اتيح لي خلال ثلاث سنوات قضيتها في موسكو ان ارى خروتشوف عشرات المرات، وان احادثه اكثر من مرة. اما المرة الاولى التي رأيته فيها عن قرب فكانت في نيويورك، اثناء انعقاد الدورة الخامسة عشرة للامم المتحدة في سنة 1960، تلك الدورة المشهورة التي حفلت باكبر عدد من رؤساء الدول وزعماء العالم، بينهم آيزنهاور، وماكميلان، وتيتو، ونهرو، وسوكارنو، وكاسترو، ونكروما، والملك حسين، وجمال عبدالناصر، وخروتشوف. وبينما كنت اغادر قاعة الجمعية العامة خلال احد الاجتماعات، وجدتني وجهاً لوجه امام خروتشوف الذي كان جالساً مع الوفد السوفياتي. وكنت اعلم بوجوده في نيويورك لحضور الدورة طبعاً، ولكن رؤيته للمرة الاولى، مع ذلك، كانت مفاجأة فتوقفت في مكاني ثانية او بضع ثانية، دون شعور مني، وأنا امام هذا الرجل الذي كانت بيده سلطات اكبر مما لدى اي رجل آخر في العالم، حتى اصبحت شخصيته اشبه باسطورة امتزجت امتزاجاً غريباً باحداث العالم اليومية الممعنة في واقعيتها. كان شعوري في تلك اللحظة شعور من يقابل شخصاً يعرفه معرفة جيدة، ولكنه لم يره منذ مدة طويلة، حتى ابتعدت الصورة التي كانت في ذهنه عن حقيقة ملامحه وتعابيره. لقد كان خروتشوف في تلك الايام ملء السمع والبصر، وكانت صورته - لكثرة ما كررت نشرها الصحف والمجلات بأوضاع مختلفة - معروفة لكل انسان، ومع ذلك، فقد وجدته في تلك اللحظات القصار الاولى، يختلف اختلافاً غير قليل عن الصورة التي كانت مطبوعة في مخيلتي. كان اول ما جذب انتباهي نعومة في تقاطعيه، ورقّة في نظراته لم اعهدهما في تصاويره التي كنت اراها كل يوم، والتي كان يظهر فيها فظاً، قاسياً، وربما بعيداً عن الانسانية. وكانت عيناه صغيرتين، زرقاوين بلون السماء، يشع منهما بريق غريب.. او هكذا خيّل اليّ. وكان له - على الرغم من صلعه - شعر اكثر مما يظهر في الصور وكان في بعضها يبدو وكأنه لا شعر له مطلقاً، وكان شعره ناصع البياض، رقيقاً كخصلة من حرير ابيض، ورأسه اصغر مما كنت اظن. ثم رأيته مرّة اخرى في الدورة نفسها، بينما كان مندوب الفيلبين سومولونغ يهاجم الاتحاد السوفياتي ويشجب سيطرته على دول اوروبا الشرقية، فقد سمعت خلفي - كما سمع غيري - دمدمة مفاجئة. فالتفتّ - كما التفت غيري - فرأيت خروتشوف يضرب بقبضتيه على المنضدة امامه، اشبه بدبّ هائج. ثم زاد هياجه وانحنى الى الارض فجأة، فلم يدر احد ماذا يصنع. واذا به يخلع حذاءه الايمن ويلوّح به في وجه مندوب الفيليبين، ثم اخذ يطرق المنضدة بكعب الحذاء ضربات متقطعة رنانة. وتكرر هذا المشهد مرة اخرى حينما كان سير فرانسيس ويلكوكس، وكيل وزارة الخارجية البريطانية المساعد، يتكلم خلال مناقشة موضوع الاستعمار. لقد كان هذان الخطيبان يهاجمان سياسة الاتحاد السوفياتي علناً، وهو امر لم يألفه قطّ، بل هي تجربة لعله يمرّ بها للمرة الاولى في حياته. وحانت مني نظرة الى اندريه غروميكو، وزير الخارجية، الذي كان جالساً الى جانبه، وكانت على وجهه تعابير تدل - بما لا يمكن للمرء ان يخطئ في تفسيره - انه لفرط خجله كان يتمنى لو انشقت الارض تحت قدميه وابتلعته. ورأيت خروتشوف ايضاً على شاشة التلفزيون الاميركي وهو يحادث الصحافيين من شرفة مقرّ الوفد السوفياتي لدى الاممالمتحدة، يجيبهم عن اسئلتهم المحرجة باجوبة بعضها مقنع، وبعضها مضحك، وبعضها مراوغ. حفلة استقبال في موسكو وشاءت الظروف في