سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
مقاله عن البيروقراطية أغضب بورقيبة وعروبة عبدالناصر برأيه كانت "انتهازية" . مشككاً في ذكاء العرب وفاتحاً النار على نخبهم الثقافية والفكرية . هشام جعيط: على العروبة أن تلتحم بالإسلام وإلا منيت بالفشل الذريع !
المثقفون العرب كسالى، لا يعرفون سوى "المهاترات الكلامية"، وهم "لا يهتمون بالمعرفة بمعناها الحقيقي والعميق... إنهم خامدون متبلدو الذهن، يعيشون حياة خاوية بعيدة عن الخلق والابتكار والابداع، وحتى تاريخهم يجهلونه". هكذا يختصر هشام جعيط نظرته إلى أقرانه وزملائه، ولا يكاد يوفّر منهم أحداً : من طه حسين... إلى الجابري وأركون. ولا يقف المفكّر التونسي عند هذا الحدّ، بل يمضي في هجومه العنيف إلى حدّ التشكيك في عروبة عبد الناصر. في مناسبة إلقائه محاضرة، في فيينا، عن "حاضر الإسلام اليوم" ، إلتقينا صاحب "الشخصية العربية الإسلامية"، فذكّرنا أنّه "من أوائل الذين لفتوا إلى ظهور الاصولية"، وأكّد أن "الاصولية نهضت في الجزائر بسبب البيروقراطية والاختيارات الاقتصادية والسياسية العشوائية". ينتسب الدكتور هشام جعيط إلى إحدى أعرق العائلات المحافظة في العاصمة التونسيّة. وكان والده من أشهر شيوخ الجامعة الزيتونية، لكنّه اختار طريقاً آخر غير الذي سلكه جلّ أفراد عائلته. فقد دخل المدرسة الصادقية التي انشأها المصلح التونسي خيرالدين باشا التونسي، والتي تخرجت منها النخب السياسية الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة على سبيل المثال لا الحصر، ليجد نفسه، بفضل اللغة الفرنسية التي اتقنها مبكراً، في قلب الثقافة الحديثة، بما في ذلك الفلسفة والعلوم الحديثة. وبعد حصوله على شهادة البكالوريا، انتقل إلى باريس ليلتحق بدار المعلمين العليا التي تخرجت منها أيضاً أرقى النخب الفكرية والثقافية والسياسية جان بول سارتر، ريمون آرون، بول نيزان، ميشال فوكو، وغيرهم. وهناك درس التاريخ وعاد إلى تونس العام 1967 ليعيّن استاذاً في جامعتها الفتية. غير أن الأوضاع السياسية التي كانت تعيشها البلاد لم ترق للمثقف الشاب، الطموح والموهوب، فقفل راجعاً إلى باريس لينكب على تأليف كتب سرعان ما بدأت تحتل مكانة بارزة بين مؤلفات المفكرين العرب والمغاربة. أبرز هذه الكتب "الشخصية العربية الإسلامية" صدر عن دار "لوسوي" الباريسية 1979، وعاد فصدر بالعربيّة أواخر السبعينات عن دار "الطليعة" في بيروت، وكتاب "أوروبا والإسلام" الصادر عن دار "لوسوي" أيضاً 1978 والذي أثار اعجاب العديد من المفكرين الفرنسيين في ذلك الوقت، خصوصاً ريمون آرون. وفي أواخر السبعينات، عاد هشام جعيط إلى تونس من جديد، بطلب من الهادي نويرة، رئيس الوزراء آنذاك، ليعمل استاذاً محاضراً في الجامعة الوطنيّة، مواصلاً التأليف والبحث في المسائل الفكرية. وبعدما انجز كتاباً مهماً عن تاريخ الكوفة، أصدر "الفتنة الكبرى - الدين والسياسة في إسلام البدايات"، وهو قراءة جديدة للدولة الإسلامية الأولى. وخلال السنوات الماضية انكب على تأليف كتاب في ثلاثة أجزاء عن حياة الرسول محمد ص الذي