نائب أمير تبوك يطلع على نسب الإنجاز في المشروعات التي تنفذها أمانة المنطقة    أمير الشرقية يستقبل رئيس وأعضاء جمعية أصدقاء السعودية    وصول الطائرة الإغاثية السعودية السابعة إلى مطار دمشق الدولي    جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل تطلق برنامج «راية» البحثي    ضحاياها 28 فلسطينيا.. مجزرة إسرائيلية جديدة في غزة    طبيب من "تخصصي تبوك" ينقذ حياة راكب توقف قلبه    التشكيل المتوقع لمواجهة الهلال والإتحاد    رصد أكثر من 8 آلاف ساعة تطوعية لجمعية أفق خلال 2024    بلدية الخبر تواصل مشاريع التنمية بأكثر من 107 مشروع تنموي    لياو: شكرًا لجماهير الرياض.. وإنزاغي يؤكد: الإرهاق سبب الخسارة    اللجنة المنظمة لرالي داكار تُجري تعديلاً في نتائج فئة السيارات.. والراجحي يتراجع للمركز الثاني في المرحلة الثانية    الاتحاد الآسيوي لكرة القدم يعلن مواعيد وملاعب كأس آسيا "السعودية 2027"    رئيس جمهورية التشيك يغادر جدة    "الأرصاد": رياح شديدة على منطقة تبوك    ارتفاع أسعار الذهب إلى 2644.79 دولارًا للأوقية    عبد العزيز آل سعود: كيف استطاع "نابليون العرب" توحيد المملكة السعودية تحت قيادته؟    البشت الحساوي".. شهرة وحضور في المحافل المحلية والدولية    القطاع الخاص يسدد 55% من قروضه للبنوك    6 فوائد للطقس البارد لتعزيز الصحة البدنية والعقلية    5 أشياء تجنبها لتحظى بليلة هادئة    السعودية تبدأ أول عملية بيع سندات في عام 2025    الذكاء الاصطناعي ينجح في تنبيه الأطباء إلى مخاطر الانتحار    سفير فلسطين: شكراً حكومة المملكة لتقديمها خدمات لجميع مسلمي العالم    المدينة المنورة تسجّل أعلى كمية ب (49.2) ملم    أمطار جدة: الأمانة تتحرك.. الهلال الأحمر يتأهب.. والمطار ينصح    «شاهقة» رابغ الأقوى.. المسند: خطيرة على السفن    سلمان بن سلطان يستقبل اللهيبي المتنازل عن قاتل ابنته    هندي ينتحر بسبب «نكد» زوجته    النائب العام يتفقد مركز الحماية العدلية    في ربع نهائي كأس خادم الحرمين الشريفين.. كلاسيكو مثير يجمع الهلال والاتحاد.. والتعاون يواجه القادسية    بداية جديدة    أهمية التعبير والإملاء والخط في تأسيس الطلبة    ليلة السامري    محافظ الطائف: القيادة مهتمة وحريصة على توفير الخدمات للمواطنين في مواقعهم    العداوة الداعمة    بلسان الجمل    جلوي بن عبدالعزيز يُكرِّم مدير عام التعليم السابق بالمنطقة    تنامي السجلات التجارية المُصدرة ل 67 %    احتياطات منع الحمل    البلاستيك الدقيق بوابة للسرطان والعقم    جهاز لحماية مرضى الكلى والقلب    "رافد للأوقاف" تنظم اللقاء الأول    استقالة رئيس الحكومة الكندية    أمير حائل يفتتح «مهرجان حرفة»    وزير الخارجية يناقش المستجدات الإقليمية مع نظيره الأمريكي ومع آموس الوضع في لبنان    سورية.. «خارطة طريق» نحو الاستقرار    القيادة رسمت مسار التنمية المستدامة والشاملة    مكة الأكثر أمطاراً في حالة الإثنين    صافرة الفنزويلي "خيسوس" تضبط مواجهة الهلال والاتحاد    لماذا الهلال ثابت ؟!    العالم يصافح المرأة السورية    حماية البذرة..!    سوريا بين تحديات إعادة الهيكلة وتصاعد التوتر في الجنوب    «أبوظبي للغة العربية» يعزّز إستراتيجيته في قطاع النشر    الأمير سعود بن نهار يزور مركزي" السيل والعطيف" ويقف على الأسكان التنموي والميقات.    «سلام» يُخرّج الدفعة السابعة لتأهيل القيادات الشابة للتواصل العالمي    أمير الشرقية يستقبل سفير السودان ومدير الجوازات    غارات الاحتلال تودي بحياة عشرات الفلسطينيين في غزة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عاش في عصر اضطراب كبير وشك مخيف الكاتب الساخر الذي طارد الأحلام
نشر في الحياة يوم 20 - 09 - 1999

حين احتفل بظهور الطبعة الثانية لرواية محمد حسين هيكل "زينب" في العام 1929، كتب إبراهيم عبدالقادر المازني في "السياسة الأسبوعية": "أحب الروايات لأني أحب الأحلام". واليوم يحتفل العالم العربي في مصر وخارجها بهذا الحالم الذي يرى في الروايات أحلاماً. لم تكن أحلام المازني إلا أحلام كوكبة من المثقفين المصريين، أبصروا النور في تواريخ متقاربة. فالعالم الذي ولد فيه المازني 1890-1949 هو العالم المضيء الذي ولد فيه، أو على مقربة منه، طه حسين وعباس العقاد وهيكل وعبدالرحمن شكري، الذين استحقوا بجدارة صفة عادلة هي: صنّاع الثقافة المصرية الحديثة.
