بسط العثمانيون سيطرتهم على سورية فترة هي الأطول زمنياً في تاريخ السلالات المتعاقبة على حكم تلك البلاد. ومع ذلك فان الآثار المعمارية للامبراطورية العثمانية لا تكاد تذكر، مقارنة بآثار عصور أخرى عرفت مثلاً سيطرة الأمويين والأيوبيين والمماليك. فالعثمانيون كانوا ينظرون الى الشام وسائر البلاد العربية باعتبارها "ثكنات" للمركز التركي في آسيا الصغرى. وتتابع على الولاياتالمتحدة السورية ولاة من الأتراك يجهلون العربية، كان همهم جمع الأموال والنفائس بمختلف الأشكال. لكن بعض الولاة والمتصرفين، من ابناء البلاد، تركوا وراءهم صروحاً ما زالت باقية حتى اليوم على رغم عوادي الزمان. ولعل اشهر هؤلاء الولاة أسعد باشا العظم، صاحب القصور المنيفة والخانات والحمامات التي خلّدت اسمه في دمشق وحماة. فمن هو هذا الوالي الذي حكم دمشق 14 عاماً ثم اغتيل خنقاً في احد حمامات انقرة، قبل قرنين ونصف القرن؟ ولد اسعد ابن اسماعيل بن ابراهيم العظم، في معرة النعمان جنوب حلب العام 1705، وكان من دون اخوته وكيلاً عن أبيه في حال غيابه عندما كان والياً على دمشق. وكان والده اول وزير من بيت العظم ولي على دمشق. وقد اقطعته الدولة مناصفة مع عمه ابراهيم باشا والي طرابلس مدينة حماة وتوابعها، فعمّر فيها خانات ك "خان اسعد باشا"، وحمامات كحمام "الاسعدية" في سوق الطويل، وبساتين ودوراً اهمها "قصر العظم". وذاع صيت اسعد باشا فمنحته الدولة "طوخين" و "الطوخ" وسام عثماني رفيع برتبة والي منطقة الرومللي، ثم اصبح "جرداوياً" اي قائداً لقافلة استقبال الحجيج. وهو شرف معنوي كبير. أمير الحج آلت ولاية دمشق الى أسعد باشا العظم العام 1743 مع امارة الحج، فدخلها في موكب عظيم من الانكشارية وأكابر المدينة وأمرائها وأعيانها، كما يروي الشيخ البديري في كتابه "حوادث دمشق اليومية". وبقي في منصبه الجديد حتى العام 1756، وقد شيد وهو في دمشق قصره المشهور العام 1749، كما ابتنى خاناً ليس له نظير في سعته وجمال زخارف واجهته وطراز بنائه. وكذلك اقام جسر "الكسوة"، وعمر الخانات على طريق الحج ورمم المساجد والمآذن. ثم أمرت الاستانة بنقله الى حلب والياً، لكنه عزل بعد ستة ايام من دخوله اليها وعين والياً على مصر، فتمسك به اهل حلب وكاتبوا الدولة التي قررت بقاءه الى اوائل العام 1757، بعدها ولّي على سيواس من اعمال الاناضول، وما ان دخلها حتى أمر الباب العالي بالقبض عليه ونفيه الى جزيرة كريت. وقبل ان ينفذ الارادة السلطانية، عثر عليه مقتولاً في احد حمامات أنقرة. ثمانية ملايين فرنك ذهبي واختلف الباحثون في اسباب قتله، فالباحث عبدالقادر العظم صاحب كتاب "الاسرة العظمية"، يرى ان السبب الحقيقي "انه انساق الى مصير ولاة الدولة العثمانية التي كانت تتركهم الى اجل محدد يجمعون فيه المال ويكدسونه ويظنون انه مدعاة للسلامة والطمأنينة، ولم يفطنوا الى جلبه للقتل وصنوف البلاء". أما محمد كرد علي صاحب "خطط الشام"، فيكتب: "لعل الدولة العثمانية استبطأت اسعد