حصان البحر هو اكثر كائنات الطبيعة غموضاً ولطفاً. يعيش بيننا منذ ملايين السنين، يفتننا ويملأ الأساطير، ومع هذا لا يزال عصياً على الفهم. ولمم يبدأ العلم الاهتمام الجاد به الا منذ عقد ونيف. فما حكايته وما هو سره؟ ولماذا تلد ذكوره ولا تلد اناثه؟ أسئلة بدأ العلم يبحث عن أجوبة لها. وهنا محاولة للمساهمة في الاجابة عبر زيارة مصورة الى واحد من أهم مراكز تطويره والاهتمام به في العالم. إنه تنين أعماق المياه، وسيد التمويه ولا سيما حين ينزلق بلونيه الأزرق والليلكي الوهاجين. اسمه حصان البحر، وهو هنا ينمو ويترعرع داخل حوض او صهريج خاص به في مجموعات لا يندر ان تختلط أذنابها بعضها ببعض. هنا في عالم أحصنة البحر هذا، يمكن للمتفرج عادة ان يكتشف اربعة عشر نوعاً مختلفاً من هذا الحيوان. ويمكنه، أيضاً، ان يرصد، بأم عينيه مسار تطور هذا المخلوق الاستثنائي عند كل مرحلة من مراحل حياته، في صهاريج صغيرة. هنا يمكن للصهاريج الموزعة في المكان ان تري المتفرج من أنواع أحصنة البحر ما يفوق عدد ما يمكن لهذا المتفرج مشاهدته في أي مكان في العالم. وما حصان البحر ذو البطن المنتفخة الذي يعتبر الأضخم من بين أحصنة البحر كافة، سوى واحد من الانواع الموجودة في "أكواريوم البحرية الوطنية". أما الصهاريج الصغيرة العديدة فإنها ملأى بأحصنة البحر الطفلة المولودة من بطن الذكور. وعلينا ان نلاحظ هنا ان أحصنة البحر هي الكائنات الوحيدة في العالم التي يحمل بها الذكور. وهذا الواقع هو من بين أمور عديدة تجري دراستها في أحواض ما وراء البحار وفي أوروبا، وذلك قصد معرفة طبائع أحصنة البحر وأساليب "تربيتها" وتغذيتها لصغارها، من أجل إضافة معلومات جديدة الى ما نعرفه سلفاً حول مثل هذه الأمور. الكائن الغامض ولا بد هنا من ان نبادر الى القول ان هذا الحيوان الذي يعتبر واحداً من أكثر الكائنات غموضاً وفتنة، يعيش مهدداً بشكل متواصل. فأبناء مملكة الحيوان هؤلاء، الذين تقول لنا الأساطير الاغريقية انهم هم الذين يجرون عربة نبتون، يتم وبشكل عشوائي اصطيادهم في أنحاء العالم كافة من قبل ملايين الصيادين الذين لا يتوانون عن تحويل أجسادهم الى مواد طبية شرقية، كما الى علاّقات مفاتيح او قاطعات ورق، او اي شيء من هذا القبيل. هنا، في هذا السياق لدينا حكاية رجل سعى طوال السنوات من أجل انقاذ جوهرة الطبيعة هذه، ما قاده الى انشاء أكثر مراكز البحث حول حصان البحر تقدماً وغنى في العالم، المركز القائم في "أكواريوم البحرية الوطنية" في بلايموث. اسمه نيل غاريك ميدمنت، وهو الباحث الذي تمكن في العام 1996 من تأسيس هذا المركز في مقاطعة اكستر بإنكلترا. ولقد كمنت أول الصعوبات لديه في كون حصان البحر يحتاج الى كمية كبيرة من الغذاء يومياً. وهو حل هذه المعضلة بخلق بيئة منتظمة داخل الصهاريج، وملأها بالأغذية البحرية وبأغذية تفرز بيوضها بنفسها ما يخلق لأحصنة البحر أغذيتها بشكل مستديم. وهو، حتى يومنا هذا، لا يزال يجمع الأغذية من مصب نهر إكس، وعلّم مساعديه أسلوب جمع تلك الأغذية ما أصبح مهنة قائمة في حد ذاتها. أسلوب حياة محيّر يقول ميدمنت ان هذه الحيوانات تبقى غير مفهومة تماماً، وخاصة بسبب أسلوب حياتها المحيّر. ويضيف ان إنسان اليوم بدلاً من ان ينصرف الى الاعجاب بهذا الحيوان ودراسته، نراه ينتزع من حضن الطبيعة في كل عام أكثر من ستين مليون حصان بحر. ومن هنا يعتبر ميدمنت ان ما يفعله ومساعدوه انما هو نقطة في بحر الانقاذ المطلوب، اما عملهم فيتضمن الحفاظ على الحيوانات التي يتم التقاطها، وكذلك وضع البرامج والبحوث