سنة 1963 ان انتقل الى موسكو، فرأيته في معظم المناسبات الرسمية التي تحضرها الهيئة الديبلوماسية، وفي استقبال اغلب الضيوف الذين يأتون الى موسكو بزيارة رسمية، وفي حفلات الاستقبال التي تقام في الكرملين تكريماً لهم. وكان في جميع هذه المناسبات دائم الحركة، لا يقرّ له قرار، كثير الابتسام، حاضر النكتة. وكان اذا القى نكتة اعقبها بضحكة عريضة ينفرج خلالها فمه عن اسنان بعضها معدنيّ، ويهتز معها صدره وكرشه بجذل، وكأنه لا يحمل كل تلك المسؤوليات الجسام ومشاكل العالم الخطيرة على كاهله. وفي حفلة اقيمت تكريماً للرئيس اليوغوسلافي الراحل تيتو كان خروتشوف يتحدث الى ضيفه ومعهما اثنان او ثلاثة من المسؤولين السوفيات واليوغوسلافيين. ويظهر ان تيتو افتقد ميكويان الذي كان في ذلك الوقت رئيساً ل"البريزيديوم" - اي رئيساً رسمياً او اسمياً للدولة - او ان خروتشوف اراد ان يستشهد به في امر يرويه، او يحيل عليه سؤالاً القاه عليه تيتو. فتلفّت الاثنان قليلاً، وكان ميكويان يحادث شخصاً آخر على بعد بضعة امتار منهما. فماكان من خروتشوف الا وان اتجه اليه في شبه هرولة، ثم امسك به من كمّ سترته، وهو لا يزال يتكلم، وقال له: تعال… تعال، واخذ يسحبه بقوة نحو تيتو، وهو يضحك، غير عابئ بنظرات المدعوين. وكان ميكويان يتبعه، كمايتبع الطفل اباه، ويده ممدودة، وكمّه بيد خروتشوف، وهو يكاد يتعثر، ضاحكاً هو ايضاً، محنيّ الظهر، مرتبكاً من نظرات المدعوّين وابتساماتهم، حتى وصل الاثنان الى الحلقة التي كان فيها تيتو - وكان يضحك لمنظرهما ايضاً - وانغمر الثلاثة في حديث مرح كانت تطغى عليه قهقهات خروتشوف. على ان حياة خروتشوف لم تكن هزلاً ومرحاً كلها، وان هذه الشخصية السياسية الغريبة التي كانت في مظاهرها الخارجية اشبه بمهرّج من مهرّجي السيرك، كانت تخفي وراءها ذكاء حاداً ونشاطاً لا يفتر، واندفاعاً في العمل، ودهاءً سياسياً عرفه عنه كل من تحدث اليه، او تابع سيرته وارتقاءه من صبيّ يعمل راعياً في احدى قرى اوكرايينا الصغيرة، الى ان اصبح الرجل الاول في احدى اكبر دولتين في العالم. لم يتلق خروتشوف تعليماً جيداً، ولا ثقافة منظمة، وكان ابوه عاملاً في منجم. وقد ترك نيكيتا المدرسة وهو في التاسعة من عمره ليعمل راعياً للمواشي في البداية، ثم عاملاً في المعامل والمناجم. وفي الخامسة عشرة من عمره ذهب مع والده الى مدينة يوزوفكا سميّت فيما بعد "ستالينو" وتدعى الآن "دونتسك" ولا ادري ماذا ستسمى غداً - وهي احدى المدن الصناعية المهمة في اوكرايينا وهناك "عملت في مصنع يملكه الالمان، وفي منجم يملكه الفرنسيون، وفي معمل كيمياوي يملكه البلجيكيون… انهم جميعاً الاستعماريون متشابهون… كل ما كانوا يريدونه مني اكثر ما يمكن من العمل بأقل ما يمكن من الاجور". ومع ذلك فقد تدرّج هذا العامل حتى اصبح خليفة ستالين، وقد تمكن من الارتقاء الى تلك المكانة لأنه كان يتمتع بشخصية اقوى واندفاع اشد ودهاء اوسع مما كان لدى سواه من المحيطين بالديكتاتور. وقد ادرك خروتشوف بذكائه الفطري ونظره الثاقب ان الشعب السوفياتي قد آن له ان ينال بعض الوعود بتخفيف الارهاب الستاليني الذي عاش في ظله سنوات طويلة. ولم يكن خطابه السرّي في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي - في الواقع - سوى وعد بأنه لن تكون هنالك عودة الى الستالينية. وهنالك في شخصية خروتشوف