لم يندمل بعد جرح الأسرى الكويتيين الذين يحتجزهم العراق منذ غزوه الكويت الذي حلت أخيراً ذكرى مرور تسع سنوات على حدوثه. وأضحى الأسرى الكويتيون تذكاراً مؤلماً ومريراً لأحداث آب أغسطس 1990 التي لا تزال شعوب المنطقة ومراقبو شؤونها يتجادلون في شأن تقويم تبعتها وآثارها. وعلى رغم تعدد الملفات التي فتحها الغزو وما ترتب عنه، فإن قضية الأسرى تبقى أهم عناوين ذلك الفصل المؤسف في تطورات العلاقات الكويتيةالعراقية والخليجية العراقية بوجه عام. زارت "الوسط" ذوي الأسرى الكويتيين لتسأل عما حل بأعزائهم المفقودين بعد هذا الغياب الطويل الذي لا تلوح له في الأفق القريب نهاية. ولد فيصل الصانع في العام 1937 في اسرة كويتية ثرية، وأتمّ دروسه الثانوية في مصر والجامعية في فرنسا حيث قضى حوالي عشر سنوات، ولا تزال مكتبته حتى اليوم تضم عشرات الكتب الفرنسية وعدداً خاصاً من مجلة "الازمنة الحديثة" عن الصراع العربي - الاسرائيلي، فضلاً عن مؤلفات سان سيمون ومعجم Robert، وكتاب عن الحزب الشيوعي الفرنسي. تزوج فيصل الصانع منيرة الغصيبي وهي شابة ذكية وجميلة ورزق منها خمسة اولاد، وقد انتُخب نائباً في مجلس الأمة في العام 1985، وكان يملك جميع المؤهلات التي تتيح له ان يتألق في الميدان السياسي ما عدا واحداً هو كونه صديقاً لصدام حسين. يوم كان الصانع في القاهرة ناضل في منظمات قومية عربية مقرّبة من حزب البعث، وتسنى له ان يتعرف الى صدام حسين الذي كان آنذاك لاجئاً في مصر بعد فشل المحاولة التي قام بها لاغتيال الرئيس العراقي عبدالكريم قاسم. وذات يوم كان عملاء الاستخبارات العراقية يطاردون صدام فآواه فيصل في شقته وظل طوال سنوات يُعرف بأنه الرجل الذي انقذ حياة صدام. ويشير زياد نجل فيصل الصانع الى "ان والده كان صديق صدام وانه الرجل الوحيد الذي كان يستطيع ان يعصى أمراً من اوامره". وظلّت العلاقة طيبة بين الرجلين الى ان غزا صدام حسين الكويت في الثاني من آب اغسطس 1990. وقبل ان يضم صدام الكويت الى العراق ويعتبرها المحافظة التاسعة عشرة، قرر تشكيل حكومة كويتية صورية، فاستدعى فيصل الصانع لهذا الغرض، لكن الصانع رفض التعاون فكان عقابه قاسياً. في الحادي والعشرين من ايلول سبتمبر 1990 حوالي العاشرة صباحاً، طوّق عشرات الجنود العراقيين منزل فيصل. تقول منيرة زوجته: "كنت في المنزل، وكان فيصل في الحديقة، وقد صدمت لدى رؤية الجنود العراقيين يقتادون فيصل الى الطابق الاول، وبعد دقائق نزلوا الى الطابق الارضي وأرادوا اعتقالي فأغمي عليّ". نقل الجنود العراقيون فيصل وابنه زياد وابن شقيقته احمد وصديقاً له وولده في سيارة جيب، ونقلوا في حافلة صغيرة ثلاثة من اولاد فيصل: عبداللطيف 8 سنوات وعبدالله 7 سنوات وشيخة 3 سنوات. وبعد ساعة اعادوا الاولاد الثلاثة الى المنزل. ومنذ ذلك الحين لم ترَ منيرة زوجها، وخلال فترة من الزمن كانت تصلها أشتات اخبار عنه ثم انقطعت نهائياً اخباره. بعد توقيف فيصل زرع العراقيون عدداً من العملاء في منزله وهؤلاء نصبوا مصيدة لاعتقال الاشخاص الذين يأتون