التي تفصل أساليب عيش وغذاء أحصنة البحر في كل مرحلة من مراحل حياتها. ويتضمن برنامج البحث في الاكواريوم ايضاً دراسة تهدف الى استكشاف أماكن تجمع أحصنة البحر على السواحل الانكليزية ووضع خارطة لها. ويقول ميدمنت ان أحصنة البحر موجودة، على الاقل عبر نوعين أساسيين منها في مياه السواحل الأوروبية، حتى وإن كان مظهرها يفيد أنها لا توجد الا في المناطق الاستوائية والبعيدة. ويقول جوان أ. روميرو، حافظ "أكواريوم البحرية الوطنية": "اننا نمتلك في الأكواريوم اليوم 14 نوعاً. وأنا أعتقد اننا متقدمون جداً على الصعيد العالمي، وإضافة الى ان جامعة بلايموث تدعمنا، لا بد ان أشير الى اننا نتعاون مع أطراف عديدة في الولاياتالمتحدة وإيطاليا وألمانيا. وعلى العموم يعترف لنا الجميع بأننا نمتلك أكبر مجموعة متنوعة في العالم". ويضيف روميرو قائلاً: "ان الناس غالباً ما يسألونني لماذا أحصنة البحر؟ وجوابي هو دائماً ان وجود هذا الحيوان هو أسطع مثال على روعة الطبيعة، فهو شديد السحر، له كاريزما تجعل الناس يحبونه. وهؤلاء الناس حين يأتون الى الأكواريوم يأتون خاصة لرؤية حصان البحر، اضافة الى الدلافين وأسماك القرش. ومن هنا أعتقد أن في وسعنا استخدام هذه الحيوانات لإيصال رسالة ما .... ان أحصنة البحر تعيش في مياه حارة واستوائية. ونلاحظ عادة ان انسان زماننا هذا أحاق بالخطر الأمكنة كلها التي تعيش فيها أحصنة البحر، ولا سيما المغاور الساحلية. ونحن حين نتحدث عن أحصنة البحر وأماكن عيشها في المناطق الاستوائية، ننتقل فوراً الى الحديث عن الصخور المرجانية، وعن المغاور وضرورة الحفاظ عليها، وبعد ذلك يمكننا ان نعلم الناس كيف ان هناك مخلوقات نادرة وجميلة، منها أحصنة البحر تعيش هناك، وأن هذه الأماكن في خطر، بسبب تدفق الزوارق والتلوث. ومن هنا ترون كيف اننا نستخدم أحصنة البحر كوسيلة لتعليم الناس كيف يحافظون على الحياة البحرية". في بحار العالم هناك ما يتراوح بين 30 و40 نوعاً من أحصنة البحر، وقد يكون هناك أكثر من ذلك. وهذه الانواع تتراوح بين "الهيبوكامبوس باربيغانتي"، الذي قد لا يزيد طوله عن ربع الانش، و"الهيبوكامبوس آبدوميناليس" الذي يصل طوله الى 14 انشاً. مهما يكن من الأمر فإن العدد الصحيح لأنواع أحصنة البحر لا يزال مجهولاً، علماً بأن العلم الحديث لم يبدأ بدراسة هذا الحيوان الفاتن الا منذ بداية سنوات الثمانين. اللطف والكياسة عن هذا الحيوان يقول ميدمنت: "إن أول صفة يتميز بها حصان البحر هي اللطف والكياسة. وأنت يمكنك ان تمضي ساعات وساعات متحدثاً عن صفاته الأخرى. وقبل كل شيء قد يكون أول تساؤل يخطر في بالك يتعلق بشكل حصان البحر الذي يخرج عن الاطار العادي: فلماذا تكوّن على هذه الشاكلة؟ والجواب الوحيد ان شكل هذا الحيوان يناسب المكان الذي يعيش فيه تماماً، ما يكشف عن حذق الطبيعة ومهارتها. وحصان البحر لا يتسم بأية عدوانية اللهم الا حين يأكل غذاءه الحي. على أية حال سوف تمضي سنوات طويلة قبل ان نعرف كل المعلومات اللازمة حول حصان البحر وتكوينه". واذ يقول ميدمنت هذا، يقوله بلسانه كأهم خبير أوروبي في حياة أحصنة البحر. وهو خلال السنوات العديدة الماضية التي أمضاها في دراسة حصان البحر، حقق العديد من الاكتشافات ووضع دراسات عديدة. ويؤكد هذا الباحث اليوم ان أصل حصان البحر يبقى غامضاً. وحتى الآن لا تزال الموسوعات تتحدث عن حصان البحر، في المقام الاول، بكونه حيواناً أسطورياً، اعتماداً على قصة جر أحصنة البحر لعربة نبتون عبر مياه بحر إيجه. ومن ناحية علمية من المعتقد ان حصان البحر قد