تجمع رضوى عاشور بين دقّة الباحثة الأكاديمية وحريّة المبدعة، كما تجمع في أدبها بين المادة الوثائقيّة والبعد الميثولوجي، بين ملامح من السيرة الذاتيّة وعناصر من التاريخ، لتعيد صوغ الواقع انطلاقاً من رؤاها وهواجسها وأوجاعها وحساسيّتها. فصاحبة "ثلاثيّة غرناطة" تعتبر أن الرواية تتعامل، أساساً، مع نسيج اجتماعي هو بطبيعته نسيج تاريخي. ومع أن الأديبة المصريّة تحاول، قدر الامكان، ان تتفادى التصادم مع الواقع السائد، كي تكسب القارئ، فهي لا تخاف التعرّض للمحظورات، كما انّها تدعو المثقّفين، من على صفحات "الوسط" إلى الوقوف بحزم ضد التيار القمعي الذي يفرض وصايته على الكتابة والانتاج الفني. تتوزع اهتمامات رضوى عاشور على حقول عدّة، أبرزها الرواية. فقد أنتجت فيها اعمالاً أساسيّة كان آخرها "أطياف" التي صدرت أخيراً في طبعتين متزامنتين في القاهرة وبيروت. التقينا الأديبة المصريّة التي تشغل أيضاً منصب رئيسة قسم اللغة الانكليزية في جامعة عين شمس، في عمّان وكان هذا الحوار: عملك "أطياف" ينطوي على عناصر من السيرة الذاتيّة، لكنّه في الآن نفسه ذو بعد تجريبي تخوضين فيه للمرّة الأولى... - لم أختر نشر "أطياف" تحت عنوان سيرة ذاتية، لأن فيها قدراً لا يستهان به من المتخيل. هناك شخصيات متخيلة، واحداث متخيلة، وتنسب جميعها لشخصية متخيلة أيضاً هي "شجر". ولكن "شجر" هذه مثلي استاذة في الجامعة، وهي في مثل سني، وفي مثل تكويني الوجداني. النص معلّق بين رضوى ببعض تفاصيل حياتها الفعلية والمسجلة بدقة في الرواية، و"شجر" بتفاصيل حياتها المتخيلة. قرأ بعضهم شجر على انها "الأنا المستترة"، وربما كان ذلك نوعاً من الاستسهال، لأن وجود شخصيتين تتجلى فيهما "الأنا" مطروق ومتكرر وشائع. وفي "أطياف" كنت أحاول امراً آخر، وربما على القارئ ان ينتبه قليلاً لكي يكتشفه، ويوظفه في النص. ولذلك أشرت الى مفهوم "الكا" عند قدماء المصريين، فهو صانع فخّار، يصنع على عجلته البشر، ويصنع ساعة ولادة كل فرد و"كاءه" التي تشبهه ظاهراً وباطناً، طولاً وعرضاً، تكويناً وسلوكاً، وتلازمه في حياته، ثم تبقى حية في قبره ضماناً لبعثه. أتاحت لي "شجر" ان أُعبّر عن تجربتي بدقة أكبر عبر وقائع دالة قد لا اكون عشتها لسبب او لآخر، لكنها اكثر تعبيراً عما عشته. انا استاذة للأدب الانكليزي، و"شجر" استاذة للتاريخ. روايتي اسمها "أطياف"، والكتاب الاهم الذي انتجته "شجر" اسمه "أطياف" وهو كتاب عن دير ياسين، وفي النص فصل من مشاهدات اهالي دير ياسين يُعيد بناء الواقع عبر اقتباس نص كلماتهم. تتقاطع "أطياف" مع تجربة صنع الله ابراهيم في استعمال الارشيف والوثائق... - بعد صدور "أطياف" بأسبوعين اتصل بي صنع الله ابراهيم وحيّاني تحية مؤثرة، وقدرت هذه المكالمة والرأي الايجابي الذي عكس تقديراً عالياً جداً من قبله. من المؤكد ان صنع الله ابراهيم رائد في مجال استخدام التوثيق في النص الروائي، وفي "أطياف" اعتمدُ على التوثيق بشكل اساسي. حاولت ذلك في السابق مع "سراج" و"ثلاثية غرناطة". ولكن لم يكن التوثيق في هذه الاعمال عماداً واضحاً من اعمدة النص. في "أطياف" استخدمت الوثيقة، والاقتباس