لزيارة عائلة آل الصانع وقد بلغ مجموع الذين أُوقفوا 22 شخصاً. طوال اسابيع عاشت منيرة على الاشاعات ومنها ان العراقيين نقلوا فيصل وابنه الى البصرة في العراق. وفي 27 كانون الاول ديسمبر وردتها معلومات تفيد ان 18 شخصاً من الاشخاص ال22 الذين أُوقفوا في منزلها، بعد اعتقال زوجها، أُعيدوا الى الكويت، ثم أُطلق سراحهم باستثناء ابنها زياد الذي أُعيد الى الكويت ايضاً لكنه ظل رهن الاعتقال حتى 19 كانون الثاني يناير 1991. ويعود الفضل اليه في المعلومات التي توافرت لدينا عن الاسابيع الاول التي قضاها فيصل الصانع في السجون العراقية. يروي زياد الوقائع الآتية: "بعد توقيفنا توجهوا بنا مباشرة الى البصرة. وكنت مع والدي وابن عمي احمد، ونايف صديق والدي وابنه، في سيارة جيب. وكانت تتبعنا سيارة جيب تعجّ بالمسلحين. وعندما وصلنا الى البصرة عصبوا أعيننا واقتادونا الى السجن حيث فصلوا والدي عنا وزجوا به في زنزانة ضيقة بطول متر وعرض متر، اما نحن الاربعة فقد قادونا الى حجرة صغيرة تكدس فيها حوالي 50 أسيراً كويتياً. وبعد اربعة ايام نقل زياد ورفاقه الثلاثة الى زنزانة ضيقة. ولما كان احمد يعاني نوبات ربو حادة، فقد ترك الحراس باب الزنزانة مفتوحاً خلال الليل، ما اتاح لزياد ان يخرج الى الممشى وأن يتحدث الى والده في زنزانته. واستمر الوضع على هذا المنوال حتى 26 كانون الاول ديسمبر تاريخ نقل فيصل الصانع وثلاثة من رفاقه الى مكان آخر قد يكون بغداد. في بادئ الامر عومل زياد ورفاقه معاملة طيبة. وكان الحراس العراقيون يقولون لهم انهم ضيوف لديهم، وعليهم الا يقلقوا لانه سيطلق سراحهم قريباً. وبعدما رفض والد زياد التعاون مع العراقيين والرد على اسئلتهم، راحوا يهددون زياد ثم اقتادوه معصوب العينين الى احدى الحجرات وطرحوه ارضاً واشبعوه رفساً. يقول زياد: "كان رئيس الحراس وهو يدعى غيدون قادراً على ان يكون ألطف الناس واكثرهم سادية على حد سواء، ذات يوم اصيب احد الاسرى بنوبة قلبية فضربه الحراس حتى فاضت روحه، وظلّت جثته ممدة في الممر طوال الليل، ثم نقلت في صبيحة اليوم التالي كما لو كانت جثة كلب". أُعيد زياد وثمانية عشر اسيراً من مجموعته في سيارة اسعاف الى الكويت في 27 كانون الاول ديسمبر اي بعد يوم واحد من نقل والده الى سجن آخر. وفي الكويت سجنوهم في احدى زنزانات قصر العدل. وقد أفرجوا عن الاسرى ال18 في اليوم نفسه، اما زياد فقد بقي في الزنزانة اربعة ايام. وكان الحراس يحتفلون بالسنة الجديدة وقد قالوا له: "نحن الآن مشغولون ولا نستطيع ان نعيدك الى منزلك، وعلى اي حال انت ضيفنا". ثم اعلموه لاحقاً انهم فقدوا اوراقه الثبوتية، ولا بد من بقائه في السجن وقد قضى فيه نحو ثلاثة اسابيع. احد حراسه كان يدعى زياد، وكان يظهر له بعض الود كونه يحمل اسمه، مع انه كان يتصرف بسادية فظيعة مع سائر الاسرى "فقد كان يمر بأحدهم ويسأله: ما اسمك؟ وعندما يذكر الاسير اسمه يقول له زياد الحارس: غداً ستموت" فينهار المسكين ويقضي الليل في البكاء والتفجع. وينقضي اليوم التالي من دون ان يتعرض الاسير لأي مكروه. في 18 كانون الثاني يناير 1991 وهو اليوم الثاني لاندلاع "عاصفة الصحراء" جاء الحارس زياد ليتفقد اسراه واسمعهم كلمات لطيفة وبشّرهم باطلاق سراحهم غداً، وفي اليوم التالي يقول زياد فيصل الصانع: "استدعيت الى مكتب الحارس زياد الذي قال لي: اتصل بوالدتك فقلت له: عليك انت تتصل بها. وبالفعل تحدث الى امي وزفّ اليها البشرى السعيدة وذلك لاننا نحمل الاسم ذاته". كان زياد آخر من تحدث الى والده… ومنذ ذلك الحين لم تتلق عائلة الصانع اية معلومات عن فيصل صديق صدام. وقد اضطرت منيرة على امتداد ثلاث سنوات ان تصطحب ابنتها الصغيرة شيخة الى المدرسة وان تجلس الى جانبها طوال النهار في غرفة الصف، ومردّ ذلك الى ان الصغيرة كانت تصرخ من الذعر عندما تهمّ بمغادرتها غرفة الصف وتولول قائلة: "ان الجنود العراقيين يختبئون وراء الباب". الوقوع في المصيدة نواف عبدالعزيز الجحمة يعمل حالياً في احدى لجان مجلس الأمة هو شاب سعيد ينتمي الى عائلة كويتية ميسورة. ولد نواف في العام 1966 ودرس في المغرب ومنحته الحكومة وظيفة يحسد عليها في مجلس الامة، وكان نواف تعرض في 25 تشرين الاول اكتوبر 1990 لخطر شديد كاد يضع حداً لحياته. فحوالي الساعة الثالثة بعد ظهر ذلك اليوم كان نواف يقضي القيلولة في احدى غرف الطابق الاول من منزل الأسرة عندما اقتحم كوماندوس من رجال الامن العراقيين المنزل واعتقله مع شقيقه نوري وهو مقدم في سلاح الجو الكويتي يعمل في وزارة الدفاع، واربعة من ابناء عمه. وفي اليوم التالي لقي نبيل شقيق نواف الآخر وهو نقيب في سلاح الجو الكويتي المصير ذاته. وبعد ايام أعاد العراقيون نوري الى منزله وأرغموه على الاتصال هاتفياً بأصدقائه، وكانت المحصلة حوالي اربعين معتقلاً جاؤوا للاستفسار عنه في منزله فوقعوا في المصيدة. وحده نواف نجا من الاسر بمعجزة، اما نبيل ونوري ومحمد أحد ابناء عمه، فلا احد الآن يعرف عنهم شيئاً. يقول نواف: "بعد توقيفنا اقتادونا الى قصر الأمير نايف حيث مكاتب أمير دولة الكويت ومقر مجلس الوزراء وبعد اسبوع فصلوا بيننا فسجن شقيقاي مع العسكريين اما انا فسجنت مع المدنيين. وقد قضيت شهراً ونصف الشهر في هذا السجن. وكان من الواضح انهم كانوا يركزون اهتمامهم على شقيقي نوري وكانوا يهددونه: اذا لم تتكلم سنشنق شقيقك نواف. ولم يدخر العراقيون جهداً لارغام الاشقاء الثلاثة وابن عمهم على الكلام. وكانوا يجمعونهم في غرفة واحدة، وينهالون عليهم ضرباً بالهراوات، ثم يصوّبون المسدس الى صدغ احدهم ويوهمون الآخرين انهم سيقومون بتصفيته. وكانوا يتركون الباب مفتوحاً وهم يجلدون نوري ويجيئون بشقيقه نواف الى الممشى لكي يسمع عويله. وأضاف نواف: "ذات يوم جاؤوا بي لرؤية نوري، وكان انفه ينزف وعينه كتلة من السواد، وآثار الضرب المبرّح بادية في مختلف انحاء جسده. وقالوا لي: سنقلته اذا لم تتكلم. الا انني لم اكن اعرف شيئاً عن المعلومات التي يريدون انتزاعها. والواقع انهم كانوا من خلال اعترافات بعض الاسرى يعرفون ان نوري شقيقي الاكبر ينتمي الى احدى مجموعات المقاومة