في افتتاح الكنيست الاسرائيلي الجديد، أعلن رئيس الوزراء السابق شيمون بيريز الذي ترأس الجلسة الاحتفالية "ان السلام الحقيقي وحده يعطي الامل للجيل الجديد، وان الكنيست سيعمل على تحديد حدود الدولة من خلال اتفاقات سلام مع الدول العربية المجاورة". الحدود التوراتية لدولة اسرائيل "محددة من الفرات الى النيل"، ولكن هل يمكن تحقيق ذلك؟... لا شك في ان زعيم حزب العمل، سواء كان شيمون بيريز او ايهود باراك رئيس الحكومة، وزعيم حزب الليكود، سواء كان بنيامين نتانياهو الخاسر في الانتخابات والمعزول حزبياً او أرييل شارون المتطرف، وجهان لعملة واحدة. لقد كان المسؤولون الاسرائيليون في فلسطينالمحتلة وعلى مختلف انتماءاتهم السياسية، وبدعم من الصهيونية العالمية، ومن حكومات واشنطن المتتالية على مر العهود، وكذلك من حكومات بعض دول أوروبا، ولا يزالون يسعون الى تحقيق هدفهم الاستراتيجي في بناء دولتهم "من الفرات الى النيل". وقد زادت حماستهم لتحقيق هذا الهدف بعد قيام دولة اسرائيل عام 1948، وظهور اطماعها التوسعية التي اخذت تزداد مع كل جولة عسكرية مع العرب، على أمل ان تكون الحروب والانتصارات الوسيلة الفضلى لتحقيق الهدف المنشود. الزعامة الإقتصادية واذا كان حزب الليكود يؤيد استمرار استخدام هذه الوسيلة، فإن حزب العمل اتجه بقيادة شيمون بيريز نحو اعتماد وسيلة اخرى وهي السيطرة الاقتصادية على منطقة الشرق الاوسط، بعد الدخول في مسيرة السلام، على أساس ان مثل هذه السيطرة التي تشمل المال والاستثمارات والموارد أهم من السيطرة على "الارض" والتوسع الجغرافي بالقوة العسكرية، وفشل الاستفادة منهما اقتصادياً. واستغلت اسرائيل فترة بدء عملية السلام بشكل جيد وحاولت اظهار نفسها داعية سلام، لتتمكن من استقطاب استثمارت ضخمة، ودعوة عدد من الصناعات العالمية لإقامة مراكز في المنطقة. كما انها اقامت مناطق تجارية حرة مع أوروبا وأميركا. من هنا برزت "الزعامة الاقتصادية" محور صراع في الشرق الاوسط الجديد، وتداولته مؤتمرات وندوات ودراسات ومقالات عدة ومن جوانب مختلفة، ونتجت عنها احداث مهمة برز بعضها مقترحات وبعضها الآخر مشاريع استثمارية، وكلها تدور في اطار تنظيمات اقليمية غير بعيدة عما يسمى التعاون الدولي الذي يهدف الى تدويل الانتاج ودمج الاسواق، وهو ما يعرف باسم "العولمة". ومن خلال المشاريع المتداولة التي كان مصدرها اسرائيل والمؤسسات المالية والاقتصادية الدولية وكذلك الجهات الاميركية والاوروبية الغربية، ومن خلال ما طرح في مؤتمرات الدار البيضاء 1994 وعمان 9951 والقاهرة 1996 للشرق الاوسط وشمال افريقيا، ومؤتمر رجال الاعمال الاوروبي المتوسطي 24 تشرين الاول/ اكتوبر 1995 ومؤتمر برشلونة للتعاون الاوروبي مع الشرق الاوسط، يتبين ان الهدف هو إلغاء ما تمكن تسميته "النظام الاقتصادي العربي الاقليمي"، واقامة نظام اقتصادي للشرق الاوسط الجديد يقوم عبر ثلاثة مستويات متداخلة: الأول: اقامة تجمع اقتصادي ثلاثي يجمع بين الاردن