مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية التي ستجرى في ايران بعد ستة اشهر، يبدو الرئيس محمد خاتمي المرشح الوحيد القادر على الفوز بالتزكية، فالمرشحون الجديون غائبون أو معرضون عن خوض الانتخابات. وقد سارع الدكتور علي أكبر ولايتي وزير الخارجية السابق الى نفي احتمال ترشيحه. كما ان الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني نفى بدوره ذلك الاحتمال. أما الجنرال السابق محسن رضائي فهو يتقدم خطوة ويتراجع خطوات. وأمام هذا الوضع لم يجد المحافظون سوى التحذير من ان بقاء محمد خاتمي المرشح الوحيد سيفقد الانتخابات الرئاسية زخمها والغرض منها وهو حق الاختيار الشعبي من بين المرشحين والتيارات والاحزاب. هذا الانفراد، يوحي بأن خاتمي في أفضل حالاته، واذا أدخل اليأس في قلوب منافسيه، لأنهم لن يخسروا المعركة بفارق معقول وانما بفارق يلغي دور المهزوم سياسياً. وأبلغ دليل على ذلك الشيخ ناطق نوري الذي خرج من المسرح السياسي بعد خسارته للرئاسة فلم يفكر حتى بترشيح نفسه لعضوية مجلس الشورى. لكن هذه الصورة الزاهية كما يرى الخبراء والمطلعون على الوضع الايراني ليست سوى أحد وجهي العملة. أما الوجه الثاني فإنه وان لم يكن قائماً، فإن الأسئلة الكثيرة التي تملأ سماء طهران تجعله رمادياً يحمل في طياته نذر عواصف شديدة تطاول خاتمي: هل يستطيع متابعة معركة الاصلاح؟ هل يملك القدرة أو الامكانات لذلك؟ وهل يستطيع لو أراد ان يعيد التوازن الذي اختل لمصلحة المحافظين؟ سيناريو "الانقلاب الأبيض" يرى المطلعون على الوضع في ايران ان المحافظين لم ينجحوا فقط في افشال "الانقلاب الأبيض" للاصلاحيين ضدهم، من خلال خطة محكمة نفذوها بدقة وبثبات، بل ايضاً على وشك النجاح في تحقيق "انقلاب ابيض" لمصلحتهم، وتتلخص الخطوات التنفيذية لهذا "الانقلاب الأبيض" للمحافظين في: - شن حملة تعبوية في الاعلام الرسمي والمساجد و"الحسينيات" ضد "الانقلاب" الذي يخطط له الاصلاحيون، وتصوير ذلك باعتباره عملاً ضد "الجمهورية الاسلامية"، ولا يهدف الى انجاز اصلاح يؤهلها لدخول العقد الثالث من عمرها بالسلامة لمواجهة استحقاقات القرن الجديد. - ضرب الصحافة المقروءة من خلال اغلاق الصحف 15 صحيفة وسجن رؤساء التحرير والمعلقين والكتاب اكبر لنجي، ماشاء الله شمس الواعظين، عماد الدين باقي وبهذا خسر الإصلاحيون قادة ألويتهم الذين يتولون نشر أفكارهم. - سجن كبار المفكرين وتهديد الكادرات وملاحقة كل نجم صاعد يستطيع حمل مهمة الاصلاح عبدالله نوري، محسن كديور، كشفوري ومحاولة اغتيال حجاريان التي انتهت بشلل نصفي له. - وضع عطاءالله مهاجراني وزير الارشاد والثقافة على حافة السكين لشل نشاطه السياسي والفكري. على رغم ذلك كله فإن الرئيس خاتمي والاصلاحيين نجحوا في اكتساح خصومهم من المحافظين في الانتخابات التشريعية. لكن خاتمي، كما يرى الكثيرون من أنصاره، لم يحسن استثمار هذا النصر، وبدلاً من ان يعمد وهو يملك الغالبية المطلقة داخل مجلس الشورى لتقديم استقالة حكومته وتشكيل حكومة جديدة تؤكد خيار الاصلاح السياسي والاقتصادي من خلال اسماء مقبولة يقرها المجلس بلا عقبات، فقد اختار الانكفاء والتقدم بتعديل أو تعديلين. وفي تقدير المراقبين، ان خاتمي، وان كان واثقاً من تشكيل الحكومة التي يريدها، فهو تراجع خوفاً من الاصطدام مباشرة بالمرشد آية الله علي خامنئي، الأمر الذي يحول الأزمة الى مشكلة دستورية غير مرغوب فيها حالياً. لكن هذا التراجع مهما كانت مبرراته، اضعف خاتمي، اذ اصبح في مواجهة غير مكشوفة مع التيار الشعبي الذي يدعمه للاسراع في اجراء الاصلاحات المطلوبة. ووجد نفسه للمرة الأولى في مواجهة نواب مجلس الشورى الذين يؤيدونه. ولعل "العقاب" الذي ألحقه النواب بخاتمي في رفضهم نصرالله جهانفيرد المرشح لوزارة الاتصالات "لعدم كفاءته واطلاعه على الملفات"، ما يؤكد التململ الحاصل في صفوف الاصلاحيين بما فيهم حزب المشاركة الذي يرأسه شقيقه محمد رضا خاتمي. فلولا انضمام عدد من نواب "المشاركة" الى المعترضين لما سقط صوت ضده 117 نائباً في مقابل 99 معه وامتناع 25 نائباً عن التصويت. هذا "الانقلاب" داخل مجلس الشورى - كما يرى مطلعون - ليس آنياً، بل هو بداية تحول عميق، سيكتمل مع كل تراجع لخاتمي مهما تعددت أسبابه. فمجلس الشورى لن يقع في مواجهة مع الرئيس، لكنه سيعمل على المشاركة في تحمل المسؤولية لئلا يبقى خاتمي وحده في وجه العاصفة معرضاً شعبيته وموقعه للخطر. وهذا التحول الذي يعني انتقال النواب من دور المساند الى دور الفاعل يعزز التحول الديموقراطي في الجمهورية الاسلامية، ويحصن الاصلاحيين في حال تعرض خاتمي لأي هزة أو ضغط لا يقوى على مواجهتها منفرداً. وتكمن في حيثيات قضيتي مهاجراني وآية الله حسين علي منتظري تفاصيل التحولات العميقة في المسرح السياسي الايراني. فاستقالة مهاجراني أو اقالته او استمراره في موقعه في وزارة الارشاد والثقافة أضحت أحجية في عالم السياسة الايرانية. فالجميع يتحدث عن هذه القضية مع علمهم ان كل شيء معلق على حدث ما تأتي به التطورات المتلاحقة. وأد التوازنات الهشة واستناداً الى مصادر ايرانية مطلعة، فإن "لاستقالة" مهاجراني قصة تتداخل فيها التوازنات الهشة لمراكز القوى، ومحاولة كل طرف تسجيل نقطة لصالحه ضد الطرف الآخر. انطلقت قبل ستة اشهر ضغوط شديدة من جانب المحافظين تطالب بإقالة مهاجراني، بعد نجاحهم في وأد الصحافة الاصلاحية، وإغلاق 15 صحيفة وسجن رؤساء التحرير وكبار الكتاب. واعتبر مهاجراني الذي يعد نفسه ركناً من أركان المشروع الاصلاحي للرئيس خاتمي ان الموقع الرسمي ليس مهماً، لكنه في الوقت نفسه، ونتيجة لتجارب سابقة متمثلة في عملية "تدجين" غلام حسين كرباستشي رئيس بلدية طهران السابق وشريكه في تنظيم "كوادر البناء" الذي تم سجنه بتهم مالية، قرر ان يكون ثمن اقالته مرتفعاً، وسكيناً ذا حدّين بحيث لا تتم تصفيته أو تدجينه. ولذلك وضع استقالته في رسالة من 42 صفحة! وشرح في كتاب الاستقالة الذي رفعه لخاتمي بالتفصيل الضغوط والممارسات التي مورست ضده وضد وزارته، وضد الصحافة والصحافيين. وعدّد الأطراف والمواقع والمسؤولين الذين مارسوا تلك الضغوط. ولم يترك مهاجراني اسماً خارج "شبكته" واصلاً في ذلك الى المرشد آية الله خامنئي ومكتبه. وقد وجد خاتمي ان كتاب الاستقالة أخطر من الاستقالة نفسها، خصوصاً ان مهاجراني أصر على نشره في الصحافة في اللحظة التي يغادر فيها مكتبه عائداً نهائياً الى منزله. وحتى لا تتحول الاستقالة قنبلة سياسية تطيح التوازن الهش في النظام توجه خاتمي الى خامنئي عارضاً عليه كتاب استقالة مهاجراني، مقترحاً ترك الأمور على حالها حتى الانتخابات الرئاسية، حتى يأتي التغيير طبيعياً. لكن لأنه لا توجد أي ضمانات بأن لا يتحول كتاب الاستقالة "كتاباً اسود" لمراكز القوى، فقد استمرت الضغوط ولم تتوقف الى درجة ان هناك من يتحدث كأن مهاجراني قد استقال من موقعه، حتى وهو خلال زيارته الرسمية لليابان، وامام وضع دقيق وجد خاتمي نفسه فيه، وهو بين "مطرقة" ضغوط المحافظين من القمة الى القاعدة لقبول استقالة مهاجراني و"سندان" الضغوط الشعبية لرفض هذا الطلب وعدم تقديم تنازل اضافي للمحافظين، كان خاتمي اختار التفاهم مع مهاجراني على قبول الاستقالة، وذلك بإلغاء كل ما يتعلق بالضغوط التي مورست عليه من القيادة، ومن جانب مكتب المرشد. وقد قبل مهاجراني تقديم هذه "الهدية" لخاتمي قبل الانتخابات الرئاسية، لكن الأزمة ما زالت مفتوحة. أما قضية منتظري فإنها لا تكاد "تنام" حتى تعود بقوة الى الواجهة. بدأت القضية مع تقدم النائب الاصلاحي مصطفى طاهري نجف أبادي بسؤال الى مجلس الشورى قال فيه: هل من العدل والانصاف ان يحد نشاط منتظري الذي ناضل الى جانب الامام الخميني لقيام الجمهورية والذود عنه بحياته وان تحرم الحوزات العلمية من دروسه؟ وقال نجف ابادي: "لو أصغينا لمنتظري لما وقعت المآسي التي شهدناها مثل اغتيال المثقفين والمفكرين". وأدرك عدد من علماء الدين "الإشارة" فوجهوا عريضة وقعها 52 من علماء "حوزة قم" طالبوا فيها منتظري بأن يقدم دروسه ولو عبر شاشة تلفزيون داخل الحوزات على ان تنقل من مقر اقامته الجبرية. لكن رد منتظري جاء قاسياً، انطلاقاً من موقعه كعلامة وليس كسياسي، فقد رفض هذا الحل، مندداً بدخول رجال الاستخبارات الحوزة، وبذلك نقل المواجهة مع خامنئي الى داخل الحوزات بدلاً من ان تكون قضية سياسية يمكن الالتفاف عليها عبر قرار عزل الامام الخميني له. أمام هذا الوضع المعقد، فإن خاتمي سيصل الى الانتخابات الرئاسية وهو في وضع متأرجح المقاومة ولا يمكنه التراجع فينتصر بذلك المحافظون بطريقة غير مباشرة. والذين يحملون خاتمي مسؤولية هذا الوضع يقولون انه خسر بسبب غرقه في فخ التأني والهدوء وعدم الاسراع باتخاذ الخطوات الضرورية المطلوبة. ويضيف بعضهم الى ذلك ان مشكلة خاتمي تتمثل في انه بقي سياسياً يملك هدفاً كبيراً، لكنه لا يملك استراتيجية متكاملة تقوده الى النجاح. ولذلك فإن تكتيكه الذي بدا في حالات كثيرة ناجحاً لم يؤد الى الهدف المنشود فضاعت نجاحاته بسبب غياب الاستراتيجية المتكاملة.