الكويتية وهي مجموعة يوسف المشاري، وانا كنت اجهل اي شيء عن نشاطاته قبل توقيفه. اما نبيل فلم تكن له علاقة بالمقاومة لا من قريب ولا من بعيد، لكنهم أبقوا عليه في الاسر لانه كان ضابطاً". في اواخر تشرين الثاني نوفمبر نقل نواف واشقاؤه بعد انتهاء التحقيق معهم الى سجن الاحداث في الكويت حيث تسنى لوالدة نواف ان تزوره. وفي 14 كانون الثاني يناير نقل نواف وابن عمه خالد وبعض المقاومين في مجموعة يوسف المشاري في حافلة الى الناصرية في العراق، حيث احتجزوا في منزل من طابقين هو قاعدة سرية لحزب البعث تحولت سجناً. ووضع نواف وخالد في حجرة بعرض 5 أمتار وطول 6 امتار مع حوالي عشرين اسيراً، وفي حجرة اخرى كانوا يسجنون انصاراً لحزب "الدعوة" حُكم عليهم بالاعدام. قضى نواف وابن عمه خالد 48 ساعة في عتمة هذا السجن بعدما دمّر طيران القوات المشاركة في عاصفة الصحراء المولدات الكهربائية العراقية. ولدى سؤالهما ماذا كانا يأكلان، ينفجر خالد وهو شاب ذو بنية رياضية، ضاحكاً: "عند الفطور كانوا يقدمون الى 24 أسيراً وجبة لا تكاد تكفي ثلاثة اشخاص وكان نصيب الواحد منا قطعة خبز يابسة كالحجر، وقصعة من الأرز القذر، وكان السيناريو يتكرر عند العشاء. ولولا بقية من أمل، لمتنا جوعاً ويأساً، وعندما كان احدنا يفقد توازنه ويبدأ بالصراخ كنا نعمل على تهدئته كيلا نتعرض جميعاً لضرب مبرح من الحراس". ويروي نواف الوقائع التالية: "ذات صباح، عصب الجنود العراقيون اعيننا وكبّلوا ايدينا ونقلونا الى وجهة مجهولة، ومرة تسنى لي ان ارفع العصابة فتبين لي اننا على مقربة من الكوت وهي مدينة على طريق البصرة - بغداد. وفجأة غيّر الحراس رأيهم وعادوا بنا الى سجننا في الناصرية". في الثامن من آذار مارس بلغت الانتفاضة التي قام بها الشيعة في جنوبالعراق بعد هزيمة جيش صدام حسين، الناصرية. "وفجأة رحنا نسمع اصوات أعيرة نارية تطلق بغزارة في نواح مختلفة. كان الثوار الشيعة يهاجمون سجننا، ثم توقف حراسنا عن القتال. طلب منا الثوار الشيعة الذين استولوا على السجن ان ننبطح ارضاً في الحافلة التي نقلتنا الى منزل أحد قادة الانتفاضة. كانت هيئتنا تثير الرعب والشفقة، فنحن أشبه بهياكل عظمية شعورها مشعثة وطويلة. وقد نحر لنا مضيفنا خروفاً التهمناه بشراهة، بينما كان أزيز الرصاص يلعلع في المدينة، وخوفاً من ان يكتشف جنود صدام مكاننا، امر القائد بنقلنا الى معسكر بريطاني، وهكذا تسنى لنا ان نستعيد حريتنا، وان نعود الى الكويت بعد اربعة ايام، وفي هذه الاثناء كانت زوجة نوري تضع مولوداً ذكراً سمي عبدالعزيز تيمناً باسم جده. وفي شهر ايار مايو ذكر احد الأسرى الكويتيين العائدين من العراق انه رأى الشقيقين نوري ونبيل في احد السجون، ثم انقطعت اخبارهما. مكالمة لم تأت يوم السبت في 10 تشرين الثاني نوفمبر مرت سميرة معرفي وهي فتاة كويتية جميلة في الخامسة والعشرين لرؤية أمها قبل توجهها الى مستشفى مبارك حىث حلّت محل ممرضة اجنبية غادرت الكويت بعد الغزو العراقي. ولطمأنة امها بعد تفاقم عمليات الدهم، وعدتها بمكالمتها