والكيان الفلسطيني واسرائيل. الثاني: اقامة منطقة للتبادل التجاري الحر تضم مصر، اسرائيل، الكيان الفلسطيني، الاردن، سورية ولبنان، على ان تنتهي الترتيبات الخاصة بها العام 2010. الثالث: اقامة منطقة موسعة للتعاون الاقتصادي تشمل إضافة الى منطقة التبادل التجاري الحر، بلدان مجلس التعاون الخليجي، التي يتدفق منها المال والتمويل. وفي ظل النجاح الذي سجله الهدف الاسرائيلي في عهد بيريز، وصف المراقبون قمتي الدار البيضاء وعمان بأنهما سجلا نجاحاً نسبياً في وضع حجر الاساس لما سمي بالتعاون الاقليمي، واثارة اهتمام رؤوس الاموال الدولية بمشاريع مشتركة خاصة في المنطقة. ولا شك في ان ذلك النجاح يعود إلى الخط التصاعدي لحركة التسوية السلمية في ظل حكومة حزب العمل التي اعطت الاولوية للبعد السياسي ضمن طموحها لجعل اسرائيل جزءاً من نسيج المنطقة في اطار اقتناعها بإمكان فرض نفسها قوة اقتصادية اولى بفضل تطورها التكنولوجي. وعلى هذا الاساس كان ينتظر ان يتم خلال القمة الثالثة البدء بتجسيد هذا التعاون من خلال عدد من المشاريع اهمها مشروع مصرف التنمية للشرق الاوسط وشمال أفريقيا. الا ان مجيء الليكود الى السلطة في اسرائيل بزعامة بنيامين نتانياهو، قلب الظروف التي اتاحت نجاح قمتي الدار البيضاء وعمان، ونسف اهداف قمة القاهرة، وعطل مفاوضات السلام على كل المسارات. لقد أكد نتانياهو سياسته الاستفزازية ضد العرب عبر مواصلة مخططات تهويد القدس، بدءاً بإغلاق مؤسسات فلسطينية وهدمها، وانتهاء بإعادة فتح النفق الذي يهدد أساسات المسجد الاقصى، مروراً بمواصلة عملية الاستيطان. وبات واضحاً للجميع ان اليمين الاسرائيلي يسعى إلى فرض استراتيجية جديدة في المنطقة تنسف الاسس التي اتفق عليها في مدريد. حتى ان نتانياهو وقبل انعقاد مؤتمر الدوحة الاقتصادي أكد زوال "الشرق اوسطية" عندما صرح بقوله لا وجود لشيء اسمه "الشرق الاوسط الجديد". وحذر من انه "ينبغي الا يتوقع احد قيام علاقات دافئة ومثمرة بين اسرائيل وكل بلدان الشرق الاوسط". وسبق للسوق الاسرائيلية ان شهدت تدفقاً للاستثمارت الاجنبية، اثر توقيع اتفاقية السلام مع الفلسطينيين عام 1993، وحسب بيانات بنك "هوبو عاليم" بلغ حجم هذه الاستثمارات نحو 604 ملايين دولار في 1994، ووصل الى 03.2 مليار دولار في 1995، وخلال الاشهر الثلاثة الاولى من 1996 بلغت الاستثمارات الاجنبية الفعلية 354 مليون دولار، مع العلم ان قيمة الاستثمار الاجنبي في الاصول الثابتة وصلت الى 780 مليون دولار بعد ان كان هذا النوع من الاستثمار منعدماً قبل اتفاقية السلام. غير ان تدفق الاستثمارات الاجنبية توقف منذ فوز نتانياهو في انتخابات 29 أيار مايو 1996 ورفضه تطبيق اتفاقات السلام مع الفلسطينيين وبعض البلدان العربية المجاورة. وحذر المستثمرون في ذلك الوقت من ضياع ثمار السلام التي جناها الاقتصاد الاسرائيلي. وفي تلك الفترة جرت محاولات اسرائيلية للتطبيع الاقتصادي مع بعض البلدان العربية، وخصوصاً مع مصر