باشا في الولاية فخشيت شره فخنقته". وبعد ايام من قتله حضر موظف من جهة الدولة مكلف بضبط اموال الباشا المقتول. فظل في دمشق ما يزيد على ستة اشهر وهو يضبط ماله وأمتعته، وكان بعضها مطموراً في الجدران والحدائق. وقد قدر المؤرخ الدمشقي ميخائيل بريك ما صودر من امواله وأمتعته ومجوهراته وخيله وسلاحه وعبيده بمائة ألف كيس ونيف. فيما قدر الرحالة الفرنسي فولني الثروة المصادرة منه بثمانية ملايين فرنك ذهبي. بدأ أسعد باشا العظم بناء قصره العام 1740، خلال اقامته في حماة التي لم تتجاوز ثلاثة اعوام. واختار له موقعاً في قلب المدينة قرب احيائها القديمة، في منطقة غنية بالأوابد الأيوبية والمملوكية فوق نهر العاصي. أنشأ القاعة الكبرى التي تسمى قاعة الذهب في الطبقة العلوية، اضافة الى الاسطبل في الطبقة الأرضية. وظل القصر يتوسع الى العام 1830، حيث ابتنى الولاة من آل العظم اقساماً اخرى، الى ان تحول مدرسة العام 1920، خشية ان يضع الفرنسيون يدهم عليه كما فعلوا مع قصر العظم الدمشقي. وصدر العام 1956 مرسوم بتحويله الى متحف حماة الاقليمي، فقامت مديرية الآثار بترميمه ترميماً فنياً واسع النطاق. يعتبر قصر العظم في حماة درة فريدة في تاريخ العمارة الاسلامية، وهو من روائع الآثار التي تشهد اقبالاً كبيراً على نهر العاصي، كما يكتب فيليب حتي في "تاريخ سورية ولبنان وفلسطين". ويشير محمد كرد علي الى لوحة زيتية نادرة من تلك الحقبة تمثل مدينة حماة قبل قرنين ونصف القرن، وتؤكد انها كانت اكثر عمراناً وازدهاراً من الوقت الذي ألف فيه "خططه" مطلع هذا القرن. كما تحدث الباحثان عبدالرحيم المصري وكامل شحادة عن وجود لوحات زيتية قديمة تمثل مدينة حلب بتفاصيلها المعمارية وخليج القرن الذهبي في مدينة استانبول. ويتناقل الناس في مدينة حماة قصة طريفة ومؤلمة عن الفنان الحموي عبدالله مراد الذي رسم تلك اللوحات وتلك الزخارف ذات الطابع العجمي. فقد قطع له اسعد باشا اصابع يديه بعد ان انهى عمله، كي يضمن ان لا يرسم شيئاً شبيهاً بعد ذلك. حرب مع الانكشارية تولى أسعد باشا ولاية الشام في ظروف صعبة. فالدولة كانت منهمكة بمصادرة اموال سلفه اسماعيل باشا العظم وعسكر الانكشارية المحلية علا سلطانهم فوق كل سلطان، حتى استبدوا بالناس وأساؤوا اليهم في اموالهم وأعراضهم وكرامتهم، واستهانوا بالباشا فأطلقوا عليه القاب السخرية والتحقير. والغلاء الفاحش انهك الناس حتى ثاروا وذهبوا يشكون الى أسعد باشا العظم، فأحالهم الى القاضي، فذهبوا اليه ورجموه ورجاله بالحجارة، ونهبوا المحكمة وهرب القاضي فوق اسطح المنازل. كانت الحاجة ماسة إذاً الى بسط النظام والأمن في المدينة. وقدر الباشا ان علة العلل تكمن في اختلال سلطة العسكر، فضرب الانكشارية بالقوبقول والدالاتية اصناف من الجيش العثماني، وأصبح عزيز الجانب مرهوباً من الصغار والكبار، و "عظم صيته حتى في البراري والقفار"، كما يقول البديري الحلاق في حوادثه اليومية، حتى هابته العشائر البدوية، فلم تجرؤ على اعتراض قافلة الحج الشامي طوال مدة حكمه الذي استمر 14 عاماً. وبعد ان فرغ الباشا من مشاكله السياسية عاد الى ولعه القديم، فشرع بإنشاء قصره الدمشقي العام 1750، مكان قصر الخضراء الذي بناه معاوية ثم هدمه. وانتهى من بنائه العام 1751 وقيل ان ما انفق عليه بلغ "اربعمئة كيس بخمسمئة قرش" كأجور عمال فقط، وكان عددهم ثمانمئة، عدا من سخرهم من الناس. ويروي البديري الذي أرّخ لتلك الحقبة، انه "جد في العمارة ليلاً ونهاراً، وأحضر 12 ألف عمود خشب، عدا ما اهداه اياه اعيان البلد. وأوعز الى الاطراف ان لا يباع القصرمل مادة قديمة شبيهة بالاسمنت الا اليه، وشغّل معظم بنائي البلدة ونجاريها ونقاشيها. وجلب البلاط من اكثر دور المدينة. وحيثما وجد بلاطاً ورخاماً وأعمدة وفساقي، كان يبعث من يقتلعها ولا يدفع ثمنها إلا القليل". ويواصل البديري: "كان هناك على مقربة من مقبرة البرامكة، فوق نهر بانياس قصر مهدّم، مطل على المرجة الخضراء، يقال له قصر الزهرانية، فأخذ انقاضه. وأخذ انقاض طاحون كانت على نهر بانياس في وادي كيوان، كما نقل من بصرى جنوب سورية أحجاراً وأعمدة من الرخام. وأخذ من مدرسة الناصر صلاح الدين في الصالحية اعمدة غلاظاً، وهدم سوق الزنوطية فوق حارة العمارة، وكان كله عقداً بالاحجار ففككه وأخذ احجاره، كما نقل احجاراً من جامع يلبغا. وأينما سمع ببلاط لطيف او اعمدة حسنة كان يأتي بها، بشراء وبلا شراء. وكان يشغّل العمال بكراء وبلا كراء". ويذكر المؤرخون انه خرب الكثير من آثار دمشق، كي يبني قصره الجميل الذي لم تطل اقامته فيه، فسرعان ما بدأ العد العكسي في حياة الوالي الجشع الذي لم ينج من بطش الباب العالي طويلاً، بعد قيام الاحتلال الفرنسي لسورية، اشترت حكومة الانتداب القصر وحولته مقراً للحاكم العسكري. وعند نشوب احداث ثورة 1925، دارت حوله معارك بين الثوار السوريين والقوات الفرنسية فأصابه الحريق، وكادت النيران تصل الى الجامع الاموي. ثم قامت الحكومة الفرنسية بترميمه، وجعلته مقراً ل "معهد الدراسات الاسلامية". وبعد الاستقلال تحول قصر العظم متحفاً للفنون الشعبية، وهو اليوم احد أهم معالم دمشق السياحية. أجمل خانات الشرق أما خان أسعد باشا الذي قارن الشاعر الفرنسي لامارتين قبته بقبب أجمل كنائس روما، فتبلغ مساحته حوالي 2500 متر مربع، وله بوابة رائعة الزخرفة ويتكون من 21 مخزناً في الطابق السفلي، و45 مخزناً في الطابق العلوي. باشر الباشا ببنائه في سوق البزورية فهدم قيساريتين القيسارية بناء تجاري متكامل، يوازيه هذه الايام السوبر ماركت، ودوراً ودكاكين في العام 1752. ويقول البديري إن الباشا صرف عليه في اليوم الواحد الفاً ومئتي قرش، اي ان كلفته الاجمالية بلغت اكثر من نصف مليون قرش. ويمكننا ان نتصور القيمة الفعلية للخان إذا عرفنا - كما يذكر المؤرخ عبدالقادر العظم في كتابه "ولاة دمشق في العصر العثماني" - ان القرش الواحد كان يكفي آنذاك لشراء رطل من السمن البلدي، او ستة ارطال من الخبز، او اربعة ارطال من الجبن الرطل اكثر من 2500 غرام. استمر العمل في بناء الخان 14 شهراً فقط، وهي فترة قياسية حتى في المعايير المعاصرة. وهو اليوم من مفاخر دمشق العمرانية، ويعطي فكرة واضحة عن مدى التقدم العمراني الذي عرفته المدينة في تلك الفترة، كما يقول الباحث أكرم العلبي. وقد زار لامارتين خان أسعد باشا فقال: "انه اجمل خانات الشرق، قبته ضخمة محمولة على عضائد من الغرانيت، والبركة والنافورة تلطف الجو". وأضاف الشاعر الفرنسي: "ان شعباً فيه مهندسون لديهم الكفاءة لتصميم مثل هذا الخان، وعمال قادرون على تنفيذ مثل هذا البناء، هو شعب جدير بالتنعّم بالحياة والفن". وفي اواخر القرن الماضي وصف المؤرخ الدمشقي نعمان القساطلي في كتابه "الروضة الغناء" الخان كالآتي: "انه يقسم الى قسمين، سفلي وعلوي وفي كل منهما حوانيت، بعضها كالقاعات ويقصده السياح للفرجة، ويظهرون الدهشة من اتقانه، وعلى بابه فسقيتان حسنتان يشرب منهما الناس وفي هذا الخان حوانيت أكابر التجار، وخصوصاً الذين يتاجرون مع العراق وبلاد العجم". وفي العام 1917 زاره الباحثان الألمانيان كارل فولزنغر وكارل واتزنغر ووصفاه وصفاً دقيقاً، وأبديا دهشتهما من حسن بنائه، ومراعاة المهندسين الذين صمموه ظروف الحرارة والبرودة والنور والضوضاء والجمال. ونقرأ في كتابهما عن آثار دمشق، ان "تجار دمشق اختاروا ساحة هذا الخان مكاناً لحفلة الاستقبال الكبرى التي اقيمت على شرف جمال باشا السفاح". اما الكونت الفرنسي دو باري الذي زار سورية في ربيع العام 1860 فكتب في مذكراته عن تلك الرحلة واصفاً خان اسعد باشا وصفاً ادبياً: "نصل أخيراً الى خان اسعد باشا حيث مخزن البائع المسيحي الذي كان اول من طالب بشرف زيارته". الصمت وعذوبة المناخ والنور الخافت جعلت من هذا الخان ملجأ ثميناً لا غنى عنه في هذا الطقس الحار. ومياه نبعه دافقة وعذبة للذين يصلون مثلنا مرهقين من سفر طويل. بالقرب من الركائز العريضة في هذا الخان، تنتظر جمال نشطة تبرك من دون حراك محملة بالبضائع الى مكة. وفيما يفرش زنجي بسطه الفارسية في زاوية خلفية، ينظر اليه رجلان جالسان بهدوء على منصة صغيرة، كأنه يمثل دور البائع والشاري. ان لمعظم التجار الوسطاء تقريباً مستودعات في احد خانات المدينة، حيث يجري تخزين البضائع فيها لحمايتها من السرقة او الحريق". وقد انتهى ترميم خان اسعد باشا منذ عامين تقريباً، وكان من المقرر ان يجري تحويله الى فندق شرقي وسوق للتحف على شاكلة خان الخليلي في القاهرة. ولكن الحديث يدور الآن عن الشروع في تحويله الى متحف للتاريخ الطبيعي، تعرض فيه نماذج نباتية وحيوانية وهياكل عظمية لإنسان ما قبل التاريخ! يعجب المرء في أمر هذا الباشا الذي قضى جل حياته وهو يبني القصور والخانات، ويجمع التحف والنفائس ومخطوطات الكتب، لكأنه كان يبحث عن سر الخلود. ذهب سلاطين بني عثمان، وذهبت اسماؤهم معهم، وبقي اسم اسعد باشا العظم محفوراً في ذاكرة الاجيال وعلى جدران الأوابد التي خلفها وراءه.