صدرت مقدمته، مطلع العام الحالي، في كتاب مستقل بعنوان "الوحي والنبوة"، عن "دار الطليعة" البيروتية. وجميع هذه الكتب جعلت من هشام جعيط واحداً من أهم المفكرين المغاربة واعمقهم في الفترة الراهنة، إلى جانب عبدالله العروي ومحمد اركون ومحمد عابد الجابري. وجميع أبحاثه تستقريء التاريخ في صياغة قضايا الحاضر، وفهم آليّاتها ومدلولاتها. وفي هذا الحوار الذي أجرته معه "الوسط" في فيينا تحدث الدكتور جعيط عن مسيرته ورأيه في بعض معاصريه من المفكرين المغاربة . تنتمي إلى إحدى العائلات العريقة في تونس، وان والدك الشيخ عبدالعزيز جعيط كان من كبار شيوخ الجامعة الزيتونية، ماذا كان تأثير هذا المحيط العائلي على تكوينك الفكري والروحي؟ - من المؤكد أن الوسط العائلي يلعب دوراً مهماً في تكوين الانسان في بداياته. غير اني اعتقد ان الفرد ينحت ذاته بنفسه في ما بعد، بل هو أحياناً ينفصل انفصالاً كلياً عن الوسط الأهلي، إن لم يقم بردّ فعل عليه، رافضاً ثقافته واسلوبه في الحياة وفي التفكير. ولا أعتقد ان هناك مثقفاً يكون صورة طبق الأصل عن المحيط، إلا في ما ندر. والأدلة على هذا كثيرة، سواء في الغرب أم في العالم العربي - الإسلامي. هل ثرت أنت على الوسط العائلي؟ - طبعاً، لكن ليس في البداية. لم أثر فقط على الوسط العائلي، بل على الوسط التربوي. ولا بد أن أشير إلى أن الوسط العائلي لم يكن وحده هو الذي أثّر في تكويني الفكري والثقافي في البداية، وإنما أيضاً المدرسة الصادقية. المدرسة التي انتجت أجيالاً من النخب الفكرية والسياسية في تونس. ففي هذه المدرسة العصرية التي انتسبت إليها بموافقة والدي وعائلتي، تعلمت اللغة الفرنسية والعلوم الحديثة والفلسفة والتاريخ. وهذا ما لم أكن قادراً على تحصيله في الوسط العائلي الذي كان تقليدياً، شديد المحافظة. لكنّ هذا الوسط العائلي المحافظ، اختار أن يوجهك إلى مدرسة عصرية... - صحيح، ولا بد أن أقول إنني كنت محظوظاً جداً ذلك ان عدداً كبيراً من أبناء عائلتي لم يتم توجيههم إلى المدارس العصرية مثلما هو الحال بالنسبة إليّ. وقد تبين لي في ما بعد أن تكوينهم كان ضحلاً وهزيلاً. وقد يعود السبب الأساسي في توجيهي إلى المدرسة العصرية إلى ذكاء والدي. كانت له نظرة ثاقبة إلى المستقبل، خصوصاً مستقبل ابنائه. ولعله أدرك - هو الذي كان من أكبر شيوخ جامع الزيتونة، ومن المتضلعين في اللغة والفقه - بأن المستقبل لأولئك الذين يتلقون تعليماً عصرياً منفتحاً على العلوم الحديثة. ولم يكن ابي يهتم فقط بالمسائل الفقهية، بل كان ملمّاً ومحيطاً بشؤون الحياة المعاصرة. وكان متفتحاً على المستوى الثقافي، ملتهماً كل ما يأتي من مصر من مجلات وكتب وغير ذلك. وبفضله قرأت طه حسين وأحمد أمين والزيات والعقاد، وغيرهم. في تلك الفترة لم تكن كتب التراث القديمة تستهويني. أذكر اني قررت ذات مرة أن أقرأ "العقد الفريد"، لكنّي سرعان ما تركته لأنني لم أجد فيه ما يمكن ان يثير اهتمامي، وأن يغذي فضولي الثقافي والمعرفي. في حين أن طه حسين أعجبني كثيراً، وفتح ذهني على أشياء لم أكن أعرفها، أما العقاد فلم استسغه كثيراً. وكان أبي يحفزني على قراءة مجلة "الرسالة". كما كنت أقرأ العديد من المجلات والصحف التي تأتي من مصر، ومن خلالها تعرفت على الحياة السياسية والثقافية والفكرية في بلاد الشرق. ومن الأشياء التي كانت تعجبني أن والدي كان يفضل التكلم بالعربية الفصحى. حتى في البيت؟ - نعم. حتى في البيت، لكن ليس مع الخدم يضحك، وإنما مع رفاقه الشيوخ والضيوف الأفاضل الذين كانوا يزورونه. ما هي التأثيرات الأخرى التي تركتها المدرسة الصادقية؟ - كان تأثير الصادقية عليّ أكثر من التأثيرات السابقة. فهناك، وكما ذكرت، اكتشفتُ الفلسفة والعلوم الحديثة والأدب الفرنسي. كما انّي درست تاريخ أوروبا، خصوصاً تاريخ الثورة الفرنسية. وكان التعليم في هذه المدرسة على النمط الفرنسي الاصيل والمعمق. لذا قبل أن أنهي التعليم الثانوي، كنت على معرفة جيدة بالأدب الفرنسي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وبفلسفة الأنوار. كما ان أساتذتي في اللغة العربية اطلعوني على الجديد في الأدب العربي، شعراً ونثراً. ثم انتقلت إلى فرنسا، فبدأت مرحلة جديدة في تكوينك الثقافي والمعرفي... ما هي ملامح هذه المرحلة؟ - التكوين المعرفي الصلب الذي حصلت عليه في تونس ساعدني على أن أدخل باريس، وأنا شديد الاعتداد بنفسي. وكان من حسن الحظ اني دخلت مدرسة المعلمين العليا التي تخرج منها فلاسفة ومفكرون كبار. وكان الدخول إليها يعتمد على معرفة جيدة بالأدب الفرنسي وباللغة اللاتينية التي تعلمتها في المدرسة الصادقية وأيضاً على اللغات الأجنبية، خصوصاً الانكليزية والتاريخ والفلسفة. ويمكن القول انني وأنا في المدرسة العليا للمعلمين 1954-1955، شعرت أنني في قلب الثقافة الغربية. وكان ابي يحثني على مواصلة التعليم على رغم ادراكه بأني أخذت طريقاً آخر غير طريقه، وأظنّه كان يفعل ذلك، ليس حباً للعلم والمعرفة فقط، بل لاعتقاده، بحكم الانتساب إلى الطبقة البورجوازية المحافظة، ان العلم يمكن ان يكون وسيلة للحفاظ على المرتبة الاجتماعية وعلى النفوذ الطبقي. المهمّ أنني، في تلك الفترة الباريسية، قمت بتعميق ثقافتي في جميع المجالات. فقرأت الأدب الفرنسي الحديث وأيضاً الأدب الأميركي والروسي، واعجبت بسارتر ووجوديته وأيضاً بكامو وبروست وآخرين، كما قرأت عدداً من الفلاسفة، خصوصاً نيتشه وكانط... في الوقت نفسه انصب اهتمامي على العلوم، وكان لذلك تأثير كبير على توجهاتي الفكرية في ما بعد. ورحت في العطل الصيفية، أخوض نقاشات مع والدي، ولم يكن يزعجه ذلك، بل كان يتحمس كثيراً. وذات مرة اطلعته على مبادئ علمية تتناقض مع معتقداته فصرخ فيّ غاضباً، وكان ذلك يحدث للمرة الأولى: "لعن الله العلم الذي أدى بك إلى هذه المتاهات!". عندما عدت الى تونس كيف كان موقفك من الواقع هناك؟ - كنت قد شعرت بالضيق لدى عودتي الأولى إلى تونس، بعد غياب، في العام 1962. وبعد ان استكملت دراستي في العام 1967، قررت العودة ظناً منّي ان الأوضاع تحسنت. غير أن ذلك كان مجرد وهم، إذ اصطدمت، حال وصولي إلى العاصمة، بالديماغوجية في أبشع مظاهرها، ووجدتني أمام واقع لم يلائمني لا مزاجياً ولا سياسياً ولا فكرياً ولا ثقافياً. فالحزب الواحد كان محكماً قبضته على البلاد، والناس يعيشون تحت وطأة الخوف. والرأي المخالف أو المعارض منعدم تماماً. مع ذلك لم أشأ ان أصبح معارضاً سياسياً، بل اخترت ان احتفظ بأفكاري لنفسي. وكتبت سلسلة من المقالات في مجلة "الفكر" التي كان يشرف عليها رئيس الوزراء السابق محمد مزالي. كما تحدثت في الاذاعة الوطنية حول قضايا فكرية عدة. وقد استمع بورقيبة إلى هذه الأحاديث واعجب بها. وأوصى اللجان الحزبية المكلفة بالثقافة أن تدعوني إلى الملتقيات التي تنظمها. لم تكن تلك اللجان تدعوك إلى نشاطاتها؟ - كلا، كان ينظر إليّ كمتحدّر من تلك الطبقة الارستقراطية التي كانوا يعتبرونها مخلصة للبايات ومعادية للنظام الجمهوري. يقال انك كتبت في تلك الفترة مقالاً اغضب بورقيبة... - هذا صحيح، والمقال كان حول البيروقراطية في بلدان العالم الثالث. كان عنوان المقال "الوصولية والتخلف"، لكن البشير بن يحمد اختار له عنواناً آخر هو "الانتهازيون وصلوا"، عندما نشره في مجلة "جون افريك" التي يشرف على رئاسة تحريرها. ما هو محتوى المقال؟ - لم يكن مقالاً فكرياً بالمعنى الصحيح للكلمة، وإنما كان مقالاً صحافياً انفعالياً انتقدت فيه الأنظمة الوطنية بعد الاستقلال، تلك التي نسيت مصالح الشعب وأغرقت البلدان التي تحكمها في التخلف والبيروقراطية والانتهازية. ولعل المقال أغضب بورقيبة، غير اني لم أتبلغ بشيئاً يدل على هذا الغضب. ومرة طلبت مقابلته فلم يمانع. استقبلني في مكتبه الخاص وبدأ يتحدث معي حول تاريخ الحركة الوطنية، وفجأة قال لي: "أعلم انك كتبت مقالاً سيئاً..."، فأجبته: "سيدي الرئيس، هذا المقال ليس عن تونس"، فرد قائلاً: "ولكنك ذكرت المغرب العربي، وتونس جزء منه"، فقلت له: "لا اعني تونس، وأنت لست معنياً بالأمر سيدي الرئيس". فضحك وقال: "آ... تعني ان الآخرين سيئون إلا أنا!". بعدها هدأ، وفي ما بعد بلغني أنه تكلم عني في مجلس الوزراء، وقال: "عندنا شاب جيد، دعوه يكتب". وقتها كان محمود المسعدي وزيراً للتربية ولم يكن يحبني البتة لسبب لا أعرفه، كذلك محمد عبدالسلام عميد الجامعة آنذاك، وهو أيضاً لم يكن يحبني. ثم جاءت أحداث العام 1969... - في العام 1969 شن النظام حملة قمعية واسعة النطاق ضد الطلبة والمثقفين المناهضين له. وكان بين هؤلاء أساتذة جامعيون، وكان الطاهر بالخوجه مدير الأمن آنذاك، من المتصلبين، وهو يعترف في كتابه الأخير "العقود الثلاثة لبورقيبة"، بوقوع تجاوزات كثيرة خلال أحداث العام 1969. والحقيقة أن الذين تم اعتقالهم عذبوا، وتعرضوا لاهانات شنيعة. وأذكر انّي قلت للرئيس بورقيبة عندما قابلته بأنه من الضروري ان تكون للنظام علاقة طيبة مع المثقفين. غير ان بورقيبة لم يعجب بما قلت، بأنه يكره النقد ولا يتحمله على الاطلاق. كما انه كان يمقت أن يتدخل المثقف في السياسة. وكان دائماً يقول: "هذه من مسؤوليات رئيس الدولة". وعندما بدأت الحملة القمعية ضد الطلبة وضد الجامعيين، تحركت مع زميل لي يدعى محمد الشريف منادين بضرورة احترام الرأي الآخر وحقوق الإنسان. وقمنا بالاتصال بالدكتور محمد