المطول، واقتبست من "لسان العرب"، واحياناً من شعر المتنبي، أو من كتاب المؤرخ عبدالرحمن الرافعي. وأحياناً اختلقت الوثيقة، بمعنى انني جمعت المادة وقدمتها في شكل وثيقة. اما الى اي مدى وُفّقت في هذه التجربة، فهذا ما سيحكم عليه القراء. تستدعي "أطياف" توظيف الميثولوجيا القديمة في النص، مع أنّك تتناولين احداثاً كمذبحتي دير ياسين وصبرا وشاتيلا... - الميثولوجيا المصرية القديمة تدخل النص عبر شخصيّة شجر. في السطور الاولى من الرواية، تدخل صورة النهر المستتر نيل، وهو في الميثولوجيا القديمة يوازي النيل، لكنه نهر يحمل مركب الشمس من الغروب الى الشروق في رحلة ليلية تحت أرضية. اعتقد ان هذه الصورة تلعب دوراً في مجمل النص. ويحمل الفصل الاخير كمّاً من الصور المستقاة من كتاب الموتى، قد يكون أبرزها نوت الفرعونيّة التي صوّرها المصريون القدماء في شكل امرأة تعرّش على الارض بجسدها، وتستند بأطراف اصابع يديها على جانب من الارض، وبأصابع قدميها على الجانب الآخر. اما الجسد فيعلو مُشكّلاً قوس الفضاء. وجسد نوت مرقط بالنجوم، هذه النجوم هي أرواح الموتى. أعتقد أن في الميثولوجيا المصرية القديمة كنزاً لا يفنى من الصور الشعرية. المعضلة هي كيفية توظيفه بما يعبّر عن تجربتنا المعاصرة. في "ثلاثية غرناطة" تستفيدين من عشرات الكتب والوثائق التاريخية لرسم الملامح العامة للرواية. الى اي مدى يستطيع الروائي ان يعتمد على التاريخ؟ - أعتقد ان الروائي في كل الحالات يعتمد على التاريخ بأشكال مختلفة، ومن زوايا مختلفة. لأن الرواية في تقديري - باستثناء نوعية خاصة منها - تتعامل في الأساس مع نسيج اجتماعي هو بطبيعته نسيج تاريخي. فإذا كنت اكتب مثلاً رواية عن القاهرة، فأنا أفيد النصّ بمقدار ما تتسع معرفتي بالمدينة، بحكاياتها وتفاصيلها. في حالة النصوص التي تدور احداثها في الماضي، يحتاج الكاتب الى معرفة هذا الماضي الذي سيكتب عنه، وقد يختار الكتابة الواقعية، او كتابة تخييلية، ولكن في كل الحالات عليه ان يتعرف إلى تلك المساحة وايقاعها. تصديت في "ثلاثية غرناطة لكتابة واقعية. وكنت في حاجة الى التعرف ليس فقط على وقائع التاريخ، ولكن على أسلوب حياة البشر في تلك الفترة. لم يكن من الضروري توظيف كل المعرفة التي حصّلتها، ولكنها كانت ضرورية كنقطة انطلاق لعملية التخيل. ولكن ما الحافز الفني الذي دفعك إلى توظيف التاريخ في لغة الحاضر؟ - هذه مسألة معقدة، وقد لا تأتي الاجابة عن هذا السؤال الصعب دقيقة. ابحث في التاريخ لفهم بعض ما يحدث لنا الآن. والمؤكد انني اشعر بحاجة إلى سند ما في الكتابة. وقد تستغرب انني ابحث عن سند في لحظة انقراض. هذه مفارقة، ولكن ربما يأتي السند حين أبدأ بفهم لماذا وكيف يحدث الانقراض. قد تبدو اجابتي غائمة وملتبسة، لأنني لا اعرف كيف اجيب بدقة. ما أعرفه ان "غرناطة" كانت معادلاً موضوعياً لخوفي وانا اتابع قصف بغداد اثناء حرب الخليج. قبل صدور الرواية بأيام كنت اشعر بالقلق المعتاد من توفيقي او عدم توفيقي في كتابة النص، فوجدتني اقول في نفسي: لو نجح فهذا خير، وان لم ينجح فلا بأس ايضاً لأنني كتبت هذا العمل لحاجتي الى كتابته، وكانت "غرناطة" محاولة لاستعادة توازني.. على رغم تسليمك بضياع غرناطة، ورصد ثلاثيتك لتأمل ذلك الضياع، تبدين غير مُسلِّمة بضياع فلسطين في "أطياف"... - لم أُسلّم بضياع فلسطين، لأننا ما نزال نعيش الصراع، وما نزال طرفاً فيه. ولئن هزم جيلنا في معاركه، فأنا لا أُصادر على قدرة الاجيال القادمة في تحقيق ما فشلنا نحن في تحقيقه. ففلسطين في قلب البحر العربي، ولا أعتقد، من منظور تاريخي، ان بإمكان الدولة الصهيونية ان تعيش في هذا البحر. يمكن بطبيعة الحال ان تعيش جماعة يهودية، لكن مشروع الدولة الصهيونية لن يستطيع الاستمرار، مهما بدا، بسبب ضعفنا وارتباكنا وتخلفنا، اننا غير قادرين على مواجهته. من ناحية ثانية، لو كان الموقع الجغرافي للأندلس هو ليبيا او تونس، لما امكن الاستيلاء عليها بشكل كامل، لكنّها كانت جناحاً في أقصى الغرب. شهد التاريخ حربين صليبيتين، ثم رحل الصليبيون عن المشرق والمغرب . اما الأندلس، فأمكن اقتطاعها لأن الجغرافيا التي تحدها من الشمال كانت تقدم السند المطلق لحكام اسبانيا. في رواياتك تفكيك لبنى فكرية ومعرفية يعتبر الاقتراب منها من المحظورات... - أحاول، قدر الامكان، ان اقول ما امكن من دون تصادم مع الواقع السائد. وهذا، ربما، قصور مني، أو ميزة تحسب لي. أريد ان ابدأ من نقطة مشتركة مع القراء. أُفضّل ألا أصدم القارئ كقيمة قائمة بذاتها. افضّل شكلاً اكثر خبثاً في التعامل مع الموضوع. ولكن في المقابل، اعتقد ان من الضروري الوقوف بحسم وحزم ضد هذا التيار القمعي الذي يفرض وصايته على الكتابة والانتاج الفني، وهذه مسؤولية في عنق المثقفين...وكي أجيب عن سؤالك، من المستحيل ان يكتب الكاتب بعيداً عن مناخات الحياة، ومن ضمنها الجنس. ولا يمكن للأدب، بالتالي، ان ينجو من التطرّق إلى أشياء الحياة التي قرّر بعضهم بأنها محظورات. الذين يقررون اجازة هذا النص، ومصادرة الآخر، لا علاقة لهم بالثقافة أو بالأدب، ولا بالفكر والمعرفة الانسانيّة السامية. وبعض هؤلاء لم يقرأ نصاً أدبياً في حياته. إنّهم يتحكّمون في مصير الأدب من دون ان تكون لهم اي علاقة فيه. وأعتقد ان جذور المشكلة تكمن في الواقع المأزوم الذي نعيش. بلغ بنا الاضطراب حداً غير مسبوق، من علاماته الخوف وعدم الثقة بالنفس. أي اجتهاد، او رأي مخالف يفسره بعضهم بأنه اعتداء على القيم! ليست القيم الروحيّة والأخلاقيّة بالبناء البسيط، أو الضيق، الذي يمكن تدميره بنص روائي. هذا شكل مرضي من أشكال الدفاع عن النفس. ونجد الموقف نفسه، على مستويات أخرى. فإذا وجّه مثقف عربي نقداً إلى مبدع مصري، سيأتي من يقول إنّها "مؤامرة على الثقافة المصرية"! تشيرين إلى الحملة على أدونيس؟ - لستُ من أتباع ادونيس، ولا من المتحمسين له بشكل خاص. لكنني اعتقد ان الهجوم عليه من قبل بعض الكُتاب المصريين، بالشكل الذي تم فيه، هو جزء من هذا الشعور بالاضطراب، وفقدان الثقة بالنفس. ها نحن نسقط، في نهاية المطاف، في الاقليمية الضيقة حيناً، وفي التعصب حيناً آخر، وننزلق الى اسفل والى الوراء في وقت واحد، وهذه كلها ملامح واقع مأزوم. في هذا السياق ألا يُشكل منع تدريس رواية محمد شكري، ومذكرات نوال السعداوي، وكتاب جبران... ارتداداً عن مبادئ ثقافية عريقة في التقاليد المصرية؟ - بلى، كل ذلك يشكّل ارتداداً حقيقياً. الثقافة المصريّة تتعرّض لردّة خطيرة. والأخطر فعلاً أن تخاف ادارة الجامعة الأميركية في القاهرة من رواية مضى على صدورها وقت طويل، وقد سبقتها ادارة جامعة القاهرة عندما سحبت كتب نصر حامد أبو زيد من مكتبة الجامعة. هذا مخيف لأن الادارة ليست مجموعة من الموظفين، بل تضمّ اساتذة وأكاديميين ومثقفين مرموقين، يتعين عليهم تقدير الأمور قبل اتخاذ القرارات. تتوزع تجربتك الابداعية على حقول مختلفة، كالنقد والترجمة والعمل الأكاديمي الى الرواية. ألا تخاطرين في تشتيت ذاتك؟ - من المؤكد أن توزع الطاقة الذهنية يشكل تشتتاً، وله آثاره السلبية أحياناً. العمل الأكاديمي وظيفتي اليومية التي احتاجها لأن الكاتب في بلادنا لا يستطيع أن يكسب خبز يومه من الكتابة. أتمنى لو أتفرغ للكتابة، ولكن ذلك صعب لأسباب مادية. واليوم صارت الجامعة بيتي، فأنا أعمل فيها منذ ثلاثين عاماً، والخروج منها وعليها يحتاج إلى جرأة. الترجمة أقوم بها نادراً، لمتعتي الخاصة، لأن نصاً معيناً استهواني وأغراني بمواجهة تحدي ترجمته. أما النقد الأدبي فلم أتمكن من التفرغ له. يحزنني ان مؤلَّفي النقدي الأكثر تداولاً دراسة في أدب غسان كنفاني "الطريق الى الخيمة الأخرى"، أنجزتها قبل ربع قرن ولم تعد تمثلني تماماً، ليس طبعاً من جهة الموقف بل من ناحية ادواتي كناقدة. أما الدراسات التي أعتقد أنها تمثلني، وتعكس امكانياتي، فمكتوبة ومنشورة باللغة الانكليزية، ولم يتسع الوقت لترجمتها الى العربية. والترجمة تصبح في هذه الحالة نشاطاً مملاً: فما المتعة في أن يعيد المرء كتابة ما سبق له أن كتبه؟ في سيرتك الذاتية كطالبة "الرحلة - أيام طالبة مصرية في أميركا" خيط روائي ينظم الأحداث، ويضفرها. هل كانت تلك التجربة نقطة انبثاق حسك الروائي وتبلوره؟ - راودتني الرغبة في الكتابة لسنوات طويلة، وكنت خائفة من الاقدام على ذلك. ولدي سؤال مقيم بشأن موهبتي: هل كان لدي ما يكفي من الموهبة لتقديم جديد وأصيل. "الرحلة" كانت بمثابة ورشة عمل عكفت فيها على انجاز نص طويل، واكتسبت، وهذا هو الأهم، قدراً من الثقة مكنني من الانتقال، لاحقاً، الى الكتابة الروائية. وصَفَك الشاعر مريد البرغوثي في حوار نشرته "الوسط" قبل أعوام بأنك أول ناقد لأعماله حين يفرغ منها. هل يتكرر الأمر معك، وهل تثقين بحاسة الشاعر النقدية وحدسه؟ - أثق في حاسته النقدية ثقة شديدة، واحتاج الى مشورته، ولكن عليّ ان اعترف أيضاً أنني لا أتقبل رأيه النقدي بسهولة. احياناً أصر على رأيي أو ما كتبته بالشكل الذي كتبته به، واحياناً أتوتر، ويبدو انني مصرة على رأيي، ثم آخذ برأيه، لأنني اكتشف ان نصيحته تفيد النص وترتقي به. باختصار، اعتقد انني محظوظة بوجود قارئين على هذه الدرجة من الموهبة في بيتنا: الأول زوجي مريد، أما القارئ الثاني فهو ابننا تميم، وله بدوره علاقة خاصة بالأدب يقرأه ويكتبه. من الصعب ان يكون أول قراء كاتبة روائية شاعراً كبيراً وآخر صغيراً تبدو متطلباتهما أحياناً صعبة وقاسية... لكنني استفيد من هذه الوضعيّة