من أين يكون الانتقال الى الديموقراطية؟ سؤال غير مألوف في الفلسفة، ولا في فكر العصر الوسيط جملة، ولذلك كان لا بد من ترجمته الى لغة الفلسفة السياسية، القديمة والوسيطية، إذا نحن أردنا أن يفهمنا الفلاسفة والمفكرون "الوسطويون" العرب الذي نريد الاستنجاد بهم في موضوعنا. لنقل إذاً، بدل العبارة السابقة: "كيف تتعاقب نظم الحكم"؟ إذا طرحنا هذا السؤال على الفلسفة فإنها ستحيلنا بكل تأكيد على أفلاطون. أما إذا طرحناه على الفكر الفلسفي في المغرب فإنه سيشير علينا بابن رشد أولاً، ثم بابن خلدون ثانياً، وليس من ثالث بعدهما! ولسائل أن يسأل: ولماذا لا تطرح هذا السؤال على غيرهما من مفكري الإسلام من متكلمين وأصوليين ومؤرخين ومؤلفين في "نصائح الملوك" و"الآداب السلطانية" الخ؟ نقول جواباً عن هذا السؤال الاعتراضي: ان هؤلاء جميعاً دأبوا على اختزال مسألة الحكم في التاريخ الإسلامي كله في القول: "بدأ الحكم في الإسلام خلافة مع الخلفاء الراشدين ثم انقلب الى ملك عضوض" مع معاوية. وإذا كانوا قد تكلموا في "الخلافة" كثيراً، بكلام مكرور في الغالب، فقد سكتوا عن بيان طبيعة هذا "الملك العضوض" الذي يغطي تاريخ الاسلام كله، باستثناء ثلاثين سنة من الخلافة الراشدة. سنترك هؤلاء، اذاً، لننتقل الى الفلاسفة الذين عرفوا من خلال أفلاطون تفاصيل كثيرة ودقيقة عن طبيعة "الملك العضوض"، وعن أصنافه، وعن كيفية تعاقب هذه الأصناف وتحول بعضها الى بعض. وسنضيف إليهم ابن خلدون الذي قام بمحاولة أصيلة لتفسير طبيعة هذا "الملك العضوض" من داخل التجربة الحضارية العربية الاسلامية. لقد شاع عن أفلاطون أنه صاحب "المدينة الفاضلة" التي اعترف هو نفسه أنها يصعب أن تقوم على الأرض، وانما مكانها "في السماء"، سماء "المثل" التي تتحقق فيها نماذج الأشياء، ومنها نظم الحكم، على أجمل صورة وأكمل ما يكون الشيء. وهذا صحيح. ولكن صحيح أيضاً أن أفلاطون قد حلل وشرَّح النظم الأخرى من الحكم غير الفاضل، نظم المدن المضادة للمدينة الفاضلة. وإذا كان في حديثه عن المدينة الفاضلة يميل الى الخيال والحلم فهو في تحليله الخالد حقاً لمضادات هذه المدينة أي لأنواع الملك العضوض وأسراره وخفاياه - أكثر واقعية وأكثر موضوعية وتدقيقاً من أي محلل يمكن وصفه بهذه الأوصاف، في العالم القديم. *** معلوم أن "الديموقراطية" كلمة يونانية وهي مؤلفة من ديموس بمعنى الشعب، وكراتوس بمعنى سلطة أو حكم. فالديموقراطية إذاً هي "حكم الشعب نفسه بنفسه". ولم يكن أفلاطون يحبذ هذا النوع من الحكم لأن التجربة قد دلته على أن العيب الأكبر الذي يصيب "المدينة" التي يتولى فيها الحكم ساسة من "الشعب" أو الدهماء هو جهل هؤلاء وعدم كفاءتهم، ولذلك قرر أن المدينة لا تكون فاضلة إلا إذا شيدت لبنة لبنة بإعداد رجال الدولة والساسة خير إعداد، فيكونون عارفين بشؤون المدينة الدولة أكفاء قادرين على القيام بمهامهم خير قيام. ومن هنا ارتأى ان المدينة لا تكون فاضلة إلا إذا كان رئيسها فيلسوفاً، وهو ذلك الرجل الواسع المعرفة، الحكيم في تفكيره وسلوكه. لقد نظر الى رئيس المدينة نظرة الناس الى الطبيب. فإذا كان من شرط مزاولة مهنة الطب، التي هي حفظ صحة البدن وإزالة المرض عنه، المعرفة الدقيقة بالبدن وبالأمراض وأسبابها وطرق علاجها، فكذلك يجب أن يشترط في رئاسة المدينة الفاضلة أن يكون رئيسها عارفاً بشؤون المدينة قادراً على أن يحقق العدالة في تدبيره لها. ولكن أفلاطون انتهى كما قلنا الى الإقرار بصعوبة قيام مثل هذه المدينة