الطالبي، رئيس الجامعة آنذاك، فقال إنه من الصعب عليه أن يفعل شيئاً، ذلك ان السلطات العليا في الدولة أبلغته رسمياً أن أي كلمة أو أي تحرك لفائدة المسجونين يعتبران مساساً بالأمن العام. ولم يكن الطاهر بالخوجة الذي تاب الآن، مسؤولاً وحده عن هذا الوضع، بل الرئيس بورقيبة أيضاً. فمنذ العام 1956، أي منذ حصول البلاد على استقلالها، وحتى العام 1968، لم يواجه بورقيبة إلا الفتنة اليوسفية. وقد قمعها بشدة لا مثيل لها، مستعيناً بالموالين له، خصوصاً الحبيب عاشور الذي قتل معارضين يوسفيين في صفاقس بالرصاص. ولا بد أن نعلم ان صالح بن يوسف لم يقم بثورة، بل عارض وجهة نظر بورقيبة في الحصول على الاستقلال، وكان يمكن تجنب كل تلك الدماء لو كان لبورقيبة صدر واسع. وبعد القضاء على ما كان يسمى بالفتنة اليوسفية، بمثل تلك القسوة وذلك العنف، ظن بورقيبة أن الأمن استتب في البلاد وأن الأصوات المعارضة له ولنظامه قد اسكتت إلى الأبد. وعندما اندلعت انتفاضة الطلاب في العام 1969، غضب من جديد، وقمعها بشدة على رغم أنها لم تكن خطيرة على النظام. وعندما علمت ان الطاهر بالخوجة يريد ايذائي أنا أيضاً بسبب التحركات التي قمت بها، فضّلت العودة إلى فرنسا، وكان ذلك العام 1969، وكان هدفي أن انجز مشاريعي الفكرية بعيداً عن ذلك الجو الذي أصبح خانقاً بشكل لا يطاق. ماذا كانت هذه المشاريع الفكرية؟ - تأليف كتب حول قضايا كانت تشغل بالي في ذلك الحين. وأول كتاب ألفته كان حول "الشخصية العربية الإسلامية" ثم ألفت كتاب "أوروبا والإسلام". هل تعتقد أن هناك أفكاراً في الكتابين تجاوزها الزمن؟ - جميع الأفكار التي وردت في الكتابين المذكورين ما زالت صحيحة حتى هذه الساعة. بل يمكنني أن أقول إن الزمن أثبت صحتها، ذلك ان الكتابين المذكورين لم يكونا ايديولوجيين وإنما كانا فكريين وفيهما استشراف للمستقبل. أين يتأكد هذا الاستشراف للمستقبل؟ - في العديد من الأفكار التي طرحتها. فأنا كنت من أوائل الذين لمحوا إلى ظهور الاصولية، وإلى تأكل الدولة الوطنية، وهو أمر تم في الجزائر بسبب البيروقراطية والاختيارات الاقتصادية والسياسية العشوائية. ذكرت في كتابي "الشخصية العربية الإسلامية" ان القومية العربية لا يمكن ان تقوم إلا بالالتحام مع الإسلام بصفة أو بأخرى، إذ لا يمكنها الاكتفاء بالاعتماد على ذاتها، كما رأى ذلك الناصريون والبعثيون. ولكن عبدالناصر كان يعطي أهمية كبيرة للإسلام، ويعتبره أحد المكونات الأساسية لرؤيته القومية... - هذا ليس صحيحاً. عبد الناصر كان يقول مثل هذا الكلام لكنه لم يكن يعمل به، والدليل على ذلك أنه ضرب الإسلاميين بقسوة كبيرة وفي مناسبات متعددة. عبد الناصر في الأصل عسكري، وكان مهتماً بالعالم الثالث أكثر من اهتمامه بالعالم الإسلامي، وكان عروبياً انتهازياً. لا بد للعروبة ان تكون ملتحمة بالإسلام، وإلا فإن مصيرها سيكون الفشل الذريع... قد يكون هذا الكلام صحيحاً بالنسبة إلى المغرب العربي، إذا جاز استثناء اليهود العرب هناك، أما في المشرق العربي فهناك طوائف أخرى يجب أخذها في الاعتبار؟ - أنا اعتقد ان المسيحيين المشارقة مسلمون من الناحية الثقافية، وجميع كتابهم ومفكريهم قرأوا القرآن ويعرفون التاريخ الإسلامي جيداً، والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة... تجنّب الماركسيّة ما هي المصادر التي اعتمدت عليها عندما كتبت "الشخصية العربية الإسلامية"؟ - اعتمدت على مصادر كثيرة. وكان لديّ الوقت الكافي للاطلاع عليها جميعاً، لأنني كنت اتمتع بالحرية التي كنت محروماً منها في تونس. قرأت عبد الناصر وميشال عفلق وأدبيات أخرى كثيرة. وألفت هذا الكتاب، أي "الشخصية العربية الإسلامية" بهدف الإجابة على العديد من الأسئلة التي كانت مطروحة في ذلك الوقت في المشرق والمغرب. وفضلت أن اكتبه بالفرنسية حتى اطلع الفرنسيين على ما يحدث في العالم العربي الإسلامي. ولا بد ان أشير أيضاً إلى انني حصلت في باريس على جميع الوثائق التي كنت ابتغي الحصول عليها. ولو كنت في تونس لما تمكنت من ذلك أبداً. فالقطيعة التي كانت قائمة بين تونس والمشرق، بسبب خطاب بورقيبة في مدينة أريحا حيث دعا العرب إلى انهاء حال الحرب مع إسرائيل، والقبول بحل التقسيم، استمرت سنوات طويلة. وكان من الصعب، بل من المستحيل أحياناً الحصول على المجلات والصحف والأدبيات التي تصدر هناك. وربما كانت النخب التونسية في تلك الفترة، بسبب العزلة الثقافية التي عاشتها، ضيقة الافق ومحدودة التفكير، وغير قادرة على أن تهضم جيداً الأفكار التي كانت تأتيها من الغرب، وحتى من فرنسا . الغريب انك لم تتأثر بالماركسية، كبعض مجايليك، على رغم انها كانت طاغية ذلك الوقت في المشرق والمغرب على حد سواء! - هذا صحيح... وقد يعود ذلك إلى التكوين الصلب الذي حصلت عليه سواء في تونس أو في باريس، وقد انقذني من الايديولوجيات ومن السقوط في الكلام السهل والحماسي الذي لا يفضي في النهاية إلا إلى الخواء. وعندما ظهر كتاب "أوروبا والإسلام"، فإن بعض الفرنسيين، وبينهم المفكر الكبير ريمون آرون الذي اعجب به، اعتبروا بأنه يضر كثيراً بالغرب. من أي ناحية يضر به؟ - دعوت إلى ضرورة تحرر العالم العربي الإسلامي من سطوة الغرب ونفوذه السياسي والاقتصادي. بعدها بدأت أفكر في ضرورة الاهتمام بالفترة الإسلامية الأولى، وهنا اصطدمت بالمستشرقين لأنهم كانوا يعتبرون ان هذا المجال، مجال التاريخ الإسلامي القديم، من اختصاصهم وحدهم، ولا يجوز لأي أحد آخر الاشتغال به أو التحدث فيه، فإذا ألححت في ذلك، طلبوا منك العودة إلى بلادك قائلين: "هناك باستطاعتك ان تفعل ما تريد!". وسمعت من هؤلاء، فعدت إلى بلادك؟ - عرفت أن الأمر صعب فقمت بجولة كبيرة في العالم، بعدها عدت إلى تونس بدعوة من الهادي نويرة نفسه، وكان آنذاك رئيس الحكومة. وعند عودتي اصطدمت من جديد بالواقع التونسي الصعب. كان بورقيبة قد هرم، والصراعات على أشدها. أما الجامعة فقد بدت لي متخلفة أكثر من اللزوم. وعندما استقبلني نويرة قلت له: "أظن ان عودتي كانت خطأ كبيراً". غير أنه شجعني على البقاء، وقال لي إن البلاد في حاجة إلى أمثالي. وفي النهاية، وجدت ان افضل شيء أقوم به لحماية نفسي هو العمل ومواصلة الكتابة والابتعاد عن المواجهات السياسية غير المجدية. وكان ان شرعت في تأليف كتاب "تاريخ الكوفة" الذي صار مرجعاً علميّاً وتاريخيّاً. باختصار شديد، كيف تقوّم عهد بورقيبة كمؤرخ ومفكر؟ - اعتقد ان بورقيبة قام بأعمال جليلة منذ حصول البلاد على استقلالها وحتى السبعينات، وأفضل شيء فعله بعد فشل تجربة "التعاضد" في الستينات، أنه عيّن الهادي نويرة رئيساً للحكومة، ذلك أنه كان مقتدراً من الناحية الاقتصادية. كما خلق مؤسسات قوية ولا يزال التونسيون يدينون له بذلك حتى اليوم. وفي بلد لم يعرف مفهوم الدولة مثل تونس، اعطى بورقيبة للدولة مهابة لدى عموم الشعب. إلا أنه لا بد من الاعتراف بأنه كان ديكتاتوراً، متصلباً في رأيه. أما أكبر خطأ ارتكبه فهو تشبثه بالسلطة، خصوصاً بعد أن مرض في السبعينات. وهذا ما يجعلني أقول إنه كان يحب نفسه أكثر مما كان يحب بلده. ولا بد أن أضيف أيضاً أن هناك شخصيات في تونس مثل أحمد بن صالح ومحمد المصمودي وأحمد المستيري وآخرين قدموا مصالحهم الخاصة على مصلحة البلاد، وعوض ان يتوحدوا ويواجهوا المشاكل القائمة، انصرفوا إلى الدسائس والمؤامرات بهدف الوصول إلى السلطة. نعود إلى المجال الفكري، ثمة من يقول بأن ما وصل إليه العالم العربي، وما يعانيه على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، لم يكن بسبب الأنظمة السياسية وحدها، وإنما أيضاً بسبب النخب الفكرية التي لم تقم بواجبها... ما رأيك؟ - أكيد ان النخب الفكرية مسؤولة أيضاً إلى جانب الأنظمة السياسية عن هذا الوضع المأسوي الذي يعيشه العالم العربي الإسلامي في الفترة الراهنة. لكن يجب ألاّ ننسى أن الرقعة العربية الإسلامية ظلت على مدى أربعة قرون، أي منذ موت ابن خلدون وحتى 1900، تحت الهيمنة العثمانية أولاً، ثم الاستعمارية الفرنسية والبريطانية. لذلك كانت رقعة شبه خالية من الحياة وصحراء ثقافية وفكرية. وخلال القرون الأربعة لم يظهر في هذه الرقعة العربية الإسلامية مفكر واحد، يوازي ابن خلدون. وكان العثمانيون ينزعون إلى الحرب وإلى الحياة العسكرية ولا يهتمون مطلقاً بالثقافة أو الفن أو الفكر، الشيء الذي انعكس سلباً على العرب من ناحية ثانية، عندما استيقظ العالم العربي الإسلامي من سباته الطويل، وجد ان الهوة أصبحت كبيرة بينه وبين الغرب، على جميع المستويات. وعوض ان يعمل العرب على ردم هذه الهوة، انصرفوا إلى أشياء أخرى. ولا اخفيك القول إنني أصبحت اعتقد ان عرب اليوم ليسوا أذكياء، وليسوا طموحين لذا هم دائماً منهزمون. لم يربحوا معركة واحدة في جميع الحروب التي خاضوها إلى حد هذه الساعة، والأمر لا يتعلق فقط بالنخب السياسية، بل بالنخب الثقافية والفكرية التي تميل إلى الكسل، وإلى الجدل الفارغ، والمهاترات الكلامية، وتهرب من التفكير الجدي، ومن الأعمال الصعبة. وزاد في الطين بلة ان معظم حكّامنا يكرهون الثقافة والفكر، لذا نجد أن مصير المثقّفين، في أحيان كثيرة، هو القمع والاضطهاد والسجن والمنفى. في وضع محزن كهذا، كيف يمكن أن تنمو نخب فكرية جديدة؟! سمعتك مرة تقول بأن طه حسين ضعيف من الناحية النظرية... - نعم هو ضعيف في منظور اليوم، أما بالنسبة إلى المرحلة