عنصر مهم لم يلتفت اليه الكثيرون، واغفل الاشارة اليه معظم من كتبوا عنه، وهو حذره، وقدرته الفائقة على التوقيت الصحيح، ومن القلائل الذين انتبهوا الى هذا العنصر كرانكشو في كتابه عن سيرة خروتشوف، وهو احسن ما كتب عنه حتى الآن. لم ينتم خروتشوف الى البلاشفة الاّ في سنة 1919، وكان في ذلك الوقت في الرابعة والعشرين من عمره. وكان لينين قد تسلم السلطة، والبلاشفة قد توطّد حكمهم الى حد كبير، وكانت كل خطوة تالية خطاها في حياته السياسية تتجلى فيها تلك الصفة، وهي الحذر والتأكد من موطئ قدمه قبل كل خطوة يخطوها. وظهر خروتشوف بعد الثورة مساعداً لمدير احد المناجم في يوزوفكا، وفي الوقت نفسه استأنف دراسته في احدى المدارس المهنية للعمال، وخلال سني الصراع المرير على السلطة بين لينين وتروتسكي وستالين وزينوفييف وكامينيف وغيرهم، كان خروتشوف بعيداً، يعمل بهدوء مديراً لأحد المصانع في اوكرايينا، وبدأ حياته السياسية في سنة 1923 حين اصبح ما يسمى "بوليتروك" اومرشداً سياسياً في مدرسة يوزوفكا الصناعية. وبعد ذلك كان تسلقه الى القمة سريعاً، فقد اصبح سكرتيراً للحزب الشيوعي في احد الاقاليم الصغيرة في اوكرايينا، وهناك اكتشفه كاغانوفيج البلشفي اليهودي القديم الذي كان رئيساً لمنظمة الحزب في اوكرايينا. ولما انضمّ كاغانوفيج الى الزمرة الحاكمة في الكرملين، سحب معه خروتشوف، وجعله سكرتيراً اول لمنظمة الحزب في مدينة موسكو، ثم في منطقة موسكو. وكان خروتشوف في ذلك الوقت في الحادية والاربعين من عمره. وفي الرابعة والاربعين عاد الى اوكرايينا ليشغل المنصب الذي كان يحتله كاغانوفيج قبل سنوات، سكرتيراً اول للحزب فيه. وفي الخامسة والاربعين اضحى عضواً في المكتب السياسي. ولا شكّ ان ستالين كان راضياً عن خروتشوف رضىً تاماً، بدليل ترقيته الى عضوية المكتب السياسي، وهو من ارفع المناصب في الحزب، وكذلك الى سكرتارية الحزب في اوكرايينا، حيث كان الحاكم الفعلي لمنطقة يبلغ سكانها 40 مليوناً، لمدة اثنتي عشرة سنة. وقام خروتشوف خلال هذه الفترة بتنفيذ سياسة ستالين بكل اندفاع، وخاصة في حملات التطهير التي شنّها ستالين في الثلاثينات. وحين مات ستالين في سنة 1953 كان خروتشوف رئيساً للجنة التي الّفت لاعداد مراسم تشييعه ودفنه، وقد دفن ستالين - او بالاصح حُنّط جثمانه ووضع في تابوت زجاجي - الى جانب لينين. وبعد خطاب خروتشوف في المؤتمر العشرين، وحملته الشعواء على الستالينية، أُخرج جثمان ستالين من مرقده الزجاجي، بأمر من خروتشوف نفسه، فأحرق، ودُفن مع الزعماء البلاشفة الآخرين قرب جدار الكرملين. وبعد وفاة ستالين ببضعة اشهر تمكن خروتشوف من الوصول الى منصب السكرتير الاول للحزب الشيوعي بدلاً من مالينكوف الذي احتفظ بمنصب رئيس الوزراء. واخذ نجمه يلمع، او يزداد لمعاناً، منذ ذلك الوقت، اذ اثبت انه كان اكثر الزعماء السوفيات فعالية واندفاعاً في العمل، كما اثبت انه - خلافاً لستالين الصامت، المتحفظ، الرهيب - خطيب جماهيريّ مؤثّر، وشخصية شعبية تحسن الاختلاط بعامة الناس، وحاكماً دائم الحركة والنشاط، لا يأنف من ان يخوض الاوحال بحذائيه اللامعين في تفتيش المزارع، ومشاركة الفلاحين طعامهم ومجلسهم. وبرز في سنتين 1954 و1955 اهتمامه الكبير بالزراعة، وسياسته الجريئة في استغلال ملايين الافدنة من الاراضي البكر. وفي ذلك الوقت ايضاً نجح في