هاتفياً بعد الظهر، لكن الام انتظرت المكالمة من دون جدوى. ولما استبد بها القلق كالمت ابنتها في منزلها مساءً، فردّ عليها رجل بلهجة عراقية. عندئذ ادركت بهجا معرفي على الفور ان ابنتها قد اعتقلت. تعتبر عائلة معرفي واحدة من أقدم العائلات الايرانية الاصل في الكويت، وقد شعرت والدة سميرة بأن العائلة مستهدفة، وخوفاً من ان يعتقل العراقيون ابنيها وابنتيها لم تقم بأي مسعى للعثور على سميرة… ولم يصلها أي خبر عنها حتى 23 كانون الاول ديسمبر عندما تلقت مكالمتين هاتفيتين: الاولى من كويتية متزوجة من عراقي كلفتها سميرة الاتصال بوالدتها وقد قالت: "كنت معتقلة مع ابنتك، انها بصحة جيدة وهي تقبّلك وتأمل ان يُطلق سراحها خلال 48 ساعة"، والثانية من سيدة مصرية كررت ما قالته صاحبة المكالمة الاولى. وبعد يومين تلقت بهجا مكالمة جديدة من رجل سجنت اخته مع سميرة، وقال انه يحمل رسالة من ابنتها. وكانت محصلة الرسائل التي بعثت بها سميرة الى امها بين 25 كانون الاول ديسمبر و4 كانون الثاني يناير سبع رسائل. وفي رسائلها ذكرت سميرة انها معتقلة مع ست نساء وطلبت بعض الملابس والمؤن وقد أتلفت الام هذه الرسائل بعد قراءتها لأن أبناءها قالوا لها. اذا عثر العراقيون على هذه الرسائل فسيتم توقيفنا جميعاً. في الرابع من كانون الثاني اتصلت ببهجا سيدة كويتية متزوجة من عراقي. وقالت: "لدي رسالة من سميرة مع ساعتها. وهي تطلب طعاماً". وقد ذهبت بهجا معرفي مع احد اقربائها برفقة هذه السيدة الى سجن الاحداث حيث كانت سميرة معتقلة. وقد استطاعت السيدة ان تدخل السجن وان توصل رزمة الى سميرة وان تعود برسالة منها تقول فيها لأمها: "هذه رسالتي الاخيرة، انهم يريدون نقلنا الى البصرة". وبعد ايام تسنى لبهجا ان ترى ابنتها من بعيد وهي تصعد الى سيارة مع سيدة اخرى بحراسة جنود عراقيين. تقول بهجا: "لوّحت لي سميرة تلويحة الوداع. ولم اقترب منها خشية ان يعتقلوا ابني". وفي المساء اتصلت السيدة ذاتها قائلة: "ابنتك في مركز الشركة في الصليبخات، وهي تريد معكرونة". في اليوم التالي ذهبت والدة سميرة الى الصليبخات حاملة معها رزمة، وقد سمعت صوت ابنتها في الطابق الاول، لكن الجنود العراقيين لم يسمحوا لها برؤيتها. ومنذ ذلك الحين اختفت سميرة وانقطعت اخبارها. تقول بهجا: "انا واثقة من ان سميرة حيّة ترزق… احياناً اسمع صوتها في الليل واستيقظ فلا أجد احداً. يأتي اشخاص لزيارتي فيمنحونني جرعة من الامل ثم يذهبون"، وتحبس بهجا دموعها وتخنق تنهداتها، وتلتزم الصمت، وتجدر الاشارة الى ان شخصاً آخر من عائلة معرفي وهو ابن عم لسميرة اختفى في اليوم ذاته وانقطعت اخباره نهائياً. سطو على السيارات موسى ومحمد اوقفهما العراقيون بالمصادفة، وهما اليوم يعتبران في عداد المفقودين، علماً أنهما لم يكونا من المقاومين، ولم يقوما بأي عمل بطولي. بعد الغزو العراقي كان الشقيقان موسى 23 عاماً ومحمد 22 عاماً يعملان متطوعين في إحدى الجمعيات التعاونية في الحي حيث يقطنان بدلاً من العمال الأجانب الذين غادروا الكويت. ذات يوم أبلغ الجيران