان يشعر بعد الفراغ من قراءته بالحاجة إلى المتابعة، وصولاً إلى المراحل التاريخية للاحداث، وتفسيراً للطفرة التي يعرفها هذا الشعر في أيامنا هذه. ولعلّها طفرة تتجاوز، كما قلنا، حدود بيئته التاريخية، لتجعل منه شعراً قابلاً لأن يُفهم ويُتابع ويتطوّر؟، في مناطق كثيرة أخرى من العالم العربي