مناوراته التي انتهت باقصاء مالينكوف عن رئاسة الوزارة، واحلال بولغانين محله. وفي مطلع سنة 1956 عقد اول مؤتمر للحزب الشيوعي منذ وفاة ستالين، والقى خروتشوف التقرير الرئيسي للحزب، وكانت شخصيته هي الطاغية في جميع جلسات المؤتمر. وفي الايام الاخيرة للمؤتمر ألقى خروتشوف خطاباً آخر سرياً، شجب فيه ستالين، واعمال القسوة والارهاب التي ارتكبها لفرض سيطرته على الحزب بعد موت لينين. وقد اثار هذا الخطاب ازمة شديدة في صفوف الحركة الشيوعية في العالم اجمع، وكانت من جملة نتائجه ثورة مسلحة في هنغاريا، وتغيير في زعامة الحزب الشيوعي في بولونيا. وقد امتدت آثار الخطاب الى الحزب الشيوعي السوفياتي، وأدت الى نزاع شديد في صفوفه، وتفاقم هذا النزاع في سنة 1957 حتى انتهى باقصاء شخصيات مهمة كانت من اقرب المقرّبين الى ستالين بينهم مولوتوف وكاغانوفيج الذي كان له الفضل في وصول خروتشوف الى المكانة التي وصلها ومالينكوف، وقد وصفوا جميعاً بصورة رسمية بأنهم "اعداء الحزب". وعلى اثر هذا الانتصار على منافسيه، حشد خروتشوف اعوانه ومؤيديه في هيئة الرئاسة للجنة المركزية البريزيديوم واصبحت سيطرته على اجهزة الحزب كاملة. وكانت المعارضة المحتملة الوحيدة الباقية تكمن في القوات المسلحة التي يبدو انها كانت غير مرتاحة للسلطات الواسعة التي حصرها خورتشوف بيديه. وقد حسم خروتشوف خلافه مع القادة العسكريين باعفاء جوكوف من منصب وزير الدفاع، واجباره على اعتزال الحياة العامة. وباقصاء جوكوف تخلّص من آخر منافسيه ومعارضيه الحقيقيين والمحتملين، واصبح خليفة ستالين في جميع مناصبه حتى تسنّم في سنة 1958 منصب رئيس الوزراء ايضاً، بعد اعفاء بولغانين. بعد ان وطّد خروتشوف سيطرته الكاملة في الداخل، التفت الى الشؤون الخارجية. وكان الهدف الرئيسي الذي حاول تحقيقه في سياسته الخارجية تخفيف حدّة التوتر في العلاقات بين الشرق والغرب. وفي مطلع 1959 استقبل رئيس وزراء بريطانيا هارولد ماكميلان في موسكو، وفي السنة نفسها اجرى محادثات ودية مع الرئيس الاميركي آيزنهاور. وقد اسفرت هذه الاتصالات عن تحسّن جزئي في جو العلاقات، ولكن حادث اسقاط طائرة التجسس الاميركية "يو - تو" ادى الى توترها من جديد، والغاء مؤتمر القمة الذي كان من المزمع عقده في باريس في 1960. وفي 1960 قام خروتشوف برحلة اخرى الى الدول الآسيوية، ثم حضر دورة الاممالمتحدة في نيويورك، وهناك ادهش العالم بتصرفه الغريب حين اشهر حذاءه. وكان خروتشوف لا يزال يتابع سياسة تقارب مع الغرب، ويدعو الى "التعايش السلمي" حين حاول في خريف 1962 اقامة قاعدة للصواريخ النووية في كوبا. وقد ادى اكتشاف هذه المحاولة الى ازمة خطيرة مع الولاياتالمتحدة وضعت العالم على شفا الحرب، لكنها انتهت بتراجع خروتشوف. وفي 1963 اسفرت الجهود المبذولة لتخفيف حدة التوتر بين الشرق والغرب عن توقيع "اتفاقية موسكو" للحظر الجزئي للتجارب النووية - تلك الاتفاقية التي كان خروتشوف يتباهى في كل مناسبة بأن الفضل الاول في التوصل اليها يعود اليه. وبينما كانت علاقات موسكو مع الغرب في تحسن، فان علاقاتها مع الصين الشيوعية اخذت تتدهور منذ سنة 1960، حتى بلغت اسوأ مراحلها في نهاية 1961 بخروج رئيس وزراء الصين شو ين لاي من المؤتمر الثاني والعشرين للحزب الشيوعي السوفياتي احتجاجاً على قطع خروتشوف علاقات الاتحاد السوفياتي مع