موسى الذي كان يعمل شرطياً قبل الغزو، أن لصوصاً سوريين أطلقهم العراقيون من السجون يسطون على السيارات. وعندما ذهب الشقيقان لاستطلاع الأمر اوقفهما الجنود العراقيون. امهما مريم تروي بعض الوقائع: "تم توقيفهما في 27 آب اغسطس. انني اتذكر التاريخ جيداً، وقد ذهبت إلى سجن السالمية حيث احتجزا، ورأيتهما من وراء القضبان، لكنني لم اتمكن من التحدث إليهما". وقد عادت مريم إلى السجن مرة مع صهرها، ومرة أخرى مع بناتها الثلاث وابنها حسن. لكن الشرطة لم تسمح لهم بمقابلة موسى ومحمد وقد هددوهم قائلين: "انصرفوا من هنا وإلا اطلقنا عليكم النار". وبعد أسبوع علمت العائلة من شخصين اوقفا ثم افرج عنهما ان الشقيقين نقلا إلى سجن في حولّي وبعده إلى الجهراء وأخيراً إلى العراق. في أواخر أيلول قررت مريم الذهاب إلى البصرة بصحبة صهرها في محاولة لاطلاق سراح ابنيها أو على الأقل لرويتهما، وقد استقبلها ضابط عراقي كبير وقال لها: "ابناك في سجن للأمن، وأنا يمكنني الافراج عنهما لقاء 20 ألف دينار عراقي" حوالي سبعة آلاف دولار حينذاك. عادت مريم إلى الكويت وجمعت المبلغ المطلوب بشق النفس، كونها تنتمي إلى عائلة كويتية متواضعة الدخل، فالوالد عبدالرضى عباس كان بقالاً. ورجعت إلى العراق مع عسكريين عراقيين فاستقبلها شخص يدعى سعيد السعدوني حاكم البصرة لم تكن مريم واثقة من الاسم ومن الوظيفة التي يشغل. تقول مريم: "سألني هل كان ابناي في المقاومة؟ فأكدت له ان لا علاقة لهما بالمقاومة على الاطلاق... وعندما طلب مني مالاً قلت له: عندما يحضر ابناي سأدفع لك المال. عندئذ ضرب لي موعداً في اليوم التالي في مركز شرطة الزبير، لكنه لم يأت إلى الموعد. وذكر لي أحدهم أنه ذهب إلى بغداد، بعدما حاول خداعي". اندلعت الحرب التي انتهت بتحرير الكويت، لكن موسى ومحمد لم يعودا مع مئات الأسرى الذين حرروا اثر الانتفاضة في جنوبالعراق، وقد انقطعت أخبارهما عن العائلة حتى العام 1996، فخلال اجتماع للجنة التقنية على الحدود بين العراقوالكويت، اعترف العراقيون بأنهم احتجزوا 126 كويتياً لكنهم فقدوا كل أثر لهم لأن وثائقهم اتلفت جراء القصف. تقول مريم: "لقد ورد اسما ولديّ في عداد هذه اللائحة"، ولكنها لا تعرف إذا كان من حقها ان تغتبط، فالاعتراف العراقي قد يعني أيضاً أن ولديها ما عادا على قيد الحياة. عبدالرضى عباس والد موسى ومحمد استمع إلى الحوار الذي أجريته مع مريم من دون أن يعلق بكلمة. ويذكر محمد بلند صهر عبدالرضى ان هذا الاخير يذهب احياناً في المساء الى باب الحديقة الصغيرة وينادي ولديه من دون ان يفهم لماذا لا يجيبان. والام بدورها تحلم احياناً كثيرة بولديها. تقول مريم. عندما اراهما في الحلم اسمعهما يقولان لي: لا تبكي يا امنا، فنحن سنعود". العائل الوحيد كان بدر الكندري في العشرين من العمر عندما تم توقيفه في الرابع من آب اغسطس بعد يومين على غزو الكويت. وكان لتوقيفه وقع شديد الوطأة على اهله، لأنه كان الرجل الوحيد في عائلة كلها نساء. توفي والده في العام 1974، فبقيت امه اكرام بعد توقيفه