التي عاش فيها، فيمكن القول إنه كان لا بأس به. لقد تأثر بالغرب، ولعب دوراً مهماً، ككاتب وكرجل فكر، وهذا شيء مهم. وهناك شيء لا بدّ من قوله هنا: من النادر ان تلتقي مثقفاً عربياً يعرف اصول الثقافة الغربية معرفة جيدة. فعندما تلتقي أحد هؤلاء يشرع في الحديث عن الأوضاع السياسية في بلاده ولا يخرج عن ذلك أبداً. وهذا يدل على أنه غير قادر على ابتكار الأفكار، لذا فهو يلجأ إلى الثرثرة حتى يغطي جهله. كما اضيف ان المثقفين العرب لا يهتمون بالمعرفة بمعناها الحقيقي والعميق. فهم لا يعرفون لا السينما ولا الموسيقى ولا المسرح ولا أي شيء آخر. إنهم خامدون متبلدو الذهن، يعيشون حياة خاوية بعيدة كل البعد عن الخلق والابتكار والابداع، حتى تاريخهم يجهلونه. أنت غالباً ما تبدي قسوة معينة في تقويمك للفكر العربي وللمفكرين العرب... مثل العروي؟ - العروي مفكر مهم جداً، وأنا اعتبره أهم من جميع المفكرين الآخرين، وأقدر ما كتبه، ويصعب على العرب فهمه لأنهم كسالى. والجابري؟ - أنا مثل العروي أقول بأن من ليس له ثقافة غربية عميقة وثقافة عربية عميقة لا يمكنه أن يكون مفكراً حقيقياً، ولا يمكن الوثوق به. والجابري لا يملك ثقافة غربية عميقة ولا ثقافة عربية عميقة وكتاباته مدرسية وتلقينية، وهو يتحدث في كل شيء وحتى في الأشياء التي لا دراية له بها. وما رأيك بالجهود التي بذلها ويبذلها محمد اركون في سبيل تأسيس فكر إسلامي؟ - محمد اركون صديق، وله ثقافة لا بأس بها، لكن أنا لا اعتبره مفكراً، لأن تكوينه ضعيف. فقد تكون عند المستشرقين الغربيين، والفرنسيين خصوصاً، وهو لا يعرف العربية جيداً. كما أنه لا يمتلك معرفة بالفلسفة الغربية ولا بالتاريخ. كل هذا يجعله عاجزاً عن الكتابة في مسائل معرفية دقيقة. وباستثناء اطروحته، لم يكتب محمد اركون كتاباً مقنعاً من الناحية النظرية والفكرية. ومثل شعراء المناسبات، هو يكتب تحت الطلب، ويتنقل من بلد إلى آخر لإلقاء محاضرات ترضي الجميع، وبعد ذلك يجمعها في كتاب، ثم هو يتقلب بين النظريات، فمرة هو بنيوي، ومرة يقترب من الماركسية، ومرة يغازل فلسفة جاك دريدا. معنى ذلك ان كل ما ينتج الآن من فكر في الرقعة العربية ليست له أية قيمة معرفية؟ - ما ينتج يدعو إلى الفكر، لكن أصحابه لا يفكرون. وهذه هي معضلة الفكر العربي في الفترة الراهنة. وأضيف بأن العرب يعطون قيمة كبيرة لأركون وأمثاله، لأن هؤلاء يعيشون في الغرب... لا أكثر ولا أقل. ولو قرأوهم جيداً، لما وجدوا في كتاباتهم ما يمكن أن يغني العقل والمعرفة. ما هي آخر أعمالك في مجال الفكر؟ - العمل الأساسي الذي أنجزته خلال السنوات العشر الماضية كان حول الفتنة الكبرى. وقد لاقى صدى كبيراً ليس في فرنسا وحدها بل في العالم العربي أيضاً. ثم انشغلت بمشروع كتاب حول الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. وقريباً سيصدر لي كتاب في بيروت عنوانه "أزمة الثقافة الإسلامية"، وهو مجموعة فصول كتبتها بالعربية والفرنسية عن قضايا ثقافية وفكرية وسياسية تتعلق باللحظة الراهنة... وأنا اقول وبكل صراحة بأنه كتاب فوق المستوى الفكري العربي حالياً !