البانيا. واهتم خروتشوف منذ سنة 1964 بتنمية علاقات الاتحاد السوفياتي مع كثير من مناطق العالم، بينهاالمنطقة العربية. وفي آذار مارس من تلك السنة زار الجمهورية العربية المتحدة وحضر تدشين المرحلة الاولى من السد العالي الذي أسهم الاتحاد السوفياتي في بنائه اسهاماً رئيسياً. وفي نيسان ابريل من تلك السنة احتفل خروتشوف بعيد ميلاده السبعين. وبهذه المناسبة منح وسام بطل الاتحاد السوفياتي، وكان في ذلك الوقت يبدو في اوج سلطانه، ولكن علامات الوهن الجسمي والتقدم في السن كانت قد بدأت بالظهور عليه. وقد صرّح لزملائه اكثر من مرة بأنه لا يستطيع حمل اعباء السلطة الى ما لا نهاية له. وعلى الرغم من ان الانطباع الذي كان لا يزال يسود العالم الخارجي عن سيطرة خروتشوف الفعالة على الحكم، دون منازع او معارض، فان بوادر الاستياء الشعبي والخيبة التي اخذ الشعب السوفياتي يشعر بها من تكرر وعود لم يتحقق شيء منها، كانت قد بدأت. كان اكبر وعود خروتشوف هو ازدهار الحياة الاقتصادية، واكبر ما فشل فيه هو تحقيق ذلك الازدهار. وبعد عشر سنوات من تأكيدات مستمرة على مشروعات خروتشوف الزراعية، واستغلال الاراضي البكر، والتوسع في استعمال الاسمدة الكيماوية، كانت المحاصيل تتدهور من سنة الى اخرى، والطحين مفقوداً، واللحم لا وجود له في الاسواق. ان انعدام اي مجال للانتقاد الصريح، والمناقشة العلنية للقضايا الراهنة، كانت تعوّض عنه، الى حد ما، روح الفكاهة التي طبع عليها الشعب الروسي، وتطورت لديه بصورة عميقة ساخرة، والتي كانت تظهر من وقت لآخر في شكل نكات سياسية كان الشعب الروسي يتداولها قبل الثورة وبعدها، وقد اخفقت جهود الشرطة السرية، قيصرية كانت ام شيوعية، في قمعها. وكانت هذه النكات التي ينفّس بها الشعب عن مشاعره نحو حكمه، دليلاً صادقاً في كثير من الحالات على حقيقة تلك المشاعر. وأشهر هذه النكات هي التي تنسب الى برنامج "اسئلة وأجوبة" في اذاعة ارمينيا. اذ ان اذاعة ارمينيا - حسب الاسطورة المفترضة - كانت تقدم برنامجاً تتعهد فيه بالاجابة عن اي سؤال يوجهه اليها المستمعون هاتفياً مهما كان السؤال صريحاً او شائكاً من الناحية السياسية. ومنها مثلاً: - السائل: كيف نستطيع ان نعرف ان تطبيق النظام الشيوعي قد بلغ الكمال؟ - اذاعة ارمينيا: تكون الشيوعية قد تحققت بصورة كاملة حينما يصبح اللحم متوافراً لكل فرد، ولا تعود هنالك حاجة للانتظار في صف طويل. - السائل: شكراً. ولكن ما هو اللحم؟ وبعد موت ستالين بعشر سنوات، وبعد وعود خروتشوف المتكررة بالرخاء المادي الذي سيتمتع به الشعب السوفياتي، كان الروس يتهامسون بهذه النكتة: - السائل: ما هي اعظم جرائم ستالين؟ - اذاعة ارمينيا: انه خزن من الحبوب ما يكفي لعشر سنوات فقط. وكان بعض هذه النكات ابعد مغزى، واكثر دلالة، ومنها تلك التي سمعتها في موسكو في اواخر سنة 1963، قبل الاطاحة بخروتشوف بسنة واحدة، وتقول: زار احد مفتشي وزارة التربية مدرسة في قرية صغيرة قريبة من العاصمة. وبينما كان جالساً في مكتب المديرة، قبل ان تصحبه لزيارة الصفوف، اخذت تثني على مزايا طلابها وتقدمهم الدراسي والاجتماعي، واكدت بصورة خاصة على تلميذ صغير اسمه سيرجي قالت انها تتوقع له مستقبلاً باهراً، لأنه متفوق على اقرانه كثيراً. فأعرب المفتش عن رغبته في مقابلة هذا التلميذ، واستدعي سيرجي الى غرفة المديرة، وهناك