والاردن، وبعض دول الخليج، لكنها فشلت بسبب تعثر عملية السلام. ولكن لا بد من الاعتراف ببعض "الاختراقات" للاستثمارات الاسرائيلية في بعض الاسواق العربية سواء منها في قطاع المال والمصارف، او في قطاع السياحة، ومعظمها عن طريق شركات عالمية، يملك المستثمرون اليهود معظم اسهمها. موقف العرب بعد كل هذه التطورات، وفي ظل فشل الولاياتالمتحدة وعجزها عن ممارسة اي ضغوط على اسرائيل، ما هو موقف العرب؟... لقد برزت خطورة التشرذم العربي في ظل الخلافات السياسية، وأهمية تكامل الدول العربية وتوحدها في كيان اقتصادي مقابل التكتلات الاقتصادية الاخرى في العالم، خصوصاً ان المجموعة العربية يبلغ تعدادها حالياً 250 مليون نسمة، وناتجها المحلي الاجمالي 530 مليار دولار وحجم استثماراتها اكثر من 100 مليار دولار. ولديها مخزونات احتياطية هائلة من النفط والغاز الطبيعي والفوسفات وحوالي 200 مليار هكتار من الاراضي القابلة للزراعة لا يستغل سوى ثلثها 67 مليون هكتار. لكن يبدو ان واقع التجزئة العربية والهياكل الانتاجية المتماثلة والمنافسة يلقي بظله الثقيل على طموحات التكتل الاقتصادي العربي. وعلى رغم ذلك اتخذ العرب موقفاً موحداً مطلع العام 1997، وأوصى مؤتمر وزراء الخارجية العرب في الدورة 107 لمجلس الجامعة العربية حكومات الدول الاعضاء بإيقاف خطوات التطبيع التي جرى اتخاذها مع اسرائيل وتعليق المفاوضات المتعددة الاطراف، واستمرار الالتزام بالمقاطعة العربية من الدرجة الاولى وتفعيلها، مع العلم ان اسرائيل سبق ان اعترفت بأن خسائرها من جراء تطبيق المقاطعة بلغت 40 مليار دولار. سلام باراك وفي ضوء كل هذه التطورات شهد العام 1997 "افول نجم الشرق الاوسط" كنتيجة طبيعية لفشل مؤتمر قطر الاقتصادي، وهو الرابع في سلسلة مؤتمرات التعاون الاقتصادي للتنمية في الشرق الاوسط وشمال أفريقيا، وشهد مطلع 1998 بداية تطبيق البرنامج التنفيذي لمنطقة التجارة العربية الحرة والتي وصفها المؤتمر السابع لرجال الاعمال والمستثمرين العرب الذي عقد في بيروت في 18 تشرين الاول 1997 بأنها "رد عملي على التحديات الاقتصادية التي تواجهها البلاد العربية، خصوصاً في ظل الاتجاهات نحو العولمة وقيام تكتلات اقليمية في انحاء مختلفة من العالم" وبذلك يكون العرب قد أكدوا تمسكهم بتكتلهم الاقليمي في مواجهة مشاريع الشرق اوسطية التي تتمسك بها الولاياتالمتحدة وحزب العمل الاسرائيلي، وهي تخفي محاولات قيام "اسرائيل الكبرى" وسيطرتها على منطقة الشرق الاوسط. لقد اعادت السياسة الصهيونية في ظل نتانياهو ترتيب الاوراق بشكل جديد، إذ ظهر للعرب ان سياسة التطبيع وفك المقاطعة كانت سابقة لأوانها، وجوائز ترضية مجانية ومسبقة قدمها العرب قبل ان يستردوا أرضهم وحقوقهم وقبل ان تنفذ الالتزامات والاتفاقات، وظهر للعرب أيضاً ان العدو الصهيوني يريد الارض والسلام معاً، ويعد للحرب والتوسع والاستيطان، ويستمر في تهويد القدس وبناء المستوطنات ويستقدم المزيد من الهجرات ويستعد لتفريغ محتوى ما يسمى بعملية السلام. لكن ما هي التطورات المرتقبة لتحقيق الاهداف الاسرائيلية في السنوت المقبلة؟ في الوقت الذي دعا فيه بيريز لدى افتتاحه الكنيست الجديد الى "تحديد حدود الدولة من خلال اتفاقات سلام مع الدول العربية المجاورة". ومع تشكيل حكومة باراك، تعود الاطماع الى تحقيق السيطرة الاقتصادية في منطقة الشرق الاوسط التي تتجاوز حدود دولة اسرائيل الموعودة "من الفرات الى النيل". فقد تعهدت حكومة باراك الجديدة صنع السلام على طريقتها التي تستند الى القوة العسكرية وعظمة إسرائيل الاقتصادية، وأكدت ذلك من خلال نقاط عدة في برنامجها، أهمها: - أولاً: ان "الحكومة الاسرائيلية ستعمل على وضع حد للصراع الاسرائيلي - العربي بطرق سلمية عبر الاصرار على الامن القومي لإسرائيل، وحصانتها وتطورها، وستسعى الحكومة إلى قيام السلام على الاحترام المتبادل، عبر ضمان المصالح الحيوية والامنية للدولة ومنح الامان الشخصي لجميع مواطنيها. - ثانياً: ان الحكومة ستعمل لتخطيط استراتيجي بعيد المدى بهدف تطوير اسرائيل دولة حديثة تدار بشكل ناجح وعادل وتتقدم بأمن وسلام نحو الالفية الثالثة، أملاً بمستقبل افضل. - ثالثاً: ان الحكومة الإسرائيلية ترى في السلام قيمة أساسية في حياة الشعب، وفي التطلع المتواصل لشعب اسرائيل إلى السلام والامن، وتؤمن الحكومة ان بالامكان وضع حد لدائرة سفك الدماء في منطقتنا، ويستند صنع السلام على جبروت الجيش الاسرائيلي وعظمة اسرائيل الاقتصادية، وعلى قدرة ورغبة الدولة في تحقيق الاستقرار في الشرق الاوسط بشكل يتيح توجيه الموارد للتطوير الاقتصادي والاجتماعي. - رابعاً: في نطاق سياستها لإحلال السلام وترسيخه في الشرق الاوسط ستعمل الحكومة على تطوير منظومات تعاون سياسي واقتصادي وعلمي وثقافي بين شعوب المنطقة. - خامساً: ترى الحكومة الإسرائيلية في مصر والاردن والسلطة الفلسطينية شركاء مهمين في مساعي اقامة السلام في منطقتنا وستجري مع كل منهم حواراً سياسياً دائماً. كما ستعمل على تعميق التفاهم والصداقة والتطوير الاقتصادي والتجارة والسياحة بين الشعب الاسرائيلي والشعوب المصرية والاردنيةوالفلسطينية. أما الموقف العربي، فقد تم تحديده بإجماع الدول العربية في اجتماعات عقدت في اطار الجامعة العربية، في نقطتين اساسيتين: 1- يتعين على اسرائيل ان تدرك ان من الضروري معالجة القضايا السياسية المتعلقة بالصراع العربي - الاسرائيلي قبل الشروع في اقامة علاقات تعاون اقتصادي مع الدول العربية، وان ذلك يتطلب انسحابها من الاراضي العربية المحتلة وفق قرارات الشرعية الدولية. 2- ان أمتنا العربية ترفض اقامة اي تعاون اقليمي مع اسرائيل طالما ظلت متمسكة بالارض، وتخطئ ان هي ظنت انه يمكنها ان تحصل على الارض والسلام معاً. إن عليها ان تدرك ان التعاون الاقتصادي الاقليمي رهن بتحقيق السلام العادل والشامل، وان هذا التعاون ان تحقق هو تعاون بين شركاء دون هيمنة طرف على آخر ولا أولوية فيه لمصلحة احد على حساب آخر