من أبرز مظاهر أحادية القوة العظمى التي تشكلها الولاياتالمتحدة ترابط مصالحها ومن ثم اهتماماتها بتفاصيل ما يدور في بقاع العالم وقاراته الخمس. ومن أهم مكاسب موقع القوة العظمى هو إمكانية تجميع مسائل وقضايا متعددة وربطها ببعضها بشكل يُمكن من حصر أهداف متعددة في محاولة تدخل مترابطة، وهي عملية تعرف ب"وفورات الحجم الخارجية" التي تؤهل لمضاعفة قوة الذاتية وإضعاف الخصوم المنقسمين. وينطبق هذا على سبل أوجه السياسة الخارجية الأميركية، خصوصاً على جولة الرئيس بيل كلينتون الأفريقية. وبالفعل فإن آخر زيارة للرئيس الأميركي لأفريقيا حملت في طياتها، على رغم قصر مدتها ثلاثة أيام لزيارة ثلاثة بلدان، مجموعة هائلة من المسائل المتشابكة والمتداخلة بشكل يتجاوز، ومن بعيد، البعد الأقليمي للبلدان التي تشملها الزيارة وهي تنزانياونيجيريا ومحطة قصيرة في مصر في طريق عودة الرئيس إلى واشنطن. ولكن خيار الدول وتوقيت هذه الزيارة لهما أهمية كثيرة تشمل قضايا قد تبدو متباعدة جغرافياً وسياسياً، غير أنها مترابطة بشكل وثيق. وإذا ألقينا نظرة على خارطة أفريقيا فإن تنزانيا لها حدود مشتركة مع الكونغو حيث تدور حرب استنزاف يتدخل فيها العديد من حلفاء واشنطن المباشرين أوغندا وبورندي وحيث تستعد الأممالمتحدة لإرسال قوة دولية إلى منطقة كيسنغاني الغنية بالماس، بعد موافقة رئيس جمهورية الكونغو لوران ديزيه كابيلا وحلفائه زمبابوي وتنزانيا وأنغولا. ولكن هذه المنطقة تشكل أيضاً "حديقة خلفية لجنوب السودان" كما قال أحد الديبلوماسيين الأوروبيين. ويتحدث كثيرون عن مبادرة واشنطن "لمعالجة" المشكلة السودانية. أما نيجيريا فتلعب دوراً كبيراً في منطقة ماسية أيضاً تلتهمها حرب أهلية شرسة وهي سييراليون. وتشكل القوة النيجيرية القسم الأكبر من قوة "حفظ السلام" التابعة للأمم المتحدة خمسة آلاف من أصل 7500 جندي التي هزمت في الصيف الماضي، بمساعدة حاسمة من قوة كومندوس بريطانية، المتمردين، من دون أن تسيطر كلياً على المناطق الشمالية الغنية بمناجم الماس. وإضافة إلى ذلك فإن نيجيريا هي منتج ومصدر للنفط تحتل المركز السادس في العالم وتشكل صادراتها إلى الولاياتالمتحدة 8 في المئة من النفط الذي تستورده السوق الأميركية. ولكن على رغم ذلك فهي مثقلة بعجز دائم في موازنتها، وتصل ديونها الخارجية إلى ما يعادل 28 مليار دولار، وتلتهم خدمة الدين 75 في المئة من مدخولها من النفط، لكنها تبقى مع ذلك أكبر دول القارة الأفريقية من حيث عدد السكان، وسوقاً عملاقة وغنية لولا الفساد المتفشي على كل الأصعدة. ولكن، حسب مقربين من الوفد الأميركي الكبير الذي رافق كلينتون، فإن الولاياتالمتحدة بعدما وقفت ضد النظام العسكري السابق ترغب في اعتماد سياسة تقرّب من نيجيريا العائدة حديثاً الى حلقة الديموقراطية والانتخابات بعد 15 سنة من حكم الجيش. وسبق لواشنطن ان قدمت مساعدة لنيجيريا تبلغ 108 ملايين دولار وارسلت اكثر من 200 جندي وضابط اميركي لتدريب القوات النيجيرية على عمليات حفظ السلام. ويتحدث بعضهم عن رغبة اميركا بإعطاء نيجيريا دوراً كبيراً في عمليات حفظ السلام التي يمكن للأمم المتحدة إطلاقها في القارة الأفريقية. ولكن هل يصل الأمر إلى حد جعل العملاق الأفريقي "شرطي أفريقيا السوداء"؟ لا يمكن الإجابة في الوقت الراهن على هذا السؤال الذي تطرحة الأوساط الأفريقية والأوروبية المتعاملة مع القارة السوداء. غير أن الأوساط تشير إلى أن السياسة التي أسس ومهد لها وارين كريستوفر وزير الخارجية الأميركي السابق، عبر إقامة نوع من الدرع المتحرك في وسط أفريقيا قوامه مجموعة من الأنظمة الديموقراطية نوعاً ما المتواجدة في دول صغيرة والتي تم تسليحها لتشكل نوعاً من "كومندوس أفريقي"، قد فشلت قبل أن تلعب دوراً مهماً. والإشارة هنا موجهة إلى أوغندا وأريتريا وروندا تلك البلدان التي كانت قبل سنوات محط اهتمام الولاياتالمتحدة، تتحرك حسب استراتيجية واشنطن. وقد تم تسليح تلك البلدان بشكل أكبر من احتياجاتها الدفاعية. غير أنها ما لبثت أن بدأت باستعمال قوتها العسكرية لتصفية حسابات مع جيرانها. فكانت الحرب الأرتيرية - الأثيوبية التي انطلقت العام 1998. وكذلك الأمر بالنسبة الى أوغندا وراوندا، فقد تحركت الدولتان في بادئ الأمر وتدخلتا في ما كان يعرف بزائير وساهمتا بإسقاط موبوتو. غير أنهما سرعان ما رفضتا الانسحاب من غرب الكونغو، وأدارتا سلاحيها وبدأتا حرباً ضروساً أوقعت من القتلى عدداً أكبر مما أوقعته حرب إطاحة ديكتاتور زائير. وكذلك في الجبهة الشرقية أي على الحدود المشتركة مع السودان وأريتريا وأثيوبيا، فهي عوضاً من أن تشكل عبئاً على النظام السوداني الذي تحاربه واشنطن علناً، فإن أوغندا دخلت لأسباب أتنية في نزاعات متعددة مع جيش تحرير جنوب السودان، ومدت العديد من القنوات مع نظام البشير. ومنذ العام الماضي لُوحظ فتور في علاقات واشنطن مع "الدول الكومندوس الصغيرة". فهل يكون التحول نحو نيجيريا هدفه منحها هذا الدور على نطاق أكبر حيث أن حجمها وعدد سكانها يسمحان لها بالتواجد على أكثر من جبهة؟