سأله المفتش بضعة اسئلة في الجغرافيا واللغة الروسية والرياضيات والعلوم، فكانت اجوبته مرضية ولكن لم يكن فيها ما يدل على ذكاء غير اعتيادي. فقال المفتش بدون حماسة زائدة: "نعم، انه يبدو تلميذاً لا بأس به". فأجابت المديرة، وقد لمحت الخيبة التي بدت على اسارير المفتش: "انه اكثر منذ لك.. انه سابق لزمانه…" فنظر المفتش الى التلميذ، وقد تجدد لديه حب الاستطلاع، وقال للمديرة: "حسناً، اريد ان امتحنه على انفراد"، فانسحبت المديرة من الغرفة، فقال المفتش للتلميذ: "قل لي من هو ألد اعداء الشعب السوفياتي؟" فأجاب سيرجي من دون تردد: "انه نيكيتا خروتشوف ايها الرفيق المفتش". فدهش المفتش لهذا الجواب واستدعى المديرة حالاً، وقال لها: "صدقتِ. انه سابق لزمانه بالتأكيد.. بسنة واحدة تقريباً"! وبعد ذلك بسنة واحدة تقريباً، وفي مساء الثلثاء 13 تشرين الاول اكتوبر 1964، كنت اتناول العشاء مع صديق ديبلوماسي سوفياتي زاملته بضع سنوات في عاصمة اخرى، وكان في زيارة الى موسكو قبل ان يلتحق بعمله الجديد في نيودلهي. وكان معناً صحفيّ سوفياتي يعمل في احدى وكالات الانباء. وصادف ان دار الحديث على العشاء عن ستالين، فبدا لي ان اسأل الديبلوماسي السوفياتي - وكنت اداعبه واغيظه احياناً - "لقد حكم ستالين الاتحاد السوفياتي 30 سنة، فمتى بدأت مساوؤه"؟ - ففكر قليلاً ثم اجاب: "في السنوات العشر الاخيرة". - قلت: "اذن كان لا بد من انتظار موته للتخلص منه، فماذا لو امتد به الاجل عشر سنوات اخرى؟". فكان جوابه ان روى لي قصة - سبق ان سمعتها اكثر من مرة، ولكنني اصغيت اليها مجاملة - وهي انه بينما كان خروتشوف يلقي خطابه السري المشهور في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي - ذلك الخطاب الذي شجب فيه ستالين وسياسته - وصلته الى المنبر ورقة من احد الاعضاء، كتب عليها: "اين كنت حين ارتكب ستالين كل هذه الاخطاء؟ ولماذا بقيت ساكتاً؟". فنظر خروتشوف الى الحاضرين وقال: "ارجو من الرفيق الذي ارسل هذه الورقة ان ينهض لأجيب عن سؤاله"… فساد القاعة صمت رهيب، ولم ينهض احد بطبيعة الحال. فقال خروتشوف: "لقد كنت مثلك أيها الرفيق، كنت اخاف انا ايضاً"! سألت صديقي السوفياتي بعد ان اكمل رواية قصته وهي مختلقة في اغلب الظن: "هل علينا ان ننتظر موت خروتشوف لكي نعرف ما هي اخطاؤه"؟. فقال: "كلا، فقد تغير الزمن الآن، واصبح هنالك رأي عام واع، وصحافة حرة في الانتقاد، ولا يمكن لمسؤول ان يرتكب اخطاء جسيمة ثم يستمر في الحكم حتى الآن". - قلت: هل افهم من قولك ان خروتشوف لم يرتكب اخطاء جسيمة حتى الآن؟ - قال: لو فعل لما بقي في منصبه. وحين افترقنا تلك الامسية، ألحّ علينا صديقنا الصحافي ان نجتمع على العشاء مرة اخرى - بدعوة منه - قبل مغادرة صاحبنا الى مقرّ عمله الجديد، واقترح مساء الجمعة، حيث كان سيسافر في اليوم التالي، فقلت انني سأحاول الحضور وان كنت لا استطيع ان اقطع وعداً بذلك لأنني كنت مرتبطاً بموعد سابق وسأحاول التخلص منه اذا استطعت. وفي صباح الخميس، 15 تشرين الاول اكتوبر 1964، اي بعد تلك الجلسة بيومين، وصلت الى عملي فوجدت الصحف السوفياتية الصادرة صباح ذلك اليوم على مكتبي، وكان في الصفحة الاولى من احداها لعلها كانت "البرافدا" صورتان لكوسيغين وبريجنيف، والى جانبهما قرار اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي باعفاء خروتشوف من جميع مناصبه. لقد كان هذا الخبر مفاجأة مذهلة للرأي العام السوفياتي، وكذلك لنا نحن اعضاء الهيئة الديبلوماسية الاجنبية. وعلى الرغم من ان القرار اشار الى ان "الاعفاء" تمّ بناء على طلب خروتشوف نفسه، بسبب تقدمه في السن وتدهور صحته، فلم يكن هنالك من حمل هذا التفسير محمل الجد. ولم تمض أيام قلائل الا وأخذت الصحف السوفياتية تهاجم خروتشوف، تلميحاً في بادئ الأمر، بشجب أعماله ومشروعاته، ثم اصبحت تهاجمه بصراحة، وصارت تفاصيل الاطاحة به تعرف واحدة بعد اخرى، حتى اكتملت الصورة او كادت. كان زملاء خروتشوف قد اجمعوا امرهم، وهو بعيد يستجمّ على ساحل البحر الأسود، وتألّب عليه كل من سبق ان خالفه في رأي او مشروع ولم يجد في عهده الفرصة لاعلان معارضته. وعلى الرغم من ان زملاءه لم يعارضوا الخط الرئيسي لسياسته وقد أثبتت ذلك اعمالهم التالية فانهم كانوا مستائين لقراراته الفجائية، الارتجالية، ولتهوّره، وأساليبه المغامرة. وكانوا غير راضين عما احدثه في اقتصاديات البلاد من ارتباك، وعن مشروعاته غير المدروسة، والتي لم تكن لها اهداف واضحة، ولم تؤد الى أي نتائج مفيدة. وأهم من كل ذلك، فانهم كانوا ساخطين على حصره السلطات كلها بيده. واستدعي خروتشوف للحضور الى موسكو بصورة عاجلة، لأشغال طارئة مهمة، وكان مدبرو العملية قد ضمنوا تأييد الشرطة - عن طريق شيليبين - وكذلك كان الجيش مؤيداً لهم. ولما مثل خروتشوف امامهم، نهضوا واحداً بعد آخر - وكان بعضهم مديناً له بكل كيانه - فحاسبوه، وسردوا اخطاءه ومساوءه وفشله في سياسته الاقتصادية والزراعية والادارية، وهاجموا اجراءاته غير المتّسقة، وتقلباته المفاجئة في السياسة الداخلية، وانتهازيته، وعدم ثباته، وتبجّحه الذي لا ينتهي. لاموه على عدم الاستقرار الذي سببه في الدول الاشتراكية، وإيصاله الخلاف مع الصين الى ابعاد يصعب الرجوع عنها مما احدث شقاً خطيراً في العالم الشيوعي وانتقدوه على تساهله الزائد مع اميركا، ومغازلاته مع بون. شجبوا اقصاءه عسكريين ممتازين، وموظفين اكفاء، ورفعه اقاربه وغيرهم من المتزلفين والانتهازيين الى المناصب العليا وتشجيعه "عبادة الشخصية" وتمجيده نفسه، خلافا لعهد قطعه في بداية حكمه، وأخذوا عليه كثرة غيابه في رحلات طويلة بدافع الرغبة في السياحة، دون ان تكون لها أي فائدة للبلاد، وتصرفاته الشخصية العلنية في كثير من المناسبات خلال السنوات الماضية، تلك التصرفات التي تشين اي مواطن عادي، ولكنها اسوأ وأقبح حين تصدر عن السكرتير الأول للحزب الشيوعي السوفياتي، وانه حين خلع حذاءه وطرق به المنضدة في الأممالمتحدة في سنة 1960، جلب العار لا لنفسه فحسب، بل للشعب السوفياتي الذي كان يمثّله. ان تصرفاته وعدم سيطرته على نفسه في رأيهم لا تليق برجل دولة. ثم لاموه على انفراده برسم السياسة، وحكمه عن طريق شبكته الخاصة من الاعوان والمقربين دون الرجوع بالقدر الكافي الى زملائه الذين يشاركونه في المسؤولية. وأخيراً قالوا انه كان متقدماً في السن، وان حكومة الاتحاد السوفياتي وزعامة الحزب الشيوعي، اهم من ان تتركا - دون رقيب ولا حسيب - لنزوات شخص لا يمكن السيطرة عليه، شخص اثبت انه غير قادر على العمل الجماعي.. ولذلك كله طلبوا اليه ان يستقيل. ودافع خروتشوف عن نفسه بحرارة وحماسة، وردّ على الهجمات بشدّة، وقال انه حقق للاتحاد السوفياتي منجزات