نشأ المازني، كما أقرانه، في فترة تاريخية كثيفة، زهد فيها الشعب المصري بالقديم ومضى يبحث عن الجديد المبتكر، وضاق فيها بالاستعمار الانكليزي وأخذ يهجس بالاستقلال الوطني. وترافدت عناصر الضيق والتمرد مفضية إلى ثورة 1919، التي رأى فيها محمد حسين هيكل ثورة وطنية سياسية، لا تستقيم إلا بثورات أخرى في الأدب واللغة والعادات. وإلى هذه الثورات المنشودة، ومنها "ثورة الأدب" وهو عنوان كتاب لهيكل، ينتمي المازني الموزّع على الروايات والأحلام. ولذلك كان طبيعياً أن يدعو المازني إلى الجديد، في الأدب وفي خارج الأدب، وأن ينفتح على أسئلة الحياة والعصر. يقول في تقديمه لديوان العقاد الأول عام 1916: "فلينزل الديوان إلى بحر الحياة مستعزاً بقوته مطمئناً إلى تمرده".
ويكتب في "الديوان" الذي شاركه فيه العقاد وصدر سنتي 1920 و1921، مدافعاً عن شعر جديد: "لا يُعجز أحداً أن يقول لك هل فلان هذا الذي تراه طويل أم قصير... وإنما محك القدرة في تصوير حركات الحياة والعاطفة المعقدة لا ظواهر الأشياء". يحتفي المازني، في قوله الأول، بالقوة العزيزة والتمرد المطمئن، ويدعو، في قوله الثاني، إلى الوقوف على حركة الحياة وجواهر الأشياء، أي الدخول إلى عصر جديد بتفكير جديد، ذلك أن العصر "عهد قلق عظيم واضطراب كبير وشك مخيف"، كما قال ذات مرة.
يتمتع المازني بصفات عديدة متنوعة جديرة بالتأمل والتقدير. فهذا المثقف اللامع، الذي أخذ عليه عبدالرحمن شكري وغيره سرقاته الأدبية، عالج ألواناً من الكتابة مختلفة، وترك جهداً كتابياً لامعاً، يتنافس فيه الكم والكيف على السواء. فكتب الشعر وله فيه ثلاثة أجزاء بدأت في الصدور منذ عام 1915، ومارس النقد الأدبي وخلّف وراءه "شعر حافظ - 1915" و"الشعر غاياته ووسائطه - 1915" و"حصاد الهشيم - 1924" و"قبض الريح - 1927". ولم يكن غريباً عن مثقفي عصره حين أعطى أربع روايات أشهرها "إبراهيم الكاتب - 1931"، التي نظر إليها الراحل علي الراعي بعطف كبير، وعالج المسرحية من دون لمعان كبير، وأعطى مجموعات قصصية ممتازة موزعة في كتبه "صندوق الدنيا" و"خيوط العنكبوت" و"في الطريق". وإلى جانب المقالة الصحافية، إذ انه تفرّغ للصحافة فترة طويلة، قام بترجمة أعمال كثيرة من الانكليزية إلى العربية، منها: "الآباء والأبناء" لتورجينيف و"جريمة اللورد سافيل" لأوسكار وايلد و"سانين" أو "ابن الطبيعة" لارتزييا شيف. وقد اتهمه بعض النقاد بمحاكاة "ابن الطبيعة"، بل بتضمين روايته "إبراهيم الكاتب" صفحات كاملة من الكتاب المذكور. علماً أن المازني كان يحاور ولا يقتبس، ويدرج ما حاوره في نص أدبي له ذاتية المازني ولغته التي لا يشارك فيها أحداً.