وحدها مع ابنتيها مشاعل 1972 ونجود 1973 وعمته عائشة وابنتها منى، وهؤلاء جميعاً يبكين باستمرار منذ اختفاء بدر. بعدما اتم بدر دراسته الثانوية، تطوّع للعمل في احدى الجمعيات التعاونية، ولدى عودته من العمل الى البيت اوقفه حاجز للجيش العراقي مع صديق له، وقتل صديق آخر له لأنه حاول الهرب فيما تمكن ثلاثة شبان من الهرب وهؤلاء الشبان الثلاثة هم الذين نقلوا الى والدته خبر توقيفه". في اليوم التالي ذهبت مشاعل مع عمتها عائشة الى مركز الشرطة في كيفان فاستقبلهما جنود صوبوا اليهما بنادقهم قائلين ماذا تفعلان هنا، ومرد ذلك الى ان حي كيفان كان لا يزال مسرحاً لمناوشات بين الجيش العراقي والمقاومين الكويتيين. وبعد ثلاثة ايام حاولت مشاعل وعائشة الحصول على بعض المعلومات عن بدر من مركز آخر للشرطة من دون جدوى. وبعد شهر ونصف الشهر علمت العائلة من كويتي افرج عنه انه رأى بدر في سجن اقامه العراقيون في مستودع تابع لمصلحة النفايات في الجهراء. في منتصف تشرين الثاني نوفمبر تلقت عائلة بدر مكالمة هاتفية من بدر القطان وهو كويتي احتجز معه في احد سجون البصرة. تقول مشاعل "كان يحمل اسم شقيقي وينام الى جانبه في السجن، وظل اخي يردد على مسمعه طوال ايام رقم هاتفنا، لكي يتصل بنا عندما يتم الافراج عنه. وقد ابلغنا ان اخي فور اطلاق سراحه سيصحب امه وعمته الى مكة". استطاع بدر القطان الذي اعتقل مع شاب في الرابعة عشرة يدعى اسامة ولا يزال مفقوداً، ان ينجو من الأسر بعدما دفعت عائلته فدية للعراقيين قوامها سيارة وجهاز تلفزيون ومبلغ من المال. وقد ذكر بدر القطان ان العراقيين اعادوا بدر الى الكويت في اواخر آب اغسطس للافراج عنه على الارجح اذ لم يكن في ملفه ما يدينه، ولسوء حظه سمع احد الضباط العراقيين اسمه قبل اطلاق سراحه، وكان هذا الضابط يعرف ان عقيداً في سلاح الجو الكويتي يدعى ابراهيم مراد الكندري فقال لبدر: اذا اخبرتنا عن المكان الذي يختبئ فيه قريبك فسنطلق سراحك" لكن بدر لم يكن يعرف شيئاً عن الامر، فأبقوه في السجن ثم اعادوه الى العراق. وكان بدر لا يكف عن البكاء بعدما بلغ حالة من اليأس يرثى لها. ذهب موسى وهو ابن عم مشاعل الى البصرة في محاولة لتحرير بدر لقاء فدية يدفعها، لكن محاولته لم يكتب لها النجاح. وكانت عائلة بدر على غرار العائلات الكويتية التي أسر احد افرادها، تدق جميع الابواب مستعدة ان تدفع أي ثمن للحصول على معلومات. وقد استعانت أم بدر في جملة من استعانت بهم، بحلاق اردني على اعتبار ان الاردن وقف الى جانب بغداد، وكانت كلمة الاردنيين مسموعة في العراق. وقد ذهب الحلاق الى البصرة وحاول ان يقوم برشوة الحراس لرؤية بدر، لكن محاولاته ذهبت ادراج الرياح. في آذار مارس 1991، اثر تحرير الكويت وقيام الانتفاضة في جنوبالعراق، عاد آلاف الاسرى الى الكويت، وفي كل يوم كانت اكرام وابنتها مشاعل تذهبان الى المحطة التي تقل الاسرى المحررين على امل ان يكون بدر بين هؤلاء، وكانت اكرام تسأل الاسرى وهي تحمل صورة ابنها: هل رأيتم بدر؟ وكانت الدموع تتولى الاجابة عن سؤالها