تطور على مدى 40 مليون عام، وحفلت سيرته بالحكايا الأسطورية التي حيكت عنه. ومن هذه الحكايات ما يقول ان حصان البحر يعتبر من أبناء الطبيعة المدللين. فالطبيعة لحبها له أعطته رأس حصان وعنقه، وجسم حشرة، وذنب قرد وقفز الكنغارو. ولنلاحظ هنا كيف ان بعض الكتب العلمية يصنف حصان البحر كحشرة، غير انها دائماً ما تضفى عليه مقدرات سحرية وطبية. وهنا نذكر ان بعض النساء في الحضارات البدائية يحملن حول أعناقهن جسد حصان بحر منشف لاعتقادهن بأن وجوده يساعد على در حليب الامومة لديهن. وفي أوروبا يستخدم حصان البحر ترياقاً ضد احتباس البول، وفي اليونان القديمة كانوا يستخدمونه كترياق ضد السرطان. وبلينيوس الكبير يصف في كتبه دواء ضد الصلع يتألف من مزيج من رماد حصان البحر والدهن الحيواني. ومن غرائب أمور حصان البحر ان اناثه وذكوره يتصاحبون على الدوام رغم انهم يعيشون في أماكن منفصلة. ومن غرائبه ما سبق ان أشرنا اليه من ان ذكوره هي التي تحمل وتلد. ويمكن للذكر الواحد ان يلد 1500 بويضة. وفوق رأس حصان البحر تويج يعرف به، كما ان عينيه تنظران وتتحركان في الاتجاهين. وثمة من بين العلماء من يعتقد ان أحصنة البحر تتفاهم، صوتياً، فيما بينها. ويقول اليوم ميدمنت: "اننا نحاول، بشكل عام، ان نركز اهتمامنا على نوعين، أولهما هو ذاك الذي يعتبر أقصر حصان بحر عثرنا عليه في انكلترا، أما الثاني فهو ال"هيبوكامبوس كوميس" ذو الأصل الهندي وله ذنب شبيه بذنب النمر". ويشكو ميدمنت قائلاً: "ربما كان هذان النوعان هما الأصعب دراسة، ولا سيما الثاني منهما، وخاصة لأنه غير قادر على العيش طويلاً بيننا. فأنا خلال 11 سنة لم أتمكن من ان أبقي على قيد الحياة سوى ثلاثة أفراد من هذا النوع". نداءات الى المواطنين ويقول ميدمنت ان مركزه اعتاد ان يوجه النداءات الى المواطنين لكي يساعدوه في الحصول على أنواع وأفراد مختلفة من أحصنة البحر، وهو يقول عن هذا: "فقط خلال السنوات الاخيرة وعبر نشاط كثيف قمنا به في أكستر، أصبح الناس قابلين لأن يأسروا لنا أحصنة البحر محتفظين بها لفترة من الزمن طويلة ما يتيح لنا الاتصال بهم والحصول عليها. قبل ذلك ما كانوا يرضون بإبقائها أكثر من أسابيع قليلة، ان لم يكن أكثر من أيام. وهذا ما يمكننا من الاحتفاظ بها طويلاً في مأمن. وأحياناً قد تصل فترة الحفظ الى سنوات نحصل بعدها على الحيوان ونتابع حفظه ومن ثم دراسته". وحول هذا الموضوع يقول ميدمنت الذي وضع كتاباً بات اليوم شهيراً حول أساليب حفظ أحصنة البحر وتغذيتها، أن "كثيراً من الناس يعجزون عن فهم أن أحصنة البحر قصيرة الجهاز الهضمي، ما يستوجب تغذيتها مراراً عديدة وبشكل متواصل طوال اليوم، وبأغذية صائبة...". أخيراً يلاحظ ميدمنت كيف ان هذا الحيوان الأسطوري والساحر، لا يتمتع بحماية خاصة، وذلك لأن "ميثاق واشنطن" الشهير لا ينص على حمايته، ومن هنا لا تخضع تجارته لأية قوانين أو أنظمة. وهذا ما يجعل الجهد الفردي والمحلي المطلوب مزدوجاً وصعباً، في وقت يتناقص فيه حصان البحر الحر في أحضان الطبيعة، وفي وقت لا تجد فيه المؤسسات المماثلة ل"أكواريوم البحرية الوطنية" في بلايموث، الأموال اللازمة التي تمكنها من ان تواصل عملها بنجاح، وحول هذا الأمر يقول ميدمنت أخيراً: "إننا يائسون الآن من امكانية الحصول على أموال اضافية تمكننا من توسيع أشغالنا وتعليم الناس أكثر وأكثر كيف يساهمون معنا في الحفاظ على هذا الحيوان الذي رافق الانسانية منذ فجر حياتها وسحرها وغذى أساطيرها، ولا يزال واقفاً حزيناً فاتناً لطيفاً لا يؤذي أحداً حتى يومنا هذا"