لأن الفلاسفة قليلون ولا يوجدون في كل وقت، وإذا وجدوا فالناس في الغالب لا يسلمون أمرهم إليهم، ثم ان من الفلاسفة أنفسهم من لا يتصفون بما يلزم من الخصال الحميدة التي لا بد منها في رئيس المدينة. تبقى إذاً المدن التي تقوم في الواقع فعلاً، وهي أنظمة في الحكم جعلها أفلاطون تتعاقب في كتابه "الجمهورية" كما يلي: حكومة الارستقراطية Aristocratie التي ترجمت الى العربية ب"حكومة الأخيار"، وهي أفضل أنواع الحكم الممكنة واقعياً. وبانحلال هذا النوع تقوم التيموقراطية Timocratie وتعني حرفياً دولة الثروة والقوة العسكرية، وقد ترجمت الى العربية ب"رئاسة الكرامة" أو "مدينة الغلبة" لكون أصحابها يسعون الى "الكرامة"، بمعنى المجد واليسار، عن طريق الفتوحات العسكرية كما كان الشأن في اسبرطة. وبانحلال التيموقراطية تنشأ الأوليغارشية Oligarchie أي حكومة الأقلية من الأغنياء، وقد ترجمت الى العربية ب"رئاسة القلة" وب"رئاسة الخسة" و"برئاسة خدمة المال" وب"رئاسة اليسار". وبانحلال الأوليغارشية تقوم الديموقراطية Democratie وهي "حكم الشعب نفسه بنفسه"، وعرف هذا النوع في الترجمات العربية القديمة ب"الرئاسة الجماعية" وب"مدينة الحرية". فالديموقراطية عند اليونان هي المدينة الجماعية التي يغلب فيها ما هو طبيعي وفطري ولا تتجاوز في الغالب ما هو ضروري، ويكون السؤدد فيها لذوي النسب والحسب، وبانحلال الديموقراطية تعم الفوضى ويكون المآل قيام الحكم الاستبدادي أو الطغيان Tyrannie وقد ترجم هذا المصطلح قديماً ب"مدينة التغلب" أو "رئاسة وحدانية التسلط". وهكذا تنحصر نظم الحكم الواقعية بين طرفين، أحدهما حكومة الأخيار الأرستقراطية Aristocratie وهي الأقرب الى المدينة الفاضلة، والآخر حكومة الطاغية وحداني التسلط Tyrannie وهي في الطرف المقابل الأبعد عن المدينة الفاضلة. وبين هذين الطرفين تتعاقب نظم الحكم عبر التيموقراطية والأوليغارشية والديموقراطية. على أن أفلاطون يعود في مؤلفات أخرى ليصنف الحكومات حسب كونها دستورية تحكم بالقانون أو غير دستورية تحكم بالهوى، وانطلاقاً من كون الحكم فيها في يد فرد أو أقلية أو في يد الجميع. وهكذا فالحاكم الفرد قد يكون على رأس حكم ملكي دستوري وقد يكون على رأس حكم استبدادي، والأقلية الحاكمة قد تكون دستورية فتكون حكومتها "حكومة الأخيار" الأرستقراطية وقد تكون غير دستورية وحكومتها حكومة الأغنياء الأوليغارشية، أما الحكم الجماعي الديموقراطية فقد يكون معتدلاً وقد يكون متطرفاً. وأفضل نظم الحكم حسب هذا المقياس الجديد هي الملكية المقيدة بدستور وبهيئات نيابية تمثل الجميع. انه نظام في الحكم مركب، يجمع بين الملكية والديموقراطية ويتجنب المساوئ. يتجنب مساوئ حب السلطة والانفراد بها، كما يتجنب المغالاة في حب الحرية. وبالجمع بينهما بالشكل الملائم يحصل التوازن الذي يحكمه مبدأ الحكمة المفترض في النظام الملكي ومبدأ الحرية الذي تقوم عليه الديموقراطية. ذلك هو ما انتهى إليه أفلاطون في آخر كتاب له في الموضوع: كتاب "القوانين" ترجم الى العربية باسم "النواميس". فكيف قرأ الفيلسوف المغربي الاندلسي، أبو الوليد ابن رشد، هذه النظم؟ اختصر فيلسوفنا كتاب "السياسة" لأفلاطون، وهو المعروف اليوم ب"الجمهورية"، وعلق على كثير مما ورد فيه، مطابقاً بين ما قرره أفلاطون في هذا الكتاب وحقب من التاريخ الاسلامي. وفي ما يلي أمثلة: يوافق فيلسوف قرطبة أفلاطون على تحليله كيفية انتقال الحكم من الرئاسة الفاضلة الى الرئاسة الكرامية رئاسة العسكر والفتوحات ويقرأ ذلك التحليل في مراحل من التاريخ الاسلامي. يقول مخاطباً قارئه: "وأنت تقف على الذي قاله أفلاطون في تحول السياسة الفاضلة الى السياسة الكرامية من سياسة العرب في الزمن القديم، لأنهم حاكوا السياسة الفاضلة ثم تحولوا عنها أيام معاوية الى الكرامية"، ثم يضيف: "ويشبه أن يكون الأمر كذلك في السياسة الموجودة اليوم في هذه الجزيرة" 1، يعني الاندلس. ومضمون هذه الملاحظة الأخيرة أن الحكم في المغرب والاندلس كان أقرب الى السياسة الفاضلة على عهد الملك المستنير المتفلسف يوسف بن عبدالمؤمن ثم تحول الى حكم العسكر وطلب المجد من خلال الأعمال العسكرية على عهد ابنه يعقوب المنصور. أما في الأقطار الاسلامية الأخرى فقد تفككت الدولة في كثير منها ما جعلها تعيش وضعية "المدينة الجماعية"، وضعية اللادولة حيث الكلمة للقبائل والعشائر وليس للسلطة المركزية. هذا ما يبرزه فيلسوف قرطبة عندما يقول: "والاجتماعات في كثير من الممالك الاسلامية اليوم انما هي اجتماعات بيوتات لا غير. وانما بقي لهم من النواميس الناموس الذي حفظ عليهم حقوقهم الأولى" 2، يعني نمط العيش في المجتمع القبلي حيث يكتفي الناس بالضروريات. إذا كان ابن رشد لا يترك فرصة خلال عرضه آراء أفلاطون من دون الاشارة الى ما يؤيدها من تاريخ الأقطار الاسلامية، وإذا كان يسهب، بصفة خاصة، في تشريح نظام الحكم الاستبدادي الذي على رأسه الطاغية "وحداني التسلط"، منبهاً غير مرة الى أنه هو الحكم السائد زمن تأليفه كتابه، وكان ذلك في أواخر عمره 3، فإنه لم يفته أن ينبه، عندما كان بصدد شرح كتاب "الخطابة" لأرسطو، الى أن نظم الحكم التي ذكرها هذا الأخير، وهي نفسها التي درسها أفلاطون، لا توجد بسيطة إلا على صعيد التحليل، أما على أرض الواقع فهي في الغالب مركبة. يقول: "وينبغي أن تعلم أن هذه السياسات التي ذكرها أرسطو ليست تلفى بسيطة وانما تلفى أكثر ذلك مركبة، كالحال في السياسة الموجودة الآن زمن الموحدين في المغرب والاندلس، لأنها إذا تؤملت توجد مركبة من فضيلة وكرامة وحرية وتغلب" 4. لنسجل اذاً هذه الشهادة التي يقدمها لنا ابن رشد فهي ما يهمنا من هذا الاستطراد نحو أفلاطون وأرسطو: نظام الحكم في المغرب - على عهد ابن رشد على الأقل - كان مزيجاً من الملكية والأرستقراطية والتيموقراطية والديموقراطية والطغيان. ومع أن فكرة "الدولة المركبة" كانت معروفة منذ اليونان، على الأقل عند أفلاطون وأرسطو، وقد قال بها ابن سينا كذلك، فإن ما يميز وجهة نظر ابن رشد هو فهمه لفكرة التركيب والنموذج العلمي الذي يستوحيه، كما سنرى لاحقاً. وإذاً فسؤالنا الأول: "من أين نريد الانتقال الى الديموقراطية؟"، يجد جوابه ماضياً وحاضراً في مفهوم "الدولة المركبة" كما دلنا على ذلك ابن رشد. فلنتعرف عن كثب على طبيعة هذه الدولة ولنطلب شهادة ابن خلدون، الذي عاش بعد ابن رشد بنحو قرنين من الزمان، ومعلوم أنه إذا اتفق المؤرخ والفيلسوف على شيء فذلك دليل على أن ذلك الشيء من الحقائق لا غبار عليها 1- ابن رشد: الضروري في السياسة، مختصر كتاب السياسة لأفلاطون. نقله من العبرية الى العربية د. أحمد شحلان. مع مدخل ومقدمة تحليلية وشروح الخ لمحمد عابد الجابري. مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت 1998، ص 184 2- نفسه ص 175. 3- انظر ما كتبناه في هذا الموضوع ص 29/337، 63/67 من المرجع نفسه. 4- ابن رشد. تلخيص الخطابة لأرسطو. تحقيق محمد سليم. لجنة تحقيق التراث. القاهرة. د.ت. ص140.