عظيمة، وأحدث فيه تغييرات كبيرة، وتصرّف بحزم وجرأة في مواقف كان الآخرون خلالها خائفين. والواقع انه قام بكل ذلك فعلاً، وكان من حقه ان يتساءل من الذي كان يستطيع ان يقوم به سواه، ولكنه اذ حقق كل ذلك، فان مهمته كانت قد انتهت. انه أوصل الاتحاد السوفياتي الى مشارف عهد جديد. وكان زملاؤه يعرفون ذلك حق المعرفة، ولكنهم كانوا يعلمون ايضاً ان خروتشوف لا يمكن ان يكون دليلهم الهادي في ذلك العهد الجديد. ان تشرشل الذي تسلم مقاليد الأمور في بريطانيا وقادها الى النصر في اعظم حرب عرفتها البشرية في تاريخها، وجد الشعب البريطاني ان مهمته قد انتهت بانتهاء الحرب، فاختار غيره ليقود البلاد في عهد السلام. ولكن خروتشوف لم يكن ليفهم ذلك، وقد يكون له بعض العذر في ذلك. في ذلك اليوم انتهى خروتشوف وعلى اثر اعلان الاستقالة، او الاقالة، قررت حضور دعوة العشاء التي كان سيقيمها صديقنا الصحافي السوفياتي توديعاً لزميلنا. وكان موعدها مساء الجمعة 17 تشرين الأول اكتوبر، اي في اليوم التالي لاعلان الخبر. وكنت حريصاً على حضورها لأرى كيف سيبرز زميلي ما نسب الى خروتشوف من اخطاء "جسيمة" تعود الى بضعة اعوام. ولكن خيبتي كانت كبيرة حين دخلت مطعم "براغ" الذي اتفقنا على اللقاء فيه، ووجدت صاحب الدعوة بمفرده، فقال لي ان صديقنا اتصل به قبيل خروجه واعتذر عن الحضور لأنه مشغول بحزم امتعته. وقد ضحك حين رآني، ولعله ادرك السبب في حضوري، بعد ان كنت متردداً في قبول الدعوة. وبعد ان تبادلنا السلام والمجاملات الاعتيادية، سألته ما هي آخر نكتة سمعتها بمناسبة اقصاء خروتشوف؟ فقال: تقسيم جديد لتاريخ الاتحاد السوفياتي الى ثلاث مراحل: - 6 سنوات لينينية. - 30 سنة ارهابية. - 10 سنوات سياحية. والاشارة في الفترة الاخيرة تعريض بخروتشوف يفيد انه قضّى وقته كله في الأسفار. واختفى خروتشوف من المسرح السياسي فجأة، والى الأبد، وغابت صورته عن الصفحات الأولى من الصحف السوفياتية، كما غابت عن الصحف العالمية بعد مدة قصيرة. ولم يشاهد خروتشوف في موسكو بعدها الا مرة واحدة، حين حضر ليدلي بصوته لكوسيغين في الانتخابات العامة في 12 حزيران يونيو 1966، فحادثه خلالها عدد من الصحافيين الاجانب، والتقطوا له بعض الصور، وقد صرّح لهم في تلك المناسبة حين سألوه كيف يقضي اوقاته، قائلاً: "أقرأ كثيراً، وأخرج للمشي، وأشاهد التلفزيون.. انني متقاعد، وماذا يفعل المتقاعد غير هذا"؟ وترددت عن خروتشوف، بعد ذلك، اخبار قليلة، جاء في بعضها انه كان مريضاً، وانه أصيب بنوبة قلبية مرتين. ثم عاد اسم خروتشوف الى الظهور في الصحف الغربية مرة اخرى بمناسبة نشر المذكرات التي نسبت اليه. وقد نفى خروتشوف صحة تلك المذكرات - كما كان لا بدّ له ان يفعل حتى وإن كانت صحيحة - وبقي المعلقون الغربيون مختلفين في امرها. وفي 10 ايلول سبتمبر 1971 اصيب خروتشوف بنوبة قلبية أخرى، فنقل الى المستشفى، ولكنه لم ينج منها. وهكذا مات للمرة الثانية، موتاً طبيعياً، بعد ان مات سياسياً قبل ذلك بسبع سنوات. ان اقصاء خروتشوف من مناصبه وهو لا يزال على قيد الحياة مهما كانت الطريقة التي تم بها ذلك ثم موته بعد ذلك بسنوات، في مستشفى محترم، وحوله اهله وأحفاده، دون ان يختفي من داره ليلاً، او يعدم رمياً بالرصاص بتهمة الخيانة، كان - بلا ريب - رمزاً لأعظم ما حققه خروتشوف من تغيير في الاتحاد السوفياتي