وواقع الأمر، ان التوزّع على ألوان متعددة من الكتابة مرتبط بألوان من القراءة مختلفة ومتعددة أيضاً. كأن المازني، الذي عاش عهداً مليئاً ب"القلق العظيم والشك المخيف"، كما كتب في "الديوان"، كان يتطلع إلى اكتشاف زمانه المعقد وتجسيده معاً، بعد أن أدرك ان مسافة شاسعة تفصل بين مصر المقيدة التي تعيش فيها والحضارة الأوروبية المنتصرة المنعتقة من القيود. ولعل هذا القلق الذي يسكن روحاً متمردة، تدرك الفرق الشاسع بينها وبين الآخر الأوروبي، هو الذي دفع الروح المتعطشة إلى قراءات متباينة، حتى لو كانت القراءات انتقائية وسريعة وقليلة الأسئلة. وتعطي العودة إلى فهرس "حصاد الهشيم" صورة عن الروح القلقة التي ترصف المواضيع رصفاً لا تدقيق فيه ولا تنظيم. ففي الكتاب المذكور يجاور شكسبير المتنبي ويزامل عمر الخيام ماكس نورداو ويصاحب لوك ابن الرومي، إضافة إلى أشياء أخرى عن المرأة والموسيقى والتصوف. غير ان هذه القراءات التي لا تخفي ضعفها، على المستوى الفكري، تفصح، في اللحظة ذاتها، عن طموح نبيل إلى امتلاك الثقافة العربية والغربية في آن، غايته النهوض بالمثقف إلى مستوى زمنه، كي ينهض بوطنه إلى المقام الذي يحلم به.
إن تأكيد دور المعرفة المتعددة العناصر، والتي ترتبط بزمنها المعقد وتحاوره، هو الذي جعل المازني ينقد "رخاوة" المنفلوطي وشكري، التي تفصح عن وعي ضيق لا يرتقي إلى مستوى العصر وأسئلته. وعن هذا الطموح الكبير، الذي تضطرب فيه نار مقدسة، جاء "الديوان" بلغته القتالية الملتهبة، التي تعبث بالأصنام الصغيرة والكبيرة. وهذه اللغة، المحمّلة بالبصيرة وبالانفعال الملتهب، أكدت "ديوان" العقاد والمازني بداية للنقد العربي الحديث وكتاباً طليعياً يقيم حداً بين عهدين مختلفين.
أخلص المازني لفكرة "إصلاح الأدب" ورأى فيها أرقى أشكال الاصلاح وأسماها، كما يقول في "الديوان". ويتحدد الاصلاح عنده بالارتقاء إلى معارف العصر وتمثّلها وبتحرير اللغة العربية من "الخزائن المغلقة". واصلاح الأدب هذا اكتشاف لذاتية الأديب وفرديته، التي تميّز "الشاعر" من غيره، وتقرأ ذاتيته في لغته المختلفة عن غيرها. وما تأكيده على "المعنى لا الجِرس، والصدى" إلا صورة عن وعي جديد يرفض "صناعة الكتابة" ويلحّ على الخلق الفكري الذي يطرح أسئلة غير مسبوقة. ولا غرابة، إذاً، أن يعتقد المازني، الذي عمل في مطلع حياته معلماً، أن "بعث الروح المصرية" لصيق ببعث الفردية الإنسانية، القادرة على الحلم والابداع والانزياح عن التقليدي، كما لو كان المجتمع، لا يصبح مجتمعاً إلا إذا وعى أفراده ما يريدون، بعيداً عن قواعد التلقين والاستظهار التقليدية.
خلط السخرية بالأحلام
ويبدو أن المازني، الذي كان في مشيته عرج، قد اكتشف مبكراً أن غيوم الأحلام تتقشع قبل أن تنعقد، وأن الإنسان لا يصل إلى ما يحب، بل يصل إلى المكان الذي ساقه الطريق إليه. ولهذا ركن إلى السخرية وخلط رنين السخرية بأحلام الروايات. كتب مرة ساخراً عن ذاته وأسرته: "وأظنهم استأثروا بالطول في الأعمار والأجسام وفي الحلم والأناة والآمال، وخلّوا لي القصر في هاتيك جميعاً"، وكتب في مقدمة كتابه "حصاد الهشيم" متوجهاً إلى القارئ: "أقسم انك تشتري عصارة عقلي وإن كان فجاً، وثمرة إطلاعي وهو واسع، ومجهود اعصابي وهي سقيمة، بأبخس الأثمان". وربما كانت تلك السخرية وشاية بوعي مبكر باتساع أحلام المثقف واتساع الشروط التي تصيّرها رماداً.
ويظل من الساخر المصري المبدع، بعد خمسين عاماً من رحيله، فضيلة الاجتهاد والمثابرة التي خلفت انتاجاً أدبياً واسعاً فيه صفحات لامعة كثيرة، تتوزع على نقد الشعر والكتابة الروائية، وتبقى منه روح التجديد ومعاندة القديم. ويتراءى خلفه، أولاً، قول مأسوي يترجم آمال المثقف والإنسان: "ورثنا ما لا نحب وتطلعنا إلى ما لا نحققه". وجمال المثقف ان يتطلع إلى ما لا يتحقق، ومأساته أن ما يتطلع إليه لا يجيء أبداً
من أدب المازني في كتابه "قبض الريح" ليلة
من أمتع ما مر بي في هذه الحياة، التي لا أراها ممتعة ولا أحب أن تطول أو تنكر، ليلة قضيتها بين شراب وسماع. فأما الشراب فلعل القارئ أدرى به وأخبر! وأما السماع فقلّ من شجى به كما شجيت في ليلتي تلك! أي والله! وما زلت إلى الساعة، كلما خلوت بنفسي، أغمض عيني وأتسمع وأحاول أن أبتعث ذلك الصوت البديع الذي هاجني الى ما بي كما لم يهجني صوت سواه! وقد أعجب لما يُصب في الأذن أين يذهب؟ وربما أثارني هذا العجز عن إحياء صوت بأكثر من تصوره في ضمير الفؤاد، وقد أغالي في إكبار هذه الثروة الصوتية وأتمنى لو رزقت شيئاً منها بكل ما لي - لو أن لي شيئاً! - ثم أعود فأسخر من نفسي وأضحك من أمنية يستخفني الى انشائها الطرب العارض. ثم أسخر من سخري وأقول لنفسي في حدة "أولا يسر الاسكندر وقيصر وسليمان أن ينزلوا لمثلي عن نصف ما أحرزوا من مجد لو أنه وسعني أن أخول كلاً منهم مما أضفى الله عليَّ من الحياة على ما فيها، ليلة واحدة كهذه التي نعمت فيها؟؟" نعم! ولكنهم قد شملهم ظلام أوركوس على حين أحيا وأطرب! وما أدراني أنهم نعموا بمثل هذا الصوت؟؟ أمن أجل أنهم كانوا ملوكاً أو أقوى وكان لهم سلطان وبأس وبطش، يلزم أن يكونوا قد سعدوا بغناء كهذا، يخف منه حليم.
"راجح حلمه، ويغوى رشيد"؟؟
***
وكانت السماء قد جاد الأرض منها هاضب ثم أقلعت وصفا الجو ورق النسيم فنهضنا الى مائدة مدت تحت أعين النجوم المتلامحة ودرنا عليها نأكل ونشرب ما لا يحسب الحاسب. وأرسل كل منا نفسه على سجيتها وورد من صاحبه "غير المكدر المطروق" وانبسط اليه غير باخس واجباً ثم أخذنا مجالسنا للسماع وآذاننا العود "بالاحسان إيذان صادق الخبر" وأطفنا ببكر من الألحان لم يفض لها خاتم من قبل، ثم رضينا من منظر بمسمع وانطفأ النور، وهفت الى أسماعنا الأنغام من وراء ستور الظلام.
واهاً لذاك الغناء من طبق
على جميع القلوب مقتدر
يملأ روحاً فؤاد سامعه
ويصطلي حره من القرر
كأنه قالب لكل هوى
فكله والمنى على قدر
لا خير في غيره، وهل أمم
من شارب الراح شارب السكر؟*
وكأني لم أكن أسمع بل أُسقى من رحيق الجنان، وكأنه لم يكن غناء مصوغاً من شجى القلوب بل من شعاع العقول، فلم تطر قلوبنا وحدها بل لحقت بها عقولنا، ومضى الصوت على دله بتوحده يجيش نفوسنا ويعصف بسكونها ويزخر أمواجها ويستثير كوامنها ويرسم على الوجوه آثارها، وغبت عن حاضري برهة كررت فيها - ولا أدري كيف؟ الى لحظة من الماضي المغيب الذي استقر في زاوية مظلمة من الذاكرة، فأبصرتني واقفاً مرة أخرى استودع الله لي أحب الناس إليَّ وأعزهم عليَّ وقد امتدت الكفان وتضاغطتا عن أحنى عاطفة وأوجع احساس، وتدانى الوجهان، واختلجت الشفاه وهمت بالتلاقي في قبلة حارة طويلة، ثم تباعدت في فزع كأنما كانت ترقبنا عين، ولا رقيب هناك، وثبت انسان العين بعد أن حُرمناها قبلة فيها برد العاطفة المضطرمة، وازدجرت عنها الشفاه ازدجاراً أضاف الى ألم الحرمان سخر القدر!
وتشبثت هذه الصورة بالارتسام أمام عيني وأنا أصغي إلى ذلك الغناء الساحر الذي يسمو الى السامعين مبارزاً ويستكبر أن يعتصم بمساعد فيخفت حتى العود، ويأبى أن يضاعف تأثيره بالنظر فيضوى حسن الوجه الى الظلام!
وهكذا أمتعنا عبدالوهاب بغبطته في ليلة كانت كلها سحراً. وردني بعدها بغير ذي أُذن الى كل نغمة من سواه، وغير ذي صور إلا الى فتنة من هوى فنّه وشجاه، ولولا أن يعد ذلك جحوداً ولؤماً لتجاوزت عن ذكر اسمه فإنه أحلى عندي وأوقع في نفسي أن أجرد غناءه من صورته الآدمية على حسنها النرجسي، وأن أتصوره أبداً هوى سابحاً وروحاً هائماً وصوتاً هافياً يُشرب بالأذن صرفاً ولا تُشغل العين بمونق زهره، ويستريح الفؤاد الى نسيمه ويتخلى من الشجى بحب مجتهره، ويأنس الصدر الى هديله، وينجو بالقلب من حوره. فعسير على طين ابن آدم أن يُجشم احتمال الفتنتين جميعاً.
* الأبيات لابن الرومي.
المازني كما يراه يوسف أسعد داغر في "مصادر الدراسة الأدبية": .. يوم طلق المدارس منصرفاً الى السياسة والصحافة
من هو: أحد حملة لواء الأدب الرفيع في مصر: أديب، كاتب، ناشر، وشاعر مجيد، وناقد جريء، وصحافي سياسي، كتب في الاجتماع والسياسة، ومترجم دقيق تحرى الأمانة في الترجمة والصدق في النقل. وهو أديب سليم التركيب، متخير اللفظ، وجه مذاهب الكلام في تبصّر ودراية كما تصرف في فنون الانشاء تصرفا لطيفا. فقد كان واسع الخيال، دقيق الحس رهيفه، امتاز بأسلوب تهكمي، لاذع، حرّيف، فيه الكثير من أسلوب الجاحظ وسخريته، كما يتجلى ذلك في كتابه "صندوق الدنيا".
والمازني ناقد جريء، كان من النقاد الأوائل في هذا العصر، الذين بدأوا حياتهم الأدبية بالثورة على المناهج الأدبية القديمة. التقى عبدالرحمن شكري وعباس محمود العقاد، فتلازم الثلاثة وتزاملوا وعملوا على تحطيم هذه الأصنام التي استأثرت بزعامة الأدب، فأصدر مع العقاد "الديوان" وهو معول تهديم استخدماه لاصلاح الأدب العربي وتسديد مناهجه.
وهو أديب قصصي زاول كتابة القصة الطويلة ممثلة ب"ابراهيم الكاتب" و"ثلاثة رجال وامرأة" و"ابراهيم الثاني"، وبرز فيها، كما زاول بتفوق القصة القصيرة، وضعاً وترجمة، فترك منها مئات نشر بعضها في كتب مختلفة العناوين: "خيوط العنكبوت"، و"ميدو وشركاه" و"قصص صغيرة". وهو الى هذا كله، شاعر مجيد، بدأ حياته الأدبية بقرض الشعر فأصدر منه ديوانين، برز بهما بين شعراء الطبقة الأولى في هذا العصر. وله من الشعر غير المطبوع، ما يملأ ثلاثة دواوين شعرية أخرى.
أقبل على الصحافة بكليته فعالج فيها المواضيع الاجتماعية والسياسية، وانقطع عن الأدب والصحافة ورأس تحرير جريدتي "السياسة" و"البلاغ".
ولد في مصر من أب محام، وتعلم في مدارسها الابتدائية والثانوية والعالية، وتخرج من مدرسة المعلمين الخديوية سنة 1909، ثم عين مدرساً للترجمة في المدرسة السعيدية الثانوية، فالخديوية الثانوية، فمدرساً للانكليزية، واستقال من التعليم الرسمي واشتغل مدرساً للتاريخ والترجمة، حتى إذا قامت الحركة الوطنية المصرية طلق